كتب وبحوث

تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 8 من 10

تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 8 من 10

 

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

 

دور المخابرات الأمريكيَّة في صناعة البطل القومي 

لم يتغيَّر شعار محو إسرائيل من الوجود، وكان لذلك دوره في اللعب بمشاعر الجماهير، التي كان الزَّعيم دائمًا في حاجة إلى البقاء على أكتافها؛ “ومن ثمَّ لا بدَّ أن يستمرَّ في الصُّراخ ضدَّ العدو” فيما أطلق عليه مايلز كوبلاند، ضابط الاستخبارات الأمريكي ومدير وكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة في القاهرة، في كتابه لعبة الأمم (1969م) “المهرجان”، الذي كان ضروريًّا “لدفع الدُّول الكبرى لتقديم المساعدات”، حتَّى أصبح من غير الممكن استمرار ذلك المهرجان، وبالتَّالي انتهت الحاجة إلى ذلك الزَّعيم (ص198). ما أراد كشك قوله أنَّ استغلال قضايا الأمَّة كان واجبًا لدفع الجماهير إلى الالتفاف حول بطل قومي ينال ثقتهم، ويحيِّد مساعيهم لمواجهة أعدائهم، على أمل أن يتولَّى زعيمهم تلك المهمَّة. غير أنَّ الصَّدمة الجماهيريَّة في أعقاب هزيمة يونيو 1967م أثبتت أنَّ إطلاق الشَّعارات لم يأتِ إلَّا بخلاف ما وُعد به. لم يجد محمَّد حسنين هيكل مانعًا عن الاعتراف بأنَّ المخابرات الأمريكيَّة درَّبت 4 من قيادات عبد النَّاصر لإدارة مخابرات الثَّورة، بعد إتقانهم التَّعامل مع وسائل الاتِّصال الحديثة. وأُطلقت حملة صحافيَّة لتلميع الثَّورة ورموزها، وكان لمحمَّد حسنين هيكل والأخوين مصطفى وعلى أمين الدُّور الأكبر في تلك المهمَّة، يُذكر في هذا السِّياق إلى أنَّ الثَّلاثة من عملاء المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة (سي آي ايه)، كما يذكر كشك (ص248):

‘‘منذ أوائل الخمسينيَّات، جنَّد كيرميت روزفلت ومحطَّة السّي آي إيه في القاهرة، ثلاثة من الصَّحفيين المصريين البارزين “كعملاء” للمخابرات الأمريكيَّة هم: محمَّد حسنين هيكل والأخان أمين…مصطفى وعلي’’ … وناصر كان يعرف ذلك.

وكان من بين المسائل المثارة في كتابات هؤلاء ضرورة تأييد الموقف الأمريكي المساند لثورة مصر ولمساعي إجلاء بريطانيا عن المنطقة، وكذلك تهيئة الرَّأي العام لقبول خروج محمَّد نجيب من الصُّورة، والتَّرحيب بعبد النَّاصر باعتباره البطل الحقيقي للثَّورة، والأقدر على تحمُّل المسؤوليَّة. ولجلال كشك رأيه الشَّخصي فيما أُسند إلى شخص الزَّعيم القومي من بطولة، ربَّما أثبت الواقع قدر ما فيها من مبالغة. وقد اكتفى كشك بأوَّل حروف اسمه الثَّاني في الإشارة إلى صاحب هذا الرأي، وكأنَّما كشك أراد إثبات ما نُفي عن تردُّد أقاويل عن يهوديَّة أمِّ أحد زعماء العروبة، وبالتَّالي يهوديَّته؛ على اعتبار أنَّ النَّسب في اليهوديَّة للأمِّ (ص345):

‘‘لو كان الَّذي يحكم مصر يهوديًّا…لما خدَم إسرائيل بأكثر ممَّا فعَل عبد النَّاصر…!’’

قرارات صنعت الهزيمة

لا يمكن التَّشكيك في صدق نوايا عبد النَّاصر لمَّا قرَّر تأميم قناة السُّويس في يونيو 1956م، ولا يمكن وصف القرار إلَّا بأنَّه إجراء وطني خالص، كان من شأنه إنهاء النُّفوذ الاستعماري للإمبراطوريتين، البريطانيَّة والفرنسيَّة، في الشَّرق الأوسط، بعد قرن من العبث في مقدَّراته. غير أنَّ العدوان الثُّلاثي على مصر، الذي يُعرف كذلك بـ “حرب السُّويس”، بانضمام إسرائيل إلى بريطانيا وفرنسا في حملة شُنَّت في أكتوبر من نفس عام تأميم القناة، مهَّدت للهزيمة في يونيو 1967م، بأن استغلَّت إسرائيل الحملة في تنفيذ مخطَّطاتها، وعلى رأسها استنزاف الطَّاقات العسكريَّة العربيَّة، وتصفية الدَّور المصري، “وهذا لا يتحقَّق إلَّا بسلسلة هزائم عسكريَّة وسياسيَّة كانت السُّويس واحدة منها كما كانت حرب وهزيمة 1967” (ص355). أرادت إسرائيل فتْح مضيق العقبة أمام سفنها، وتدمير السِّلاح السُّوفييتي الذي اشترته إدارة الثَّورة، ونزْع سلاح غزَّة وتجميد نشاطها الفدائي، وإنهاك القدرات العسكريَّة المصريَّة. ويرى كشك أنَّ إسرائيل نجحت في تحقيق أهدافها، ومع ذلك أنكر هيكل (ص358):

ونحن ‘‘نزعم’’ وعلينا البيّنة أنَّ الأهداف تحقَّقت بالكامل، وأنَّ القيادة المصريَّة هُزمت في هذه المواجهة بالكامل…بل وإنَّ عبد النَّاصر نفسه هو أوَّل مَن أدرك هذه الحقيقة يوم طاف وهو يبكي بين حطام الجيش المصري على شاطئ القناة في نوفمبر 1956 وأراح رأسه على كتف ‘‘عبد اللطيف بغدادي’’ وهو يردّد بالإنجليزيَّة ‘‘هزمني جيشي’’ …فهل يريدنا هيكل أن نصدّقه ونكذّب عبد النَّاصر؟!

نجحت إسرائيل بفضل حرب السُّويس المندلعة نتيجة قرار تأميم قناة السُّويس في احتلال شبه جزيرة سيناء 5 أشهر، والقضاء على التَّهديد العسكري المصري وبعد بيان تفوُّق التَّسليح الإسرائيلي، وضمان حريَّة الملاحة في خليج العقبة، هذا بالإضافة إلى نزْع سلاح الجيش المصري في سيناء واستبداله بقوَّات طوارئ دوليَّة تابعة للأمم المتَّحدة. وقد أخبر موشيه دايان، العسكري والسِّياسي الإسرائيلي البارز، في كتابه قصَّة حياتي (1976م) أنَّ أهداف إسرائيل الثَّلاثة قد تحقَّقت، وهي السَّماح لإسرائيل بالملاحة في خليج العقبة، وإيقاف نشاط الفدائيين في غزَّة، و “تجميد خطَّة الهجوم المشترك المصري-السُّوري-الأردني على إسرائيل“، ولعلَّ هذا الهدف كان الأهم، كما ينقل كشك (ص359).

تهيئة الأجواء لهزيمة حرب الأيَّام السِّتَّة

يتساءل كشك في نهاية كتابه الموسوعي عن حقيقة موقف عبد النَّاصر من المواجهة المصريَّة-الإسرائيليَّة، وإذا ما كان تكهُّن السِّياسيَّة الإسرائيليَّة غولدا مائير في سيرتها الذَّاتيَّة حياتي (1975م) عن أنَّ مصر ما كان ليمنعها شيء عن تدمير إسرائيل بعد تأميم قناة السُّويس في محلَّه، ولماذا “استبدل عبد النَّاصر الذي هو أدنى بالذي هو خير” بعدم رفضه المساومة على أرضه وقبوله شروط الاستعمار لتحرير سيناء ولو بالاسم فقط (ص594). يعيد كشك الإشارة إلى ما سبق وأن أثاره في كتابه النَّكسة والغزو الفكري (1969م)، عن المحاباة في توزيع المناصب العسكريَّة، والابتعاد عن النَّزاهة في مقابل الموالاة في التَّعيين، ناهيك عن انكباب القيادات العليا على خدمة المصالح الشَّخصيَّة، بدلًا من التَّركيز على التَّصدي للتهديد الأمني الإسرائيلي (ص609):

المهم أنَّه ما بين 1952 إلى 1956 كانت القيادة في الجيش من نصيب دلاديل أعضاء مجلس القيادة، أو الَّذين لا رأي لهم ولا يهتمُّون إلَّا بمصالحهم الخاصَّة…أصبحت الكفاءة والوطنيَّة والاهتمام بالمصلحة العامَّة هي الاستثناء! هل هذه هي نوعيَّة القيادات الَّتي يمكنها قيادة الجيش في مواجهة إسرائيل؟!

ويستنتج كشك أنَّ مَن لا يأبه بالتَّدقيق في تعيين قادة الجيش في ظلِّ التَّهديد الإسرائيلي لن يعطي الأمن القومي من الاهتمام ما يعطيه لأمن سُلطته الفرديَّة. ويجد المدافعون عن عبد النَّاصر تبريرًا، أو لتقل شمَّاعة، لحالة الضَّعف التي أصابت الجيش وأفضت إلى هزيمة يونيو 1967م، بزعم أنَّ المشير عبد الحكيم عامر لم يكن مؤهَّلًا لتولِّي المسؤوليَّة المُسندة إليه، وأنَّه استقلَّ بإدارة الجيش، ولم يترك لعبد النَّاصر أيَّ سلطة عليه. ويردُّ كشك بتساؤله (ص610):

عظيم! ولكن لماذا عيَّن عبد النَّاصر عبد الحكيم عامر في هذا المنصب؟ من أجل كفاءاته في قضيَّة ‘‘أمن مصر القومي’’ وما توسَّمه فيه من قدرة على بناء جيش وطني قادر فعلًا على التَّصدّي للعدو، لكنَّ خيَّن آماله…وعجَز عن تغييره؟!

ويعترف عبد اللطيف البغدادي، عضو مجلس قيادة الثَّورة، في مذكَّراته بأنَّ كان يدرك أنَّ عبد النَّاصر لم يضع عامر في منصبه القيادي في الجيش إلَّا لأنَّه كان يريد أن يتميَّز عن باقي أعضاء مجلس قيادة الثَّورة بأن يتمكَّن من “السَّيطرة السِّياسيَّة دون باقي المجلس، وذلك عن طريق مساندة الجيش له”، ولم يكن ليحقِّق ذلك إلَّا بتعيين عامر قائدًّا عامًّا للجيش (ص611). وينقل كشك عن المؤرِّخ الدُّكتور عبد العظيم رمضان رأيه في كتابه المواجهة المصريَّة الاسرائيليَّة في البحر الأحمر 1949-1979 (1982م) بأنَّ إسرائيل لم تستشعر أيَّ خطر من ثورة يوليو؛ ربَّما لأنَّها سبق لها أن هزمت قوَّات الجيش ذاته في حرب فلسطين عام 1948م؛ وربَّما لحُسن علاقة قيادة الثَّورة بأمريكا، ممَّا طمأن إسرائيل لأنَّ علاقتها بالسُّلطة الجديدة في مصر من المنتظر أن تكون أفضل من علاقتها برموز السُّلطة في العهد الملكي، وخاصَّة الإخوان المسلمين وأعضاء حزب الوفد، بعد ما أبداه هؤلاء من عداء تجاه الكيان الصُّهيوني. وينقل كشك عن محمَّد نجيب ما اعترف به في مذكَّراته عن ترحيب دافيد بن غوريون بالثَّورة، وإعلانه انفتاحه على مصر في الحقبة الجديدة، وتمنِّيه وصول إلى تفاهُم يفضي إلى التعايش السِّلمي بين مصر وإسرائيل؛ والمفارقة أنَّ نجيب رحَّب بتلك المبادرة في فتره حكمه القصيرة، ولم يمانع عقْد اتفاقيَّة سلام مع اليهود (ص621):

ويقول محمَّد نجيب في مذكّراته ‘‘وفي هذه الحقيقة أتوقَّع في ذلك الوقت أن يتقدَّم الإسرائيليون بمعاهدة سلام، وربَّما قبلنا هذه المعاهدة في ذلك الوقت’’، وقد قلتُ (1953) ‘‘أنَّه لكي تكون إسرائيل دولة معترفًا بها ولكي تكون دولة معتمدة على نفسها يجب أن تشترك في تجارتها السّلميَّة مع الدُّول العربيَّة لصالح الجميع’’.

يبرهن كشك على عدم حرْص قيادات ثورة يوليو 1952م بالتَّصدِّي للعدوان الإسرائيلي بالإشارة إلى واقعة في غاية الأهميَّة، ذكرها عبد اللطيف البغدادي في مذكَّراته، وهي أنَّ إسرائيل شنَّت غارة على معسكر للقوَّات المصريَّة بالقرب من قطاع غزَّة، في 28 فبراير 1955م، راح ضحيَّتها 37 جنديًّا مصريًّا في مقابل 8 يهود. ويؤكِّد كشك أنَّ مصر لم تشن غارة واحدة على إسرائيل خلال الفترة ما بين عاميّ 1952 و1967م، وكان الردُّ المصري الوحيد هو تعنيف السَّفير الأمريكي بالقاهرة، ثمَّ تحويل الوجهة في التَّحالف إلى الاتحاد السُّوفييتي. ويتحسَّر كشك على الفرص التي أتيحت لعبد النَّاصر للهجوم على إسرائيل بين عاميّ 1956 و1967م، لكنَّه لم ينتهزها. لعلَّ أفضل فرصة أتيحت لاجتياح إسرائيل كانت خلال سنوات الوحدة مع سوريا (1958-1961م)، حينما كانت الجمهوريَّة العربيَّة المتَّحدة “كالطَّوق أو الكمَّاشة حول إسرائيل…لكنَّ المواجهة مع إسرائيل لم تكن يومًا ما في خاطر عبد النَّاصر” (ص631).

لم يستغل عبد النَّاصر الفرصة التي أتيحت له عام 1964م، حينما ازداد توتُّر العلاقات الإسرائيليَّة بجيرانها العرب بسبب الصِّراع على الموارد المائيَّة، وآثر الزَّعيم العروبي عقْد مؤتمر قمَّة “لتنفيس” الموقف، بدلًا من توحيد الصَّفِّ العربي في مواجهة العدوان الصُّهيوني (ص632). أمَّا في عام 1967م، رفَض عبد النَّاصر خطَّة المشير بالبدء بالهجوم، وفضَّل انتظار الاعتداء ثمَّ الرَّد؛ والنتيجة أنَّ الضَّربة الإسرائيليَّة كانت كاسحة ولم تُتح فرصة للرَّد. وبعد الهزيمة، بدأ حرب الاستنزاف، التي دارت رحاها على أرض مصر وليس أرض إسرائيل، ومن ثمَّ “أدَّت إلى استنزاف مصر…خسرنا فيها ثلاث مدن مصريَّة وعشرات المصانع خزَّانًا وعددًا غير معروف من القتلى والجرحى المصريين” (ص633). وفي الختام، يستنتج كشك أنَّ فكرة محاربة إسرائيل لم تطرأ على ذهن عبد النَّاصر أبدًا، ويقول في ذلك (ص633):

من هنا، فإنَّ ‘‘البعض’’ الَّذي يقول بإنَّ عبد النَّاصر لم يفكّر قطّ في شنّ حرب ضدَّ إسرائيل وأنَّه لو عاش ألف سنة لما فكَّر في ذلك، يستندون إلى واقع 18 سنة…

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى