مقالات المنتدى

عن افتراءات الظالمين.. وافتضاح مكرهم د. مصطفى منور

عن افتراءات الظالمين.. وافتضاح مكرهم د. مصطفى منور

عن افتراءات الظالمين.. وافتضاح مكرهم
بقلم: د. مصطفى منور
لم يتوقف الطغيان يومًا عن الإفساد، ولا عن الفتك بكل وسيلة يجدها ممكنة بمن يخالفه أو يرفع صوته بكلمة حق. وحين يعجز عن مواجهة الحجة بالحجة، يمد يده إلى أقذر الأساليب: يضغط على القلوب، ويبتزّ المشاعر، ويستعمل القرابة والعائلة سلاحًا بالجبر والإكراه.

لم يتورع المفسدون عن سجن أقارب المخالفين، ولا عن التضييق على ذويهم، بل بلغ بهم الطغيان أن أرادوا من بعض الآباء أن يتبرأوا من أبنائهم، وأن يقولوا ما يبرر ظلم الظالمين. كل ذلك في مسرحية مكشوفة يعلمها الله قبل أن تُعرض على الناس.

فكم من كلمة خرجت تحت الإكراه، وكم من وجهٍ أُجبر على الظهور في مشهدٍ أعدّه الظالمون لستر خوفهم، لا لإظهار قوتهم.

لا يتورع الظالمون أبدا عن الافتراء على الله الكذب، فكيف بالافتراء على عبيده ممن هم تحت سطوتهم، ثم يظنون أن كلماتهم تُغيّر من الحق شيئًا. متناسين أن الله قد وعد بكشف مكر السوء وأهله، فقال جل شأنه:

“اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا” سورة فاطر: 43

وليس أشد ظلمًا من أن يُرغم المظلوم على تبرئة جلاده، أو أن يُجبر الوالد على التبرؤ من ولده المشفق، أو أن تُستخدم روابط الدم في محاولة لطمس الحقيقة. إذ أن ذلك أشد وطأة من السجن والسياط فهي تترك في القلوب ألما يعجز اللسان عن البوح به.

ولا يتورع الظالمون أن يجعلوا الدين شماعة لمكرهم ويبتدئون بياناتهم بآيات الذكر الحكيم، إلا أن وعد الله النافذ بأن مكر السوء لا يحيق إلا بأهله، فإنهم يستدلون بآيات لا يؤدي معناها إلا إلى عكس مقصدهم فقول الله تعالى “إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم” إنما وردت في سياق نهي الأبناء لآبائهم عن الجهاد ومدافعة الظلم، لا العكس.
ومتى يكون الولد صادحًا بالحق، فإنه يكون حينها مدعاة للفخر والمفاخر كلها، لا للبراءة والخذلان.

وقد أكثر المفسرون في بيان أن الولد لا يكون عدوًا لأبيه إلا إذا منعه من الجهاد والطاعات ومدافعة الباطل، فقال شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله:

يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم ) يصدونكم عن سبيل الله ، ويثبطونكم عن طاعة الله ( فاحذروهم ) أن تقبلوا منهم ما يأمرونكم به من ترك طاعة الله.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قومٍ أرادوا الإسلام والهجرة، فثبطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم.

ويعود ذلك إلى سبب النزول، كما ورد في كتب التفسير:

يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوٌّ فاحذروهم.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي ﷺ جفاء أهله وولده، فنزلت الآية. وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم، فنزلت الآية.
وروى الترمذي عن ابن عباس أن رجالًا من مكة أسلموا، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون النبي ﷺ، فلما أتوا المدينة ورأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية رحمةً بهم.

وقال مجاهد:

ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في تفسير الآية:

“هذا يبين وجه العداوة؛ فإن العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة”.

فالمعنى أن العداوة في هذه الآية لا تتعلق بالأبناء الصادقين الذين يقولون كلمة الحق، وإنما بأولئك الذين يصدّون عن طريقها. أما من يجهر بالحق وينصر العدل، فهو من صفوة الأبناء، لا من أعدائهم.

وفي الأخير: سيبقى الحق، وإن غُيّبت وجوه أهله. وسينكشف الباطل، وإن أُحكم إخراجه على الشاشات. وسيتبين للناس أن الإكراه لا يصنع اقتناعًا، وأن الصمت المفروض لا يطفئ نور الصدق ولا يؤخر اقتراب الوعد الحق.

وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ

ذلك وعد الله، لا يُخلفه، وإن طال ليل البهتان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى