إصدارات دينية وشرعية

تعظيم النَّصِّ أم تَعظِيمُ فِقهِ النَّصِّ؟! (1- 2)

د. هيثم بن جواد الحداد – مركز تأصيل للدراسات والبحوث

فقد استحوذت عبارة “تعظيم النَّص” على اهتمام عدد من الدعاة إلى الله تعالى، وتأثر بهذا الاهتمام عدد من الباحثين، والمؤسسات الأكاديمية. وقد دَرَستُ هذه المقولة دراسة أكاديمية، وتقدمت بها إلى أحد المؤتمرات العلمية، نسأل الله أن ينفع بها. وهذه المقالة خلاصة لتلك الورقة. وقد حاولت في تلك الورقة دراسة هذه العبارة، أعني “تعظيم النَّص” دراسة تحليلية نقدية. وكان سؤال البحث الرئيس: هل مِن الصواب استعمالها؟ وحاولت في هذه الورقة بيان العلاقة بين النص ومدلوله وفقهه، وأنَّ تعظيم الفهم الظاهري أو الحرفي له ليس هو المقصود بـ”تعظيم النَّص”، وإنما المقصود: تعظيم فقه النص ودلالته المستنبطة بحسب قواعد الاستدلال المعروفة في أصول الفقه، والتي منها ما يقتضي مخالفة الظاهر.

وقد دفعني إلى تلك الدراسة أني لمست أن لهذه العبارة دور كبير في وجود عدد من الظواهر السلبية الخطيرة التي تهدد وحدة هذه الأمة المكلومة؛ وأنه من الواجب علينا معالجتها، واحتواؤها قبل أن يستفحل الأمر.

ولبيان مدلول هذه العبارة لا بد من بيان مدلول مفرداتها.

التعظيم لغة: مصدر عَظَّم، يقال: عَظَّمَ فُلانٌ الأَمرَ تعظيماً، ومادة الكلمة (ع ظ م)، ولا يَشُقُّ على المطالع لكتب اللغة والمعاجم أن يرى أنَّ معنى -أو معاني- هذه الكلمة تدور حول الكِبَر، والقوة، والكثرة، والارتفاع، والعلو، والمكانة، ونحوها[1]. ولهذا فإن الله وصف نفسه بالعظمة، وسمى نفسه العظيم: فهو العلِيُّ العَظِيمُ، ونسبحه فنقول: “سبحان رَبِّي العظيم”.

وأما النَّصُّ فهو في اللغة: الارتفاع، والتقدم؛ ومنه مَنصَّة العروس[2].

أما النَّصُّ في اصطلاح علماء الشريعة عمومًا، وعلماء الأصول على وجه الخصوص، فإنَّه يطلق ويراد به عدة معان:

أولا: اللفظ الذي له معنى مفيد، وهو بهذا الإطلاق شبيه جدا -أو ربما هو نفسه- بمعنى “الكلام” عند أهل اللغة والنحو، أو عند من يُسمَّون في الاصطلاح المعاصر بـ”علماء اللسانيات”. ولذلك فإنه يترجم للغة الإنجليزية بـ “text”، والنص بهذا المعنى يطلق على أي نص لغوي، بأي لغة كانت، وفي أي موضوع كان، وبأي دلالة، وبأي قيمة معنوية، شريطة أن يكون له معنى. فيقال: هذا نص أدبي رائع، وهذا نص ضعيف، وهذا نص جميل، و”نصوص الشريعة قد تضافرت على هذا”، و”ليس في كلام الله ورسوله ما ينصُّ على ذلك”، ونحو هذا من الإطلاقات.

ثانيا: يطلق “النص” ويراد به اللفظ الذي يـدل علـى معنـى واحـد دون غيره، إذ من المعلوم أن الكلام قد يحتمل عدة معان تختلف قوة ظهورها. وبيان ذلك أنَّ النَّص بمعنى الكلام الذي له معنى، قد يحتمل معنى واحد، وقد يحتمل أكثر من معنى واحد. وإذا احتمل النص أكثر من معنى واحد، فإما أن يحتملها بصورة تبادلية، أو يحتمل هذه المعاني في وقت واحد. فإذا احتمل بصورة تبادلية فهذا هو المشترك، إذ يعرف الأصوليون المشترك بأنه لفظ دل على معان بوضع واحد[3]. وأمَّا إن احتمل عدة معانٍ في وقتٍ واحدٍ، فإمَّا أن تكون قوة احتماله لهذه المعان متساوية، وإما أن يكون أحد هذه المعاني أقوى مِن الآخر. فالنص الذي يحتمل معان متساوية الاحتمال، يسمى مجملاّ، فإن كان بعض المعاني أرجح من بعض سُميَّ ظاهرًا في ذلك المعنى، مرجوحا في المعنى الذي يقابله[4].

وعليه فإنَّ عبارة “تعظيم النَّص”، ليست عبارة دقيقة كما هي العادة في عبارات الأصوليين، أو علماء العقيدة، بل هي عبارة محتملة، وذلك لاتساع المراد بأحد أركانها، وهو كلمة النَّص، فقد تعني العبارة: تعظيم اللفظ، أو تعظيم دلالة اللفظ، أو كلاهما معا.

نعم.. قد تظهر أنَّها عبارةٌ شرعيةٌ، لا سيما أنَّها تفهم فهما إيجابيًا مطلقًا لأوَّل وهلة، لكن الآثار السلبية المترتبة على استعمالها توجب علينا الحيطة والحذر قبل المضي قدما في استعمالها. وقد يظن ظان أنها إحدى أقوال السلف، وقد يدهش القارئ حينما يعلم أنَّها ليست كذلك. فقد حاولت جهدي أن أجد هذه العبارة منصوصة في كتب السلف، واستعملت محركات البحث، وبرامج الحاسوب الجامعة، فلم أجدها متداولة ذلك التداول الذي يجعلها ترقى إلى مصاف عبارات السلف، بل لم أعثر عليها إلا في مواطن قليلة جدا من كتب المتأخرين. وقد جاء ذكرها عرضًا بصورة لا يمكن أن تكون معه أصلا من أصول الإسلام، أو من أصول أهل السنة والجماعة، كما قد جعلها بعض المعاصرين كذلك، وكما أومأ كثرة تداولها في أدبيات ما يعرف بالصحوة الإسلامية. بل إنَّ الباحث لتصيبه الدهشة حين يرى عددًا كبيرًا من البحوث الشرعية “الأكاديمية” التي تتحدث عن تعظيم النَّص، قد أهملت النظرة التحليلية لهذه العبارة، وكأنما أوجدت رهابا أعشى الأعين عما فيها من خلل.

وغيابُ هذه الطريقة العلمية في البحث أدَّى إلى الخلط بين تعظيم ذاتِ النَّص، كلفظ له معنى، والمدلول الشرعي لذلك النَّص أو فقهه؛ ومن ثمّ أنتج مفاسد كثيرة، لا نبالغ القول بأنَّ كثيرًا مِن أهل الغلو في العصر الحاضر وقعوا فيها بسبب هذا الخلط، وظنَّ كثيرٌ مِنهم أنَّ تعظيم النَّص مُقتَصِرٌ على تعظيمِ فهمٍ ظاهِريٍّ حَرفيٍّ للنَّص، بصرف عن تعظيم دلالته وفقهه، الأمر الذي أدَّى بهم رميَ كُلِّ مَن خالفَ فِهمَهم الحرفيَّ للنَّص بأنَّه لا يُعظِّم النَّص، ومن ثم يسحبون عليه جميع الأحكام الواردة فيمن لا يعظمُ أمرَ الله ونهيه. وشبكة الإنترنت طافحة بهذا. وسيتضمن البحث أمثلة عديدة لهذا الغلو.

وكأي فعل متطرف، فإنه يولد فعلا آخر متطرفا، وعلى الجهة المقابلة ظهر تيار التحرُّرِ مِن كثيرٍ مِن أحكام الإسلام بحُجَّةِ أنَّها نتاجُ فِهمٍ ظاهريٍّ مُنغلق، عاجزٍ عن مواكبةِ تَطورَات الحياة أو العصرَنَةِ، وتبلور منهج عصراني ليبرالي “إسلامي” يزعم أنَّه يعتمدُ في تأويلاته المنحرفة على النَّص الإلهي دون الاستسلام لسُلطةِ النَّص البشري المفسر له.

فقه النَّصِّ:

الفقه لغُةً الفَهِمُ[5]، ومنه قوله تعالى: ((واحلُل عُقدَةً مِن لِسَانِي يَفقَهُوا قَولِي))، طه: 27، أو الفِهمُ الدَّقِيقُ.

وله في الاصطلاح المتأخر عدة تعريفات متقاربة، تدور حول كونه مجموعة الأحكام الشرعية التي كلَّفَ الله بها عباده. واشتهر تعريفه بأنَّه: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية[6].

وهذا كما أشرنا هو معناه في الاصطلاح عند المتأخرين، إذ قد تطوَّر مَدلولُ كلمةِ الفقه[7]، وإن كان أصلُها الشرعيُّ المذكور في قوله -صلى الله عليه وسلم، في دعائه لابن عباس: (اللهم فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التَّأويل)، وما جرى عليه عَملُ الأوائل، يُوحي بأنَّ الفقه في الدِّين، أو فِقه النَّص ونحوه، هو مرادُ الله تعالى مِن النَّص، الذي هو كلامه وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم، بحسب الطاقة البشرية؛ وهو الأقرب لقوله -صلى الله عليه وسلم: (مَن يُردِ الله به خَيرًا يُفقِّهه في الدين)[8]، وهذا يتضمن الإسلام كُلَّه، إذ مردُّ دين الإسلام كُلِّه نصوصُ كتابِ اللهِ وسُنةِ نبيه -صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المعنى الذي قصده الباحث في العنوان.

ولا يمكن أن نهتدي لفقه النَّص دون أن نبحث في دلالة النَّص، ولهذا لا بد من الحديث عن دلالة النص.

فقه النص ودلالته هو أهم ما سيق النص لأجله:

ما مِن شكٍّ أنَّ المقصود الأول مِن الكلام هو معناه، لكن يبقى النظر في تحديد هذا المعنى، لا سيما إذا كان اللفظ مما يحتمل أكثر مِن معنى[9]. يقول ابن القيم -رحمه الله: “والتعويل في الحكم على قصد الـمُتكلِّم، والألفاظُ لم تُقصد لنفسها، وإنَّما هي مقصودة للمعاني، والتوصل بها إلى معرفة مُرادِ المتكلم. ومُرادُه يظهرُ مِن عمومِ لفظه تارةً، ومن عموم المعنى الذي قَصده تارةً، وقَد يكون فهمه من المعنى أَقوى، وقَد يكون مِن اللّفظ أَقوى، وقد يتقاربان كما إذا قال الدّليل لغيره: لا تسلك الطّريق فإنَّ فيها من يقطع الطريق، أَو هي معطشة مخوفة، علم هو وكل سامع أَن قصده أَعمّ مِن لفظه، وأَنه أَراد نهيه عن كل طريق هذا شأْنها، فلو خالفه وسلك طريقاً أُخرى عَطُبَ بها حسُنَ لومه، ونُسِبَ إلى مخالفته ومعصيته”[10].

الدلالة:

الدلالة من أهم مباحث كتب أصول الفقه، فالدلالة: كون الشيءِ يلزمُ مِن فهمِه فَهمُ شَيءٍ آخر، فالشيء الأول: هو الدَّالُ، والشيء الثاني: هو المدلولُ، والدلالة اللفظية أحد أنواع الدلالات، وتنقسم بدورها إلى ثلاثة أقسام:

– القسم الأول: “طبيعية”: كدلالة: أح أح.. على وجع الصدر.

– القسم الثاني: “عقلية”: كدلالة الصوت على حياة صاحبه.

– والقسم الثالث: “وضعية”، وهذه الدلالة الوضعية التي هي أحد أقسام اللفظية “كون اللفظ إذا أُطلِقَ فُهِم” مِن إطلاقه “ما وُضِعَ له”. ودلالة اللفظ الوضعية ثلاثة أنواع: دلالة مطابقة، ودلالة تصمن، ودلالة التزام[11].

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشافعية، وتبعهم كثير من الأصوليين من غير الحنفية، يقسمون دلالة اللفظ إلى دلالة منطوق، ودلالة مفهوم[12].

والمنطوق ينقسم بعدة اعتبارات، وليس هذا مقام تحريرها أو استقصائها، لكن أشهرها وأجمعها تقسيمه إلى: منطوق صريح، ومنطوق غير صريح[13].

وخلاصة الأمر أننا حينما نتحدث عن دلالة النص فإننا نتحدث عن دلالته اللفظية بجميع أنواعها، (وعلى هذا يتضح لنا جليّا أنَّ كُلَّ معنى يُفهَمُ مِن النَّصِّ بطَريقٍ مِن طُرقِ هذه الدلالات يعتبرُ مِن مَدلولاتِ النَّصِّ وثابتا به، والنَّص دليلا وحجة عليه)[14]. بل لا بُدَّ لنا مِن القول أننا حينما نتحدث عن النَّص، فإننا نتحدث عن النَّص بجميع دلالته اللفظية، وحينما نتحدث عن الدليل، فإننا نتحدث عن الدليل بجميع دلالاته غير اللفظية كذلك.

الآثار السلبية المترتبة على الحديث عن “تعظيم النص” دون “تعظيم فقه النص”:

فيما يلي بعض الآثار السلبية المترتبة على استعمالها:

أولا: الدفع باتجاه الفقه الظاهري في نسخته الجديدة:

أهم معالم المدرسة المنسوبة إلى داود الظاهري، والتي بلور أصولها الفكرية والمنهجية، ووضع معالم فقهها، علي بن أحمد بن حزم (ت 456هـ)، ما يلي: الأخذ بظاهر نصوص الكتاب والسنة؛ إبطال القول بالرأي؛ إبطال العمل بالتعليل والقياس؛ رفض الاستحسان؛ رفض العمل بالمصالح المرسلة؛ رفض العمل بسد الذرائع؛ منع أي صورة من صور التقليد مطلقا[15].

إذن نحن أمام مدرسة فكرية تعتبر الفهم الظاهري الحرفي للنصوص الشرعية كافٍ في الدلالة على كُلِّ ما يحتاجه البشرُ في أيِّ عصرٍ، وفي أيِّ مِصرٍ، ولا شك أن هذا هو الواجب على أهل الإسلام عموما، وأهل العلم خصوصا، لكن الإشكال يتلخص في ثلاثة أمور:

الأول في الأصول التي اعتمدوا عليها في فهم هذه النصوص، وإدراك المراد منها، ثم استنباط الأحكام الشرعية منها.

أما الإشكال الثاني: فيتمثل في قدرة هذه الأصول على بناء منظومة متكاملة من علم الأصول، منسجمة من جهة مع علوم الآلة الأخرى، ومنسجمة من جهة أخرى في نتائجها مع المذاهب الفقهية الأخرى، والتي اختلفت في ما بينها.

أما الإشكال الثالث: فهو قدرة هذه الأصول على إثبات مرونة الشريعة في التعامل مع كل المتغيرات: الزمانية والمكانية والحالية، من خلال قدرة النصوص على استيعاب أحكام تناسب هذه المتغيرات.

إنه لمن المثير للدهشة أن آراء المذاهب التي انفرد فيها كُلُّ مذهبٍ لم توصف بالشذوذ، بينما وُصِفَت آراء الظاهرية التي انفردت بها بذلك، وهذا دليل قاطع على عجز أصولهم عن الانسجام مع طبيعة الفقه الإسلامي، التي جمعت بين الثبات والمرونة والحيوية والأصالة، والتناغم مع العقل والفطرة. وهذا كاف في التوجس من أصول مذهبهم، إضافة إلى كثير من الفروع التي انفردوا بها.

هذا إن كنا نتحدث عن المذهب الظاهري المعروف. فكيف يكون حديثنا عن المذهب الظاهري المطور، والذي خطا خطوات أكثر نحو الشذوذ عن نسق الفقه الإسلامي، والذي عجز عن إبراز مرونة هذه الشريعة وحيويتها، فتعامل مع الوحيين وكأنهما قوالب جامدة، لا روح فيها، ولا مقاصد عليا لها، فضلا عن مصادمتها للعقل والفطرة.

ولا أدل على فساد هذه الطريقة من أنها أبرزت لنا اتجاهين متناقضين؛ اتجاه متشدد متنطع، واتجاه آخر متحرر من قيود الشريعة، وكلٌ زعم أنه يأخذ بالنَّص. وإن افترضنا جدلا أن هؤلاء مخلصون، فإنهم ولا شك قد أهملوا فقه النص من خلال إهمال إعمال أصول الفقه الضابطة لاستنباط الأحكام مِن الأدلة.

وهذه الورقة لا تتسع لكثير من أمثلة “سوء فهم النص والاستدلال به” التي وقع فيها كثير من أهل الغلو المعاصر، فتكتفي بإيراد أشرها، وأظهرها، وأشدها خطرًا.

فهذا التنظيم المسمى زورا وبهتانا “تنظيم الدولة الإسلامية”، المعروف بـ”داعش”، يعلن الخلافة الإسلامية عملا بالأدلة الدالة على وجوب تنصيب خليفة للمسلمين، ضاربا بعرض الحائط كل الشروط اللازمة لتنصيب خليفة، التي سارت عليها الأمة جيلا بعد جيل.

وهذا التنظيم -على فرض صدقه وبحثه عن الحق- وقع في أخطاء فادحة في فهم الأدلة، وأخرى أشد فداحة في تنزيل الأدلة بذلك الفهم الخاطئ لها على الواقع. فتطبيقهم للحدود بهذا الشكل صوَّر الشريعةَ للعالم كله أنَّ الشريعة دِينٌ همجيٌّ بربريٌّ، يلتذُّ بالقتل والتعذيب. ناسيا هذا التنظيم –ومتناسيًا- أن الشريعة جاءت كما قال الله تعالى: ((رَحمَةً للعَالمين)). وموقفهم ممَّن خالفَ يبعث على الشك في حقيقة أمرهم. فقد رموا كلَّ مَن خالفهم بالكفر والمروق مِن الدين! والأصل أن المسلمين أمة واحدة، وهم (يَدٌ واحِدةٌ على مَن سِواهم) -كما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم.

وقد يقول قائلٌ: إنّ المدرسة الظاهرية هي المدرسة السلفية في الفقه، فإن لم تكن فهي مدرسة مِن المدارس المتبوعة في الفقه، فلا ضَيرَ في اتباعها. وقد يُحتَجُّ لهذا القول بنقول عن بعض كبار العلماء. فمثلا قال الشيخ العلامة صديق حسن خان -رحمه الله، في كتابه (أبجد العلوم): “والظاهرية هم أئمة الأمَّةِ، وسَلفُها، وقُدوة المسلمين في كُلِّ زَمانٍ، ومَذهبهم أصفى مَذاهِب عالم الإمكان، ولَنعم ما قيل:

بـــــــلاء ليس يعـــــــدله بــــــــلاء                            عداوة غير ذي حسب ودين

يبيحك منه عرضا لم يصنه                           ويرتع منك في عرض مصون”[16] ــ

وهذا الكلام مجانب ولا شك للصواب؛ فإنَّ سلَفَ هذه الأمة كانوا ينهجون نهجا لم ترتضه الظاهرية. فسَلفُ الأُمَّة يعملون بالقياس الذي تثور حميَّةُ الظاهريَّةِ عند سماع نَبَئِه، فها هم الصَّحابة –رضي الله عنهم- يقيسون، وهاهم أرباب المذاهب الأربعة يقبلون بالقياس كذلك، وها هم الصحابة وجماهير سَلفِ الأُمَّة يعملون بسد الذرائع، وللظاهرية موقف سلبي منها.

[1] انظر: معاجم اللغة، منها: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس؛ والصحاح، للجوهري؛ ولسان العرب -مادة (ع ظ م).

[2] لسان العرب -مادة (ن ص ص)، وانظر: تاج العروس -مادة (ن ص ص).

[3] انظر: البحر المحيط، للزركشي: ج2/377، والإبهاج شرح المنهاج: ج1/248، وج1/227، والكوكب المنير: ج3/189، وكشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام: ج1/60.

[4] المراجع السابقة.

[5] انظر: الصحاح والقاموس المحيط، وغيرها مِن معاجم اللغة.

[6] انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية: ج1/11.

[7] موسوعة الفقه الإسلامي، وزارة الأوقاف المصرية: ص1؛ وانظر: الفقه الإسلامي تعريفه وتطوره ومكانته، الشيخ عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، المصدر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 1، السنة 1: ص117- 138.

[8] متفق عليه.

[9] انظر: اللغة العربية معناها ومبناها: ص31 وما بعدها؛ وموسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، للتهانوي: ص36 وما بعدها.

[10] إعلام الموقعين عن رب العالمين: ج1/166.

[11] شرح الكوكب المنير: ج1/125- 131، بتصرف يسير. وانظر: الكوكب المحيط، للزركشي: ج2/268- 279، وأضاف الزركشي دلالة الاستدعاء. وكذلك فإنَّ بعض الأصوليين عدَّ دلالة الالتزام مِن أنواع الدلالة اللفظية، وليس المقام مقام تحرير جميع أنواع الدلالة وأحكامها.

[12] يُرَاجَع: مختصر المنتهى مع شَرْح العضد: ج2/171؛ وأصول الفقه، لابن مفلح: ج3/1056، وشَرح الكوكب المنير: ج3/473؛ وإرشاد الفحول: ص178؛ والإحكام، للآمدي: ج3/84.

[13] انظر: شرح الكوكب المنير: ج4/473؛ وانظر دلالة الألفاظ على الأحكام، د. إسماعيل محمد علي عبدالرحمن، نسخة إلكترونية؛ والمنطوق والمفهوم بين مدرستي المتكلمين والفقهاء، د محمد أقصري، نسخة إلكترونية. وبعض المعاصرين أثبت فرقا بينهما، وهو أن عبارة النص عند الحنفية تشمل الدلالات الثلاثة: المطابقة والتضمن والالتزام، بخلاف ما تشمله دلالة المنطوق، إذ تقتصر عند كثير من أصوليي الجمهور على دلالة المطابقة والتضمن، دون الالتزام.

[14] دراسات أصولية في القرآن الكريم: ص300.

[15] الدليل عند الظاهرية: ص39- 49.

[16] أبجد العلوم، لصديق خان: ج3/147.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى