تقارير وإضاءاتكتب وبحوث

صدر مؤخراً.. “الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الإسلامية” كتاب جديد للعلاّمة أحمد الريسوني (حوار)

صدر مؤخراً.. “الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الإسلامية” كتاب جديد للعلاّمة أحمد الريسوني (حوار)

سعى فضيلة الشيخ أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – من خلال كتاب “الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الإسلامية” إلى بيان سماحة الإسلام ووحدة المسلمين، والوحدة الدينية والثقافية والاجتماعية بينهم، على اختلاف أعصارهم وأمصارهم وقومياتهم وظروفهم وأحوالهم، وعبر ذلك التشكل العجيب المدهش لعدد محدود من الاختيارات المذهبية، الوسطية المعتدلة، التي تُلُقيت من معظم الأمة وعلمائها بالقبول والثقة، في مناهجها وغالب نتائجها.

كما عرّف الاختيارات المذهبية، وأهميتها قديما وحديثا، ومدى حاجتنا اليوم إلى استثمارها والبناء عليها، وتجديدها وإصلاح أعطابها وسد ثغراتها وتعبيد طريقها.

وعَرِّج الريسوني على مواقف العلماء والدعاة في هذا العصر من تلك المذاهب، وكيف يقيمونها ويحكمون عليها ويتعاملون معها، وما هو الموقف البناء الرشيد في التعامل معها ومع إرثها وآثارها.

وقد حاور المكتب الإعلامي للاتحاد فضيلة الشيخ حول مؤلفه وانتاجه العلمي الثميّن، والذي بدوره رحّب مشكورا ومأجورا، فإليكم الحوار..

فضيلة الشيخ: ما هو مشروع هذا الكتاب وموضوعه؟

الريسوني: أولاً أشكر موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين وأشكرك أستاذ خالد على هذه العناية وبارك الله جهودكم.

بالنسبة لهذا الكتاب “كتاب الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الإسلامية”، يتحدث عن الاختيارات الدينية وليس عن الاختيارات السياسية أو على الأقل التي بدأت سياسية وأصبحت فيما بعد عقائدية أو فكرية، فهناك مذاهب سياسية لم أتطرق إليها، فقد كان للأمويين مذهب سياسي ونظريات ومقولات سياسية أقاموا عليها دولتهم، وكان لبني العباس كذلك مقولات وتأسيسات أقاموا عليها حركتهم ودولتهم وحكموا بها، وأيضا التشيع نفسه بدأ حركة سياسية، والخوارج حركة سياسية، وهذه الحركات السياسية ليست هي ما أعنيه، لذلك قلت في العنوان “الاختيارات الدينية” أي التي اختارها العلماء وتبعها جمهور المسلمين واعتبروها مجسدة لدينهم و تديّنهم. الكتاب يتناول هذه الاختيارات الدينية ثم بالضبط الاختيارات الدينية الكبرى أي ليس الاختيارات الدينية المحليّة محلية في الزمان أو في المكان؛ أو التي انقرضت وإنما الاختيارات التي انتشرت في الأمة، تجاوزت الحدود الجغرافية والحدود القومية إلى أن تكون مذاهب موجودة ومنتشرة في الأمة على تفاوت بين هذه المذاهب لكنها مذاهب خرقت الحواجز والتصنيفات القبلية، والعرقية، والجغرافية. هذه هي المذاهب التي أعنيها يعني انتشرت في مجمل الأمة أو على نطاق واسع في أقطارها وشعوبها.

ثم كذلك هذه الاختيارات الدينية امتدت على أزمان وقرون إلى الآن، فهي ليست ظاهرة زمنية محدودة، وإنما لها رسوخ زمني يؤكد قبولها لدى أجيال الأمة بمختلف عصورها وبمختلف دولها وتقلباتها.. فإذا هذه هي المعايير والمواصفات التي بمقتضاها حددت هذه الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الإسلامية.

لماذا هذه الاختيارات والحديث عنها؟ لأنها كما ذكرت عابرة للقارات، عابرة للحدود، عابرة للقوميات، عابرة للزمان.. فهذه المذاهب والاختيارات التي أتحدث عنها تشكلت وبدأت وجودها ونشأتها منذ القرن الثاني الهجري، وكلها ما زالت موجودة إلى الآن، بدأت في القرن الثاني واستمرت تنمو في القرن الثالث ثم استمرت وصمدت إلى الآن.

فإذا لماذا صمدت هذه المذاهب؟ لماذا انتشرت؟ ولماذا لقيت القبول؟ ولماذا توحد المسلمون حولها والتفوا حولها وحول أئمتها وعلمائها ورموزها؟ هذا شيء يستدعي منا أن نأخذ منه العبرة لأننا نحن اليوم نعيش في زمن لا تستقر فيه الأمة، بل شعب من شعوبها، بل طائفة من طوائفها على شيء مما ظهر في هذا العصر من الدعوات والايديولوجيات، والتيارات، فهناك دعوات كثيرة ولكن إمّا منحصرة في أماكن معينة، إما أنها تمتد لعشرات السنين ثم تبدأ في الانكماش، إما تجد حولها اختلافاً شديداً وتنازعاً، بينما هذه الاختيارات التي تحدثت عنها في هذا الكتاب استمرت واستقرت واستتبت على مدى قرون وقرون فما هي أسرار ذلك أو ما هو سر ذلك؟ وما الذي أعطاها هذه القوى وهذا الرسوخ؟ هذا مما يدعو الى التفكير ودعاني إلى التفكير من عشرات السنين إلى أن تيسر لي أن أكتب عن هذه الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الإسلامية.

السؤال: متى تم إنجاز فكرة الكتاب؟

الريسوني: فكرة كتاب قديمة ولكنها ألحت عليا في السنين الأخيرة خاصة مع ظهور تيارات تعادي هذه المذاهب وهذه الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الإسلامية.

الاختيارات الكبرى عبر التاريخ شُنّت عليها حملات تشويه وتشكيك وطعن هذا كان مما يحز في النفس ويدعوني إلى التفكير في معالجة هذه القضية، فإذن هذا الهجوم الذي اشتد كان من دواعي التفكير في هذا الكتاب في السنين الأخيرة، وإلا فالفكرة قديمة تفكير في أهمية هذه المذاهب، والقيمة التاريخية لها، والقيمة الحضارة لها، والدور الكبير والفضل الكبير الذي أسدته للأمة الإسلامية عبر تاريخها لكن اشتدت الحاجة في نظري إلى كتابة شيء في هذا الموضوع بعد الهجمة الشرسة على هذه المذاهب، فبدأ يقوى التفكير وكتبت بعض المقالات وصدرت عني بعض التصريحات في حوارات حول هذا الموضوع وصرت أتكلم فيه بين الفينة والأخرى وفي محاضرات وغيرها ولكن جاءت فرصة للكتابة وهذه الفرصة هي وباء كورونا.

لما جاء وباء كورونا في أوائل سنة 2020 تقلصت تحركاتي وأسفاري وتقريباً اختفت الزيارات وحتى التدريس صار عن بُعد وهذا وفر وقتاً وسمح لي بالتفكير وفي اغتنام هذه الفرصة.

فعلا الفكرة كانت جاهزة وناضجة تنتظر فرصة الولادة فلما جاءت هذه الظروف المساعدة بعد الاحترازات والاجراءات والحجر والاغلاق الخ فهذا وفر لي وقتاً وهدوءً فعكفت على الكتاب في شتاء وربيع 2020م وأذكر أنني انتهيت منه في يونيو 2020 ودُفِعَ إلى بعض الأخوة لمراجعته داخل كلية الشريعة بقطر وغيرهم، واستمر ذلك أخذ بضعة أشهر من المراجعات ومن الملاحظات التي وردتني ثم خرج الكتاب في صيغته النهائية والآن طُبِعَ الكتاب وصدر عن “دار الكلمة” وأن كُنت لم أتوصل بعد لأي نسخة منه، فالكتاب الآن موجود وُلِدَ لكنه لم ينتشر هو أيضا يتضرر من ظروف الوباء التي ما زالت جاثمة، فحركة التوزيع قليلة وزيارة المكتبات أيضا قليلة ولكن أخذ طريقه على كل حال إلى المكتبات والجمهور شيئا فشيئا.

فضيلة الشيخ: ما المقصود بالاختيارات الثمانية في هذا الكتاب؟

الريسوني: نعم هذه الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الإسلامية عبر التاريخ حصرتها في ثماني اختيارات وهذه الاختيارات أقصد بها:

أولاً: المذاهب الفقهية الأربعة: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي هذه أربعة، ثم المذاهب العقدية الثلاثة وهي: المذهب الأشعري، والمذهب الماتريدي، ومذهب أهل الحديث وقد يسمى أيضا المذهب الحنبلي باعتبار أن الإمام البارز أو الأبرز في هذا الاتجاه والتوجه هو الامام أحمد بن حنبل رحمه الله ورحم جميع أئمتنا، هذه سبعة: أربعة مذاهب فقهية، وأربعة مذاهب عقدية، وأضفت إليها التصوف، لأن التصوف ليس مذهب كلامياً أو فقهياً، ولكنه مذهب على كل حال واختيار وتوجه ونمط في ممارسة التدّين ونشره وفي العناية به، وهو شي متميز موجود في تاريخ الأمة كما ذكرت من القرن الثاني والثالث وله مميزاته الفكرية والتربوية والمنهجية وهو أيضاً تنطبق عليه المواصفات التي ذكرتها من قبل وهو أنه ممتد في الزمان والمكان، ممتد في مختلف الشعوب والأعراق المسلمة، إذن هو اختيار من هذه الاختيارات الكبرى وهو من أكبرها ومن أكثرها انتشاراً منذ ظهر إلى الان، إذن هو اختيار تبناه عددٌ لا يحصى من العلماء وكافة الشعوب الإسلامية، لذلك كان هو الاختيار الثامن ضمن هذه الاختيارات الدينية الكبرى للأمة الاسلامية، فهذا هو المقصود بهذه الاختيارات الثمانية على وجه التحديد.

فضيلة الشيخ: ينفر بعض طلبة العلم من مصطلح علم الكلام هل هناك ما يدعو إلى هذا النفور؟

الريسوني: نعم يوجد نفور من “علم الكلام” ومن مصطلح علم الكلام، بل نقول يوجد تنفير من هذا العلم ومن هذا التخصص ومن هذا الإرث الفكري والثقافي للمسلمين، هناك حملات ضده من قديم، علم الكلام له خصومه وخصومه أحيانا من داخل الساحة الإسلامية ومن المذاهب الأخرى، ولكن مع ذلك لابد لنا من إنصاف علم الكلام وإنصاف كل المذاهب وكل تراثنا، طبعاً الآن كما هو معروف وكما أوضحته في الكتاب بشكل مطول ومفصل المدرسة الوهابية أو السلفية المعاصرة كما يسميها البعض “سلفية القرن العشرين” هي التي تشنّ حملات شديدة جداً وشرسة ضد علم الكلام ومذاهبه وخاصة المذهبين الذين ما زالا قائمين هما: (المذهب الأشعري ، والمذهب الماتريدي) والحملات قد تصل إلى التكفير وفي أقل الأحوال تصفُ -علم الكلام، وتصف المذهبين- بالضلال والبدعة وبالانحراف وبكونهم من الفرق النارية -أي التي تملؤها النار- بينما هم من الفرق الناجية، إذن هناك حملات يعني النفور من علم الكلام ليس بريئاً، نعم هناك نفور طبيعي عند الشباب اليوم من المسائل المعقدة -المسائل التراثية المعقدة- أو التي لم يُعد لها تأثير ووجود وفائدة كبيرة في حاضرنا وفي زمننا، هذا قدر من النفور الطبيعي إذا استثنينا أهل الاختصاص والدارسين، نعم هناك نفور لإن علم الكلام فيه تعقيدات وفيه سجالات وفيه نقاشات لم يعُد لها وجود أو لم يعد لها كبير أثر، ولم تعد كثير من مصطلحات المتكلمين تُفهم اليوم، لا تُفهم ولا تُتَفهّم هذا نفور طبيعي وإعراض طبيعي ومعقول ومشروع.

ولكن هناك أيضا تنفير يصل إلى حد التكفير هذا غير طبيعي وهذا من أسباب كتابة هذا الكتاب لإنصاف علم الكلام وخاصة مدرستيه السنيتين المعتدلتين المهتديتين إن شاء الله -المدرسة الأشعرية، والمدرسة الماتريدية-.

نحن في جميع قضايانا التاريخية والفكرية والثقافية لا يجب أن نسقط في خطأ منهجي كبير يقع فيه كثير من المعاصرين وهو محاسبة القدماء ومحاكمتهم بمقتضى معاييرنا وظروفنا وزماننا هذا خطأ يجب إذا أردنا أن نحاكم القدماء ونحاسبهم ونقيم أعمالهم علينا أن نرحل إليهم ونضع أنفسنا في سياقهم الزماني والمكاني والسياسي والثقافي والاجتماعي وهناك ونحن بين أظهرهم نحاكمهم فستختلف النتائج حتماً، اليوم كثير من الناس يحاكمون الأوضاع السياسية القديمة بمعايير حقوق الإنسان ومعايير الديمقراطية أو معايير الظاهرية الجديدة الخ.

إن من أغراض هذا الكتاب ومن سماته المنهجية أن يضع نفسه في سياق هذه المذاهب التي تحدثت عنها من تصوف ومن مدارس كلامية ومن مذاهب فقهية فيقيمها في زمنها وظروفها وثقافتها لأن هذه المذاهب هي كلها من فقه الدين، الدين هو الكتاب والسنة ولكن هذه المذاهب كلها هي فقه الدين، التصوف هو فقه للدين، وعلم الكلام بكل مدارسه هو فقه للدين، والمذاهب الفقهية هي فقه للدين، وفقه الفقهاء وفقه العلماء طبعا كما قال السلف وقال الأمام مالك خاصة “كل واحد يأخذ منه ويرد”، ولكن طبعا يجب أن نقيم لكن واحد وزنه وأن نستفيد منه ونميّز بين أمور ظرفية ثقافية وسياسية ظرفية، وبين أمور جوهرية يجب المحافظة عليها فعلم الكلام كغيره من المذاهب والمدارس القديمة سواء كانت حنبلية أو شافعية أو ماتريدية يعني فيه ما يؤخذ وما يرد ولكن بالخصوص أقصد فيه أمور جوهرية لا تتغير لأنه على العموم هو تعبير عن العقيدة الإسلامية وبيان للعقيدة الإسلامية وهذا البيان فيه أمور هي نفسها ما في القرآن والسنة وفيه أمور اجتهادات وتفسيرات هي التي نقول يؤخذ منها ويرد، فلذلك علم الكلام يجب انصافه كما يجب انصاف بقية المذاهب الاسلامية دون أن نفرّط ودون أن نفرط.

السؤال: فضيلة الشيخ: هناك أيضا مصطلح آخر يثير الجدل والنفور: التصوف والصوفية.. هلا تكرمت بالتفصيل في حقيقة التصوف؟

الريسوني: نعم التصوف أيضاً من الاختيارات والمصطلحات التي نالها شيءٌ كثير من الحملات وخاصة من المدرسة السلفية المعاصرة أي الحركة الوهابية، وربما ما نال التصوف هو أشدُ بأساً مما أصاب علم الكلام أو أصاب الأشاعرة والماتريدية، وها هنا أيضاً نجدُ خلطاً شديداً وتعميماً وطمساً للحقائق، والتركيز على نُتفٍ منتقاة من التصوف ومن تاريخه ومما حُسبَ عليه وجعلُها رغماً عنها هيا التصوف وهي التي تمثل التصوف مع تجاهل تام للقيمة التاريخية والقيمة الدعوية والقيمة التربوية لهذا التصوف.

التصوف باختصار شديد حسب ما يناسب المقام هو: “عبارة عن العناية بالتربية الدينية والتزكية السلوكية”، الصوفية الأوائل كان هذا همهم وهذا هاجسهم لأنهم رأوا أن الإسلام ينتشر ويدخل الناس فيه افواجا وشعوبا وقبائل ودولته تتمدّد وقوته تترسخ ومع ذلك أبصروا ما لم يبصره غيرهم وهو: “أن التّدين في العمق وفي الجوهر يضعف ويتراجع ويصبح شيئا فشيئاً تدينا مظهريا وسطحيا أو عدم التدين أصلا في هذه الفئات”، -مثلا حينما يتحدث الفقهاء وغيرهم عن انتشار الخمور واستخفاف الناس بها وبعقوبتها، وحينما يتحدث الفقهاء والعلماء عن افتتان اناس بمباهج الدنيا وزينتها خاصة في العصر العباسي- ها هنا يتحدثون عن هذا ولكن كانوا يقفون مكتوفي الأيدي أقصد الفقهاء والمحدثين والمفسرين انشغلوا بتخصصاتهم العلمية الصرهة، ولكن تدين الناس وأخلاقهم وبواطنهم وآدابهم وعبادتهم ومراقبتهم لله تعالى هذه الأمور اُهملت شيئا فشيئاً أو قل الاهتمام بها شيئا فشيئاً فتصدى لها الصوفية، يعني يفعلّون ويحشدون العقائد ويشغّلون بفعالية أيضاً العبادات وخاصة منها الذكر واعتنوا بالأخلاق و الآداب عناية كبيرة وتخصصوا في هذا.. هذا هو المهم لماذا ظهر التصوف أو نشأ شيء اسمه التصوف ثم الطرق الصوفية لأجل التفرغ والتخصص، والتفرغ والتخصص:

أولاً يعطي للقضية أهميتها إذا أردت العناية بأهميتها فأجعل لها تخصصاً وأجعل لها أناسا متخصصين وإذا بقيت ضمن غيرها قد لا ينالها شيء وقد لا ينالها ما تستحقه وقد تصبح نسيا منسيا، فلذلك التخصص يعطي الأهمية والعناية والتركيز على الأمر الذي وقع فيه التخصص.

ثانياً التخصص يراكم الخبرات والمهارات ويُنمّي فقه المسألة فلذلك الصوفية أصبحوا خبراء في معالجة النفوس ومعالجة ضعف التدين ومعالجة سوء الأخلاق فهذا هو التصوف في حقيقته.

التصوف اعتراه ما اعتراه نعم هذا يقال في كل الاختيارات الأخرى اعتراها ما اعتراها، الآن حتى السلفية اعتراها ما اعتراها ولذلك نُضطر أن نتحدث عن السلفية الوهابية أو سلفية القرن العشرين لأننا أمام صورة مشوهة للسلفية، إذن اعتراها ما اعتراها لأسباب سياسية واجتماعية وهكذا المذاهب كلها يمكن أن تتعرض لنوع من الاستغلال ونوع من الغلو ونوع من الضلالات أو الجهالات  تدخل في الفقه وتدخل في علم الكلام وتدخل على كل المذاهب، ولذلك كما اشار الحديث الشريف: (أنه تأتي علينا فترة من الزمان هي فترة خير وفي هذا دخن)، فإذن الدخن يصيب الفقهاء ويصيب الحكام ويصيب المحدثين وقد كتب من كتب من العلماء في تلبيس ابليس وفي زغل العلم يعني انحرافات واختلالات تصيب الجميع، فإذن حينما يصاب شيء من اختياراتنا ووجوه تديننا حينما يصاب بخلل وزلل فالتصرف الطبيعي هو أن نصلحه وليس أن نعدمه وليس هو أن نشوهه أكثر فأكثر فإذن هذه الاختيارات الثمانية كلها أصابها ما أصابها وهي عرضة اليوم وفي كل وقت لأن يصيبها شيء من الخلل في زمان معين على أيدي أشخاص معينين لا يكونون في مستواها فهما وتمثلا، فإذن هذه الحالة كما الححت في الكتاب واعتبرت هذا هو مذهب الجمهور من العلماء اليوم هو الدعوة إلى إصلاحها وإلى مراجعتها وإلى تنقيتها وإلى التجديد فيها فهيا بحاجة إلى تجديد وبحاجة إلى اجتهاد، ولكنها في مجملها تجسّد ثوابت وجواهر وكنوزا في تاريخنا هذا يقال في علم الكلام وفي التصوف وفي مذهب أهل الحديث أو ما يسمى بالسلفية في كل ذلك يحتاج إلى مراجعات مستمرة، وأحسب أن كثيرا من السلفيين اليوم خاصة من ذوي العلم يقومون اليوم بمراجعات ويتبرون من مقولات وسلوكيات تمارس باسم السلفية فهذا يقال عن التصوف نتبرأ من هذه المقولة ومن هذه العبارة ومن هذا النموذج ونبرز هذا هو الإنصاف والعدل ونبرز الذين يجسدون التصوف في ابهج وأبهى مظاهره وأتم صوره.

السؤال: فضيلة الشيخ تعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الحركات التصحيحية التي نشأت في الجزيرة العربية؟ هل ثمة عناصر جوهرية في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب غير جانب تصحيح العقيدة ومحاربة الشرك؟

الجواب: دعوات الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، قامت بجهود إصلاحية وتصحيحية تهم خاصة ما كان شائعاً من بدع وخرافات وشعوذيات وقد يصل بعضها للمس بالعقيدة والإيمان هذه كانت قضيتها المركزية، ولكن أنا أعتقد أن الميزة الكبرى والفضل الأكبر لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وامتداداتها إلى اليوم هو تركيزها الشديد على مرجعية الكتاب والسنة على المرجعية العليا الكتاب والسنة وعلى التمسك بالسنة بصفة خاصة هذا الشيء مهم في عالم المسلمين الذي ربما بلغت فيه المذهبية درجة من الانغلاق والتعصب والتمسك بالتراث المذهبي بحذافيره، فالغلو المذهبي يناسبه هذا التركيز على الكتاب والسنة وعلى المرجعية الكتاب والسنة وعلى اقتفاء السنة آدابها وأحكامها هذا الشيء أسهمت المدرسة الوهابية في إحيائه وتقويته في صفوف المتدينين بصفة عامة، وإن كان هذا أيضا يؤخذ عليه أنه وقع التركيز على السنة وأقوال السلف أكثر بكثير من التركيز على القرآن الكريم هذه المسألة تذكر على كل حال لأنها تدخل في السياق الذي أتحدث فيه.

ولكن الحركة الوهابية في مواقفها الفقهية ومواقفها من المذاهب ومن التراث الإسلامي وحتى من عموم الناس اتسمت بكثير من الخشونة والشدة والعنف اللفظي والفكري في إصدار الأحكام والتفكير والتبديع والتظليل يعني خشونة شديدة وحدة وإفراط في الخصومة وبثّ العدوات والشنئآن يعني إقصاء جمهور المسلمين من دائرة التوحيد ومن دائرة السنة هذه هي المشاكل التي أثارتها الحركات الوهابية في تطوراتها وتشكلاتها والتحامها الذي ضرّ بها أيضا واستفادت منه وتضررت به في التحامها مع الواقع السياسي في المملكة العربية السعودية.

فلذلك الحركة الوهابية إن أرادت وأراد القائمون عليها أن تستمر وتنفعل لابد من تهذيبها ولابد من مصالحتها مع المذاهب والاختيارات الإسلامية ومع جمهور العلماء وجمهور المسلمين، لأن الحركة الوهابية حركة تصادمية وتحتاج أن تصبح حركة تصالحية وشيء من هذا وارد في هذا الكتاب كتاب فيه نقد الحركة الوهابية وموقفها من الاختبارات الثمانية وإجحافها وغلّوها في معادات هذه الاختيارات، أو خاصة منها معاداتها للأشرعية والماتريدية والتصوف، عموما حتى بقية المذاهب تتعامل معها بما يليق بمكانتها وفضلها.

فضيلة الشيخ: هناك حركات تصحيحية دعوية كثيرة نشأت في القرن التاسع عشر والعشرين منها دعوة الشيخ الخطابي في المغرب والشيخ ابن باديس بالجزائر، وحركة الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا في مصر وحركة الشيخ أبو الأعلى المودودي في شيه القارة الهندية هل تطرقت لها في كتابه؟

الريسوني: كما ذكرت في أول هذا الحديث فالكتاب يتناول الاختيارات الدينية الكبرى عبر التاريخ وليس الاختيارات المعاصرة ولا الاختيارات الكبرى المعاصرة ولا الحركات المعاصرة، لأن المعاصرة ربما بعضها بدأ ينقرض في زمن أصحابه وقد ينقرض فيما بعد وبعضها انتشاره محلي وبعضها تأثيره مازال هامشيا في المجتمعات الإسلامية، فهذه الحركات التي ذكرتها هي نفسها أعتبرها انبعاثاً للاختيارات الثمانية أو لبعضها التي يدور حولها هذا الكتاب.

هذه حركات إصلاحيات تصحيحية ولكنها ليست من صميم غرض الكتاب ربما ذكرها ورد مجملا وليس مفصلا حين حديثي عن موقف جمهور العلماء من المذاهب الثمانية لأنني ميزت في الموقف من هذه المذاهب الثمانية بين موقف الحركة الوهابية المتسم بالاحتقار والهجوم على هذه المذاهب وانتقاصها -خاصة كما ذكرت الأشاعرة والماتريدية والصوفية- وتجاوزها عموما وتجاهل هذه المذاهب كلها بدعوى الاجتهاد والانطلاق من الكتاب والسنة لا غير إلى آخره.

لكن الحركات الأخرى الإسلامية التي ظهرت في مختلف أنحاء العالم الإسلامي بما فيها جنوب شرق آسيا وبما فيها دول البلقان وبما فيها دول إفريقيا، هذه كان موقف هؤلاء العلماء والدعاة المصلحين إيجابيا وتصالحيا واستثماريا للخيارات الثمانية، التعامل معها واعتمادها والاعتراف بفضلها والانطلاق منها، هذا هو مذهب هذه الحركات، فإذن ورد ذكره على هذا الأساس ولكن لم أخصها بالحديث هذه الحركات المعاصرة التي أشرت إليها.

المصدر: المكتب الإعلامي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى