مقالاتمقالات المنتدى

تأملات في فقه النصر والتمكين (2)

تأملات في فقه النصر والتمكين (2)

بقلم د. حسن السلهاب( خاص بالمنتدى)

التمكين من الأمور التي يتعلق به قلب المؤمن، والمؤمن يعلم يقينا أن العاقبة للمتقين، والمؤمنون وحدهم يوقنون بوعد الله لهم بالتمكين، لكننا في وقت من الأوقات نفتقد للرؤية الكاملة والصورة الكلية لعملية التمكين.
يقول الشيخ الدكتور على عبد الحليم: التمكين هو الهدف الأكبر لكل مفردات العمل من أجل الإسلام، فالدعوة بكل مراحلها وأهدافها ووسائلها، والحركة وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال، والتنظيم وما يستهدفه في الدعوة والحركة، والتربية بكل أبعادها وأنواعها وأهدافها ووسائلها
وعرفه الأستاذ محمد السيد محمد يوسف: بأنه دراسة الأسباب التي أدت إلى زوال التمكين عن الأمة الإسلامية، والمقومات التي تٌرجع الأمة إلى التمكين، والعوائق التي تعترض العمل للتمكين، وكذلك المبشرات على هذا الطريق.
إن الداعية يمر قبل التمكين بعدد من الابتلاءات حتى يمحص وينقى ليكون جاهزا لحمل الأمانة الكبيرة ولتبليغ الرسالة وتحكيم شرع الله عز وجل في الأرض، ولذلك نجد في الأنبياء أنهم مروا بمحن وابتلاءات كثيرة قبل أن يتم لهم التمكين، بل ومنهم من قتل قبل أن يٌمكن، لكن بقيت الدعوة بأثرهم في استمرار وازدياد بعد ما قدموا من بذل وعطاء وتضحيات من أجل تلك الدعوة. وتنوعت الشدائد بين القتل والتشريد والتهديد والإلقاء في الأخاديد وبين الكرب وشدة الاضطهاد، فما لانوا وما ضعفوا وما استكانوا أبدا، فكان النصر والتمكين والتأييد حليفا لهم جميعا.
وقد يقول قائل: أين وعد الله بالنصر لعباده الموحدين؟ أين التمكين لهؤلاء وقد طردوا من ديارهم وعذبوا وسجنوا وتم مصادرة أموالهم و ……الخ؟
يقول سيد قطب رحمه الله مفسرا قول الله عز وجل
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.. ) . . بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد.. فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل!
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور. ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان. وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصروا لا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها. وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة. . إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها. . أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك – في منطق العقيدة – أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! . .
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال. .
على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد [صلى الله عليه وسلم] في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض. فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً. من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة. فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة. ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية. وفق تقدير الله وترتيبه.
إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها: (1) الانتصار على هوى النفس، (2) تبليغ الرسالة، (3) وهزيمة الأعداء، (4) وإقامة الدولة.
لذلك أرى أن بيننا وبين التمكين زمن طويل ومسافات كبيرة، لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، فإذا لم تصف النفوس ولم تنق دواخلها، وإذا لم يتجرد الداعية من حظ نفسه وهواها، فستكون المسافة بيننا وبين التمكين بعيدة كل البعد، وسوف يأت الله بقوم لهم قلوب مثل قلوب السلف الصالح ولهم أعمال تعانق عنان السماء، ولهم نمط وطريقة مختلفة في الأخوة في الله عما نحن عليه. لا يشغلهم مال، ولا منصب، ولا هوى، ولا زيغ عن غايتهم التي أمنوا بها وعملوا من أجلها.
نسأل الله عز وجل ان يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يجعلنا من جيل النصر والتمكين وأن نكون حلقة قوية متينة تعمل وتُخلص لله عز وجل.

قرأ أيضا:الرجال على النهج يسيرون

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى