مقالاتمقالات مختارة

تجاذب المقاصد وأسرار التشريع “نظرة في فقه القصاص”

تجاذب المقاصد وأسرار التشريع “نظرة في فقه القصاص”

بقلم د. فضل مراد

وأنا أكتب في فقه القرآن في آية القصاص تأملت البعد المقاصدي وأسرار التشريع في أحكامه وكيفية الجمع المقاصدي عند التعارض بينها

 ويمكن أن أبين طرفا منا هنا فأقول.

 قوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) دخل فيه بدلالة العموم أنواع القصاص والمماثلة فيه بدلالة اللفظ لأن لفظة القصاص في اللغة تفيد المماثلة

لأنه من قص الأثر إذا تبعه، فهذا أصل جزئي وثم أصول كلية في الباب وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل

وقوله تعالى : (فاعتدوا عليه بمثل)

وقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)

والمعنى المقاصدي للقصاص هوما ذكره الله في النص (ولكم في القصاص حياة) وتمام حفظ المقاصد يكون بتمام المماثلة

لأن حفظ المقاصد على تمامه مقصود فهو حفظ مطلق لا مطلق الحفظ

لهذا شرعت المماثلة في القصاص إلا في حالات تعارضت فيها المدارك المقاصدية

لذلك استثني من المماثلة التمثيل بالجثة فإنه محرم شرعا ولو كان قد مثل الجاني بالجثة.

لأن الشرع قصد تكريم الانسان وقصد كذلك حفظ حياته فهما مقصدان يمكن الحفاظ عليها معا

فلو جازت المثلة لأثر ذلك على مقصد التكريم وهو واجب الحفظ

وفي نفس الوقت لا يفيد في تحقيق مقصد (ولكم في القصاص حياة) فإنه متحقق بمجرد إزهاق النفس قصاصا

ولذلك كانت المثلة محرمة حتى في المعركة مع الحربيين كفارا أو مسلمين.

ومما استثني كذلك القصاص حرقا بالنار لمن أحرق شخصا بالنار

 فهو منصوص على منعه لأنه يؤل إلى المثلة والمقاصد الشرعية محفوظة حالا ومآلا.

والمثلة تعود على مقصد التكريم بالنقض.

هذا كله في التمثيل بالميت بعد القتل أو قبله

أما في الحياة فالقصاص في الأعضاء جائز ولو أدى إلى مثلة   لأن الحي الذي مثل به يعيش مشوها على وجه الدوام فاقتضت الشريعة حياة مثلها للمعتدي فمن جدع أنف شخص أو سمل عينيه عمل به كذلك

فإن تعذرت المساواة سقطت، ومن هنا بين الفقهاء أن القصاص في الأعضاء لا يكون إلا في حالات معلوم فيها المساواة كالقطع من مفصل لمن قطع آخر من مفصل

 ويلوذ النظر الشرعي حيئذ إلى التعويضات. ولو بأضعاف الدية صلحا في العمد وهذا الباب كله جار على النظر المقاصدي

فلو تعارضت المقاصد العامة والخاصة قدمت العامة

فمثلا حد السارق يتعلق به حفظ مقصد عام هو المال

لكنه عارض مقصد التكريم الذي به تدفع مفسدة التشوية والمثلة عن البدن ومع ذلك سقط

 وعلة ذلك أنه خاص بفرد جزئي معين. فقدم حفظ المقصد الكلي وهو حفظ أموال الخلق   على مقصد حفظ التكريم لشخص معين

ومثل ذلك كذلك في مسألة الحرابة فإن الشريعة لما كانت تقصد حفظ الأمن والمال والنفس على وجه عام وكلي وتام

كانت الحرابة من أشخاص أو شخص تهدم هذه المقاصد لأن هدم مقصد الأمن يؤثر في كل مقصد

فكانت العقوبة في الحرابة بقطع من خلاف أو صلب أو قتل أو نفي وكل ذلك بالخيار بحسب العقوبة والجريمة وأثرها العام أو بحسب الجريمة. قولان صحيحان في المسألة

فأهدر الحفاظ على مقصد التكريم لشخص المحارب لأنه عارض وناقض مقصدا كليا عاما

والحاصل أن كل مقصد جزئي عارضه مقصد كلي فإن المقاصد الكلية مقدمة.

وإن أمكن الجمع بينهما جمع

مثاله القصاص مقصده ولكم في القصاص حياة فهذا مقصد كلي

والمماثله مقصد جزئي فتجوز لأنها تحقق جميع المقاصد على وجه التمام

وأهدر هنا التمثيل بالجثة ولو كان القاتل قد مثل بالمجني عليه لأن المقصود من القصاص هو المعني هنا فأهل المقتول يريدون القصاص والاعدام سواء كان بمثل أو لا.

فليس المقصود غالبا سوى إزهاق النفس قصاصا وليس التمثيل بالجثة بل إن هذا تستبشعه النفوس إلا ما شذ

فكان التمثيل بجثة الشخص المقاصص به لا يخدم أي مقصد.

بل يؤثر في مقصد التكريم الكلي للميت.

بخلاف قطع يد السارق فهو يحفظ مقصدا كليا تمام الحفظ وحد الحرابة يحفظ مقصد الأمن وما تعلق به تماما الحفظ   فقدم المقصد الكلي على مجرد حفظ التكريم.

وأما في مسألة من جدع أنف شخص أو سمل عينه فإنه في المقابل يصنع به ذلك

قصاصا لأن فعل الجاني هدم مقصد التكريم على وجه الدوام في الحياة وهذا مؤثر على النفوس وموقظ للعداوة والبغضاء على وجه التأبيد مؤد إلى سفك الدماء والعدوان

فللحفاظ على مقصد الأمن العام الذي يعطيه (ولكم في القصاص حياة)

لوحظ ذلك فشرع القصاص ولو كان فيه نوع مثله لأنه يدفع مفسدة تهدر مقاصد كبرى عامة وكلية ودائمة.

وبهذا يتبين الفرق بين التمثيل بالجثة والتمثيل قصاصا بالحي.

فإن التمثيل بالمقتول قصاصا ولو كان قد مثل بالمجني عليه لا يعطي أي معنى

معتبر.

بخلاف المثلة الناتجة عن القصاص من حي لحي فهو يحفظ مقاصد الأمن الكبرى ولكم في القصاص حياة.

  • وأما المساواة في آلة القتل ووسيلته كمن قتل شخصا بحجر فهل يقتص له بحجر أم يكفي إزهاق النفس بما يزهقها من آلة حادة أو ضرب بالرصاص مثلا.

فالذي يظهر من حديث البخاري في القصاص ممن رض رأس الطفلة بين حجرين فقتلها جواز القصاص بنفس الآلة والكيفية.

وهو نص في محل النزاع لكنه ليس على وجه الالزام لأن الفعل يدل على الجواز

والمطلوب هو الازهاق بما يزهق النفس ، إلا الحرق بالنار فهو مستثنى بالنص.

وقد ثار الخلاف بين الشافعية والحنفية فمنع الحنفية من القصاص قتلا إلا بمحدد

وعللوا ذلك بأن غير السيف مثلة وبحديث لا قود إلا بالسيف

وكلامهم صحيح في اعتبار المقصد وهو ترك المثلة لكنه غير صحيح من جهة الأثر لأن الحديث لا يصح ولا أرى أن في الرض بين حجرين كما ورد في الحديث مثلة أصلا.. وعليه فالجمع بين المقاصد الكلية في القصاص والتكريم متحقق فأي وسيلة حققت التماثل من كل جهة مع خدمة جميع المقاصد فهو مطلوب.

فإن كانت المماثلة من كل جهة تهدم مقصدا وتخدم مقصدا قدم المقصد الكلي والعام والأساسي مثاله من قتل شخصا بالحرق بالنار فإنه لا قصاص بالنار بل يقتل بغيره لأن تحقيق المماثلة في الآلة من كل جهة لا معنى له لأنه مثله محضة والمقصد الأكبر والعام والأساسي هنا هو (ولكم في القصاص حياة) وهو متحقق في ذلك بدون ذلك التمثيل بالحرق.

  • مسألة أخلاقيات الحرب مع الكفار المعتدين فمن اعتدى اعتدي عليه بالمثل لأن المماثلة في العدوان تحفظ سائر المقاصد على وجه العموم والكل والدوام للأمة جميعا.

ويستثنى من ذلك العدوان على النسا والأطفال والأسرى فهو محرم في الشرع فلا مماثلة فيه.

ولو ضربت المدن المسلمة بالقنابل فالواجب الرد بالضرب على المقاتلين وكافة الأماكن الحيوية التي تضعف العدو وتحيده ولا يعتدى على المدنيين من أسر وأطفال وعمال وشيوخ.

وبهذا يتحقق حفظ كليات الشرع ومقاصدها الأمنية وما يتبعها وحفظ الكليات الأخلاقية الراجعة إلى محاسن الشريعة ومكارمها.

وثم مسائل هنا تحتاج إلى نظر جماعي عملا بقوله تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

ومن مسائل هذا الباب قتل الجماعة بالواحد فإن ملاحظة المقصد فيه ظاهرة وهو ما فعل عمر رضي الله عنه أمام الصحابة من غير نكير.

فإن القتلة يلوذون بالفعل الجماعي فرارا من القصاص وهذا عينه مؤد إلى نقض مقصد (ولكم في القصاص حياة).

ولو كان الفعل الجماعي مسقط للقصاص للجأ إليه أهل الإجرام ولنقض مقصد الأمن ومقصد الحياة ومقصد حفظ النفوس.

فكان النظر من عمر رضي الله عنه – غاية في التوفيق في إدراك مقاصد الشرع المطهر.

ولما ضعف هذا المقصد في قتل الوالد لولده جاء النص بأنه لا يقاد والد بولده.

وهكذا في قتل الخطأ فرضت الدية والكفارة وامتنع القصاص لأن تلف فرد جزئي كان على وجه لا ينقض مقصد حفظ الحياة لا بعدوان ولا بعمد فكانت الدية تعويضا وترميما للحزن.

لأن الشريعة قصدت في الباب معالجة الآثار النفسية والاجتماعية لجريمة القتل فإن النفسية من حزن وكمد والاجتماعية من غيض وحمية وأنفة ، آثار خطيرة تستدعى بها الفتنة والفرقة وإزهاق النفوس والثارات.

والمفاسد في هذا الباب عظيمة فما فتح على قوم الثأر والفتنة والاحتراب إلا فتح لهم نكد العيش في حياتهم وعمرانهم ومالهم وعلومهم وتعطل مصالحهم العامة والخاصة.

لهذا قصدت الشريعة في باب الجريمة حسمها في المهد فعالجت الأضرار الاجتماعية والنفسية وما ستؤل إليه من مفاسد كبرى بفرض الإعدام على القاتل.

لكن فتحت مع هذا باب العفو لأن المقصود من هذه الشريعة هو حفظ النفوس وحفظ الحياة فإن عفا أهل المقتول كان المقصد قد تحقق، في الحال والمآل.

أما في الحال فإن الشرع أعطى له حق القصاص فأذهب ما به من كمد وحنق وحمية أما في المآل فإطفاء فتنة كانت آيله للحصول،

وما بقي من الحزن في نفسه بفقد من يحب رممه الشرع بفرض الدية عند العفو.

لأن المال دواء لمثل هذا لما فيه من تعويض مادي عن المصيبة ونفسي عن الحزن.

ولما كان الجانب الأول في قتل الخطأ معدوما أعني الحمية والنزعة الانتقامية ومآلاتها فرضت الدية فقط وفرضت الكفارة توبة وعلاجا نفسيا لقاتل الخطأ.

وهذا من أسرار الشريعة العظيمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • د. فضل مراد، امين سر لجنة الفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أستاذ الفقه وقضاياه المعاصرة ك. الشريعة جامعة قطر.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى