كتاباتكتابات مختارة

طارق سويدان ونسبية الحقيقة

طارق سويدان ونسبية الحقيقة

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

في تدوينة له على صفحته ب(الفيسبوك) كَتَبَ الداعية الشهير الدكتور طارق السويدان منشوراً أثار ضجة كبيرة وردود فعل واسعة وحالة من الجدل المحتدم شغل بها الناس عمّا هم فيه من هموم بعضها خاصة – وما أكثرها – وبعضها عامة – وما أعظمها – يقول فيها: “الإسلام هو الحق المطلق، أما فهمي أنا للإسلام فهو ليس حقاً مطلقاً، لأني إنسان عقله محدود وعلمه قليل، ومتأثر بأهوائه وشهواته وخلفيته وبيئته وعوامل كثيرة أخرى؛ هل فهمك أنت للإسلام حق مطلق؟ وهل يوجد أي من العلماء المعاصرين أو علماء السلف فهمه للإسلام حق مطلق؟ بل هل يوجد أحد غير الرسول ﷺ فهمه للإسلام حق مطلق؟ أرجو إفادتي من فضلكم”!!

    ولعل الدكتور – وهو مَنْ هو في سعة اطلاعة – لا يجهل أنّ القول بنسبية الحقيقة من أخطر ما يواجهه الإسلام اليوم، وأنّ هذا القول يُعَدُّ أحد ركائز الفكر الحداثيّ الذي قامت عليه المدنية المعاصر، فالحقيقة نسبية، وكل شيء قابل للتغيير، حتى الأديان والعقائد، ومن ثم لا يوجد ثابت في هذه الحياة يستحق البقاء عليه، وكل جديد فهو الحق الذي يجب اتباعه، وكل سابق قديم هو الباطل الذي ينبغي اجتنابه، والتطور والتغير هو مناط الحكم على الشيء؛ فهل جاء كلام الدكتور في سياق غير هذا السياق المنافي تمام المنافاة للدين كله وعلى رأسه دين الإسلام؟ أم ما الخطب؟

    بداية يجب أن نقدم حسن الظنّ؛ فالدكتور السويدان ممن يستحقون ذلك بلا ريب، لكنّ هذا لا يعني ترك الكلام الذي أطلقه استرسالا مع إحسان الظنّ بالرجل، فإنّ نَقْدَ القول لا علاقة له بحفظ مقام القائل، والحقيقة التي لا مناص منها – فيما يبدوا لي على الأقل – أنّ الكلام الوارد في صفحته هو عين القول بنسبية الحقيقة، قصد ذلك أو لم يقصده؛ للآتي:

أولاً: القول بنسبية الحقيقة لا يعني انتفاء الحقائق في الكون والحياة، وإلّا فهناك من الحقائق العلمية الثابتة ما لا يجرؤ أحد في الغرب أو الشرق على إنكارها ولا القول بأنّ العلم بها نسبيٌّ، فلو أنكر أحد كروية الأرض أو دورانها لاتهمه القريب والبعيد والمثقف والبليد بالتجديف العبثيّ غير المفيد، فالمقصود في الأصل هو نفي الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة لا نفي وجود حقيقة مطلقة على الإطلاق، وإذا كان الفكر السوفسطائي قديما – ولاسيما العنادية منه – قد اشتط فادعى انتفاء الحقيقة؛ فإنّ إجماع العقلاء منعقد على أنّ السوفسطائية برمتها حالة مرضية في تاريخ الفكر الإنسانيّ، وحمّى جدلية لا يصح اتباعها ولا التعويل عليها؛ فالقول بنسبية الحقيقة والقول بعدم امتلاك أحد للحقيقة صنوان لا يفترقان.

ثانياً: القول بعدم امتلاك أحد للحقيقة المطلقة يؤول في الواقع إلى الشكّ في الحقيقة ذاتها؛ لأنّ هذا التعميم في النفي يعني أنّ الشك يحيط بالحقيقة من كل جانب؛ وهذه هي النسبية بكل ما تعنيه الكلمة، فلو ضربنا مثالا للحقيقة بخبر ورد عن ووقوع جريمة ما، وكانت نتيجة البحث والتحري والاستقصاء أنّ أحدا لا يدري شيئا عن هذا الخبر على وجه اليقين: هل وقعت هذه الجريمة فعلا؟ ومن الفاعل؟ وأين وكيف؟ لا أحد يملك اليقين حول هذا الأمر كله بكافة تفاصيله؛ فإنّ الشك العقيم هو النتيجة الطبيعية لعدم امتلاك أحد للحقيقة في هذا الخبر.

ثالثا: وقياسا على المثال السابق: لو قال قائل إنَّ أحدا لا يملك الحقيقة المطلقة فيما يتعلق بالولاء للكافرين ومظاهرتهم على المؤمنين، أو فيما يتعلق بأنّ الإسلام لا يقبل الاندماج مع ملة أهل الكتاب، وأنّ هذه القضية أو تلك لا يعلمها يقينا إلا رسول الله لكونه صاحب الرسالة الموحى إليه بها، وأنّ أحدا من العلماء لا يملك الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة في أيّ من هذه القضايا، فإنّ هذا يعني أنّ هذه الأمور نسبية يحيط بها الشك إحاطة الليل البهيم بآثار ديار متناثرة في صحراء عمياء؛ وعندئذ يسوغ للدكتور طارق – وحاشاه – أن يقول بجواز التطبيع مع الكيان الصهيونيّ وبأنّه لا مانع من دعم مشروع الدين الإبراهيمي الجديد الذي يستهدف توحيد الأديان الثلاثة ودمجها في دين واحد.

رابعاً: المنظرون الجدد للفكر الحداثيّ يتحدثون عن نسبية الحقيقة وعن عدم امتلاك أحد للحقيقة المطلقة في سياق واحد؛ باعتبارهما شيء واحد، فهذا على سبيل المثال “محمد عابد الجابري” في سياق حديثه عن التسامح الفكريّ يقول: “الفلسفة هي أكثر المجالات استعدادا لقبول التسامح والعمل به؛ فالبحث عن الحقيقة لا يعني امتلاكها، وما دام المرء يبحث عن الحقيقة ولا يدعي امتلاكها فهو بالضرورة يعترف بالتعدد والاختلاف … إن الفلسفة بهذا المعنى ميدان للاجتهاد … كما أنّ اعتماد الشك في التفسير الفلسفيّ والأخذ بنسبية الحقيقة هو التسامح بعينه””([1])، فهو هنا – وبغض النظر عن صحة السياق من عدمه – يتحدث عن الأمرين في سياق واحد متصل، وهذا هو الذي يهمنا هنا، ولو أنّ المقام يتسع لأسهبت في ذكر أمثلة أخرى مشابهة، فهذا يعني أنّ أصحاب القول بنسبية الحقيقة استعملوا في سياق اقناعهم بها وتنظيرهم لها ذات الجمل التي وردت في كلام الدكتور طارق حفظه الله.

    والمشكلة في كلام الدكتور تكمن في التعميم، فهو يتحدث عن الإسلام؛ فالإسلام في ذاته حق مطلق، لكنّ فهم كل واحد من المسلمين للإسلام ليس حقا مطلقاً، وهذا التعميم خطأ فاحش، ومنزلق خطير؛ إذ يفضي إلى جعل كل حقائق الإسلام من خَبَرٍ وأَمْرٍ عرضة للتغيير، ويعرضها جميعها لاختلاف العقول والأفهام والآراء، دون تفريق بين ثوابت مجمع عليها أو معلومة بالضرورة يجب الإيمان بها والعمل بمقتضاها، وبين موارد اجتهاد تختلف فيها الآراء وتتباين فيها الاجتهادات ويقع فيه التسامح الذي يعدّه المنظرون لنسبية الحقيقة ثمرة أخلاقية لهذه النسبية.

    فما هو الحق في هذه المسألة البسيطة التي يأبى الغلاة المتكلفون إلا أن يطلسموها ويلحقوها بالمعضلات الفلسفية؟ ولكي تضح لنا الحقيقة وينجلي عنها الغبش الطارئ لابد من استبعاد تلك المصطلحات المفخخة الملتبسة، والعودة إلى المصطلحات القرآنية والشرعية، فالقرآن الكريم هو الذي تولى هذه القضية وبينها بيانا واضحا لا لبس فيه ولا إبهام، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة آل عمران: 7]. ومعنى الآية بإيجاز هو أنَّ الله تعالى أنزل القرآن الكريم على نحو غاية في الحكمة؛ فمنه آيات محكمات “بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أُخَرُ فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم؛ فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس”([2]).

     ولأجل البيان والبلاغ كانت الآيات المحكمات ” أم الكتاب ومعظمه”([3])، فقد “سماهن أمّ الكتاب لأنهن معظم الكتاب”([4]) وهذا ما يجهله أو يتجاهله الكثيرون، وقد أفاض الإمام الشاطبيّ في التدليل على ذلك في الموافقات، فبعد أن قرر المعنى اللغوي المستند إلى أنَّ أمَّ الشيء معظمه وعامُّه؛ استطرد مستدلاً بأنَّ المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى، ثمّ – على طريقته التي تميز بها – طفق يعتمد على الاستقراء؛ ليقرر أنَّ الشريعة قد اتسقت أحكامها، وانتظمت أطرافها على وجه واحد([5])؛ بما يستلزم غلبة المحكم على المتشابه.

    وإذا كان المفسرون قد أوردوا عن السلف أقوالا في تفسير المحكم بينها شيء من الاختلاف ويبدو عليها جميعا التضييق من دائرة المحكم؛ فإنّ السلف لم يقصدوا التعريف الجامع المانع للمحكم، ولم يقصد واحد منهم الاستقصاء، وإنّما قصد كل واحد منهم ذكر مثال للمحكم يقاس عليه، وهذه طريقة عند السلف يعرفها من تتبع أقوالهم، لذلك قال عطية تعليقا على ما ورد عن ابن عباس: “وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات”([6]).

   فالقرآن منه آيات محكمات هن أم الكتاب أي أصل الكتاب ومعظمه، والآيات المحكمات تنتج بلا ريب حقائق من الخبر والأمر محكمات راسيات، وقل مثل ذلك أو قريبا منه في السنة، بما يعني أنّ المحكمات في الإسلام كثيرة ووفيرة ومنتشرة في الأبواب وهي تمثل أعمدة خيمة الإسلام وأوتادها، فهذه المحكمات الواضحات الراسيات بما تشتمل عليه من مسائل معلومة بالضرورة وأخرى مجمع عليها وإن لم تكن بمرتبة المعلوم بالضرورة وثالثة قرر العلماء بأنها مما لا يسوغ الخلاف فيها لوضوح أدلتها وشذوذ الرأي المخالف فيها، هذه المحكمات تفيد اليقين وتوجب العلم والعمل.

    أما المتشابهات التي تنتج موارد اجتهاد فهي تفيد الظن الغالب، وهي موضع التسامح ومحل العذر، أمّا التقسيم إلى مطلق وغير مطلق فهذا تقسيم محدث يراد به فتح الباب للتلاعب بالدين، وما كان من قبيل المحكم ولا سيما المعلوم بالضرورة لا يقال فيه إنه كذلك حسب فهم من فهمه على هذا النحو لا حسب فهم من لا يفهمه على هذا النحو، فهذا مدخل القول بنسبية الحقيقة، وهو من أخبث الأقوال.

     وقد أنزل الله القرآن الكريم بهذه الأوصاف البَيِّنَةِ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89) (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185) (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (إبراهيم: 52) (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44) (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (الشورى: 17).

    فالقرآن أُنْزلَ تبيانا وبيانا وبلاغا وفرقانا وهدى وميزانا وحجة على العالمين؛ فكيف تقوم به الحجة، وبتم به البيان والبلاغ، ويكون هدى وبينات وفرقانا ورحمة إذا كان كل إنسان يفهمه على نحو لا يفهمه عليه الآخرون؟! إنّ هذا لهو الخرف بعينه، بل هو الانحراف والزيغ الذي حذرت منه الآية الكريمة، وأحسب الدكتور – حفظه الله – بعيدا عن الزيغ والخرف، ولكنها كبوة جواد، غفر الله لنا وله.


(1) قضايا في الفكر المعاصر – محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – طبعة أولى 1997م صـــ 20

(1) تفسير القرآن العظيم – أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير – دار الكتب العلمية، محمد علي بيضون – بيروت – الطبعة: الأولى – 1419 هـ  2/4

(13) الاعتصام – إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي – دار ابن عفان، السعودية – ط: الأولى، 1412هـ – 1992م  –  1/ 71

(14) جامع البيان في تأويل القرآن – أبو جعفر محمد بن جرير الطبري – مؤسسة الرسالة – ط: الأولى، 1420 هـ – 2000 م  6/ 170

(15) راجع: الموافقات – إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي – دار ابن عفان – الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م 3/ 307-308

(6) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز – أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة: الأولى – 1422 هـ 1/400

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى