كتب وبحوث

بحث (القُـوَّة في السِّياسةِ الشَّرعِيَّةِ 2)

بحث (القُـوَّة في السِّياسةِ الشَّرعِيَّةِ 2)

إعداد د. وصفي عاشور أبو زيد

المبحث الثالث

القوة في القرآن الكريم والسنة النبوية:

مما لا شك فيه أن القوة من خصائص الإسلام؛ حيث إنه دين قوي متين { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ}. سورة الحديد: 25. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ } فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف وقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نضرب بهذا – يعني السيف – من عدل عن هذا – يعني المصحف”([1]).

وفي السطور الآتية نحاول استكشاف رؤية القرآن الكريم والسنة النبوية عن القوة.

أولا: القوة في القرآن الكريم:

وردت كلمة “قوة” في القرآن الكريم بمعان مختلفة وفي مواضع وسياقات متنوعة، نورد ما استطعنا الوقوف عليه في الكتاب العزيز فيما يلي:
{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) }. البقرة.
{وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين (145) } الأعراف.
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171) } الأعراف.
{قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94) قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) آتوني زبر الحديد } الكهف.
{يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15) } مريم.
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) } الأنفال.
{كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (69) } التوبة.
{ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52) } . هود.
{قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80) } لوط.
{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } (92). النحل.
{ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39) }. الكهف.
{قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33)}. النمل.
{قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (78) } . القصص.
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9) } . الروم.
{الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (54) }. الروم.
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44) } . فاطر.
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) }. غافر.
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) }. غافر
{فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) }. فصلت.
{وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13)}. محمد.
{إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) }. التكوير.
{يوم تبلى السرائر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10) }. الطارق.

وقفة تأملية في الآيات الكريمة:

ما سبق إيراده هو آيات كريمة جاءت فيها لفظة “قوة” نصًّا، وإذا تأملنا القوة بمعانيها المختلفة ومرادفاتها وجدنا الأمر ذا سعة في القرآن الكريم، واقتصرنا هنا على مواضع ورود لفظتها فقط، وهي مواضع كافية لإبراز معاني القوة في القرآن من خلال مواضعها وسياقاتها، وهي مواضع كثيرة تدلنا على أهمية موضوعها، فمن أمارات أهمية موضوع ما وروده في القرآن الكريم كثيرا، فإن القرآن العظيم لا يُولِي موضوعا ما بمساحة واسعة إلا كان تعبيرا عن أهميته الكبيرة.

ولا يسعنا في هذا المقام أن نتجاوز ما بينه الراغب الأصفهاني في كتابه العظيم مفردات القرآن، وهو يتحدث عن معاني القوة في القرآن، قال: القوة تستعمل تارة في معنى القدرة، نحو قوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة/63]، وتارة للتهيؤ الموجود في الشي، نحو أن يقال: النوى بالقوة نخل (أي: يمكنه أن يصير نخلا)، أي: متهيئ ومترشح أن يكون منه ذلك، ويستعمل ذلك في البدن تارة، وفي القلب أخرى، وفي المعاون من خارج تارة، وفي القدرة الإلهية تارة. ففي البدن نحو قوله: {وقالوا من أشد منا قوة} [فصلت/15]، {فأعينوني بقوة} [الكهف/95] فالقوة ههنا قوة البدن بدلالة أنه رغب عن القوة الخارجة، فقال: {ما مكني فيه ربي خير} [الكهف/ 95]، وفي القلب نحو قوله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم/12] أي: بقوة قلب. وفي المعاون من خارج نحو قوله: {لو أن لي بكم قوة} [هود/80] قيل: معناه: من أتقوى به من الجند، وما أتقوى به من المال، ونحو قوله: {قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد} [النمل/33]، وفي القدرة الإلهية نحو قوله: {إن الله قوي عزيز} [المجادلة/21]، {وكان الله قويا عزيزا} [الأحزاب/25] وقوله: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات/58] فعام فيما اختص الله تعالى به من القدرة وما جعله للخلق. وقوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود/52] فقد ضمن تعالى أن يعطي كل واحد منهم من أنواع القوى قدر ما يستحقه، وقوله: {ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير/20] يعني به جبريل عليه السلام، ووصفه بالقوة عند ذي العرش، وأفرد اللفظ ونكره فقال: {ذي قوة} تنبيها أنه إذا اعتبر بالملإ الأعلى فقوته إلى حد ما، وقوله فيه: {علمه شديد القوى} [النجم/5] فإنه وصف القوة بلفظ الجمع، وعرفها تعريف الجنس تنبيها أنه إذا اعتبر بهذا العالم، وبالذين يعلمهم ويفيدهم هو كثير القوى عظيم القدرة. والقوة التي تستعمل للتهيؤ أكثر من يستعملها الفلاسفة، ويقولونها على وجهين: أحدهما: أن يقال لما كان موجودا ولكن ليس يستعمل، فيقال فلان كاتب بالقوة. أي: معه المعرفة بالكتابة لكنه ليس يستعمل، والثاني: يقال فلان كاتب بالقوة، وليس يعني به أن معه العلم بالكتابة، ولكن معناه: يمكنه أن يتعلم الكتابة. وسميت المفازة قواء، وأقوى الرجل: صار في قواء (قال الخليل: أرض قواء: لا أهل فيها. العين 5/237)، أي: قفر، وتصور من حال الحاصل في القفر الفقر، فقيل: أقوى فلان، أي: افتقر، كقولهم: أرمل وأترب. قال الله تعالى: {ومتاعا للمقوين} [الواقعة/73]([2]).

هكذا يبين لنا الراغب معاني القوة في القرآن، أو يقررها ويستشهد لها من القرآن، وقد حصر من معانيها: القدرة، والتهيؤ الموجود في الشيء، سواء استعمل في البدن أو القلب أو المعاون من خارج، والقدرة الإلهية، وجبريل عليه السلام، والافتقار والحاجة، ومع مزيد التأمل في أنواع القوة الموجودة يتبين لنا أن فيها قوة سياسية وقوة اقتصادية وقوة اجتماعية وقوة عسكرية، وغيرها من أنواع القوة.

ثانيا: القوة في السنة النبوية:

أما السنة النبوية فسنقتصر كذلك على إيراد ما نقف عليه فيها مما ورد بنص الكلمة “قوة”، ومن ذلك:

ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»([3]).

قال النووي في الشرح: (المؤمن القوي خير) المراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها ومحافظة عليها، ونحو ذلك. (وفي كل خير) معناه في كل من القوي والضعيف خيرٌ لاشتراكهما في الإيمان([4]).

وما جاء عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ “([5]).
قال النووي في الشرح: “هذا تصريح بتفسيرها وردّ لما يحكيه المفسرون من الأقوال سوى هذا، وفيه وفي الأحاديث بعده فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى وكذلك المشاجعة وسائر أنواع استعمال السلاح وكذا المسابقة بالخيل وغيرها كما سبق في بابه والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه ورياضة الأعضاء بذلك”([6]).

ففي حديث أبي هريرة تحدث عن القوة بشمولها ومختلف أنواعها، فالمؤمن القوي خير؛ حيث أطلق الحديث وصف الخيرية ولم يقيده بنوع من القوة، وفي حديث عامر خصصها بالقوة الحربية العسكرية التي تعين على القتال، وتثمر هزيمة العدو، وتحقق مقاصد الجهاد.

بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو مظهر الخشوع والمسكنة, واسمع ما كان يدعو به النبي – صلى الله عليه وسلم – في خاصة نفسه، ويعلمه أصحابه، و يناجي به ربه: (اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال)([7]), ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة بالهم والحزن, وضعف الإنتاج بالعجز والكسل, وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل, وضعف العزة والكرامة بالدين والقهر؟ فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويا في كل شيء, شعاره القوة في كل شيء ؟([8]).

وعن مكحول أن عمر بن الخطاب كتب إلى أهل الشام أن علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية([9]).

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها”([10]).

كل هذه النصوص من السنة النبوية وأقوال العلماء في شروحها وبيانها تشير إلى أهمية القوة ومكانتها وضرورتها، وبيان آثار وجودها على مستويات الفرد والمجتمع والأمة.

 

المبحث الرابع

عناصر القوة ومجالاتها

تحدث بعض علمائنا قديما عن القوة وأنواعها ومفاهيمها ومجالاتها؛ فهذا الإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية يرحمه الله، يقول: والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمْي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك، كما قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا ] وفي رواية : [ فهي نعمة جحدها ] رواه مسلم.

والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام ، ولأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة] رواه أهل السنن. والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهو ظاهر ([11]).

وتحدث الأستاذ الشيخ حسن البنا عن أنواعها ودرجاتها فقال: أول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان, ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط, ثم بعدهما قوة الساعد و السلاح([12]).

ويتنوع الحديث عن أنواع القوة وعناصرها ومجالاتها بحسب الوجهة التي نتجه إليها، أو الزاوية التي ننظر منها، أو المنطلق الذي ننطلق منه.

أولا: فهي بالنظر إلى الفردية والجماعية، تنقسم إلى:

قوة الفرد وقوة الأمة:

فقوة الفرد هي قوة تتصل بالفرد وتكوينه المتنوع، تشمل قوة العقل وقوة النفس وقوة البدن، فقوة العقل تعني تحصيل العلم الدائم وتنمية العقل بمهاراته المختلفة، والحفاظ على هذا بالتعرف الدائم إلى الحقائق، وإلى إثبات القضايا والأفكار وفق قول الله تعالى: “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” . البقرة : 111. وقوله: وقوله: “قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا”. سورة الأنعام: 148.

وقوة النفس أو الروح تعني تقويتها بالعبادات المتنوعة والشعائر المؤثرة التي جعلها الله وسائل لتنمية الروح وتزكية النفس وترقيق القلب، فقوة الإيمان مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه ، كما أنها تفجر قلب المؤمن بأنواع من المعرفة والحكمة بما لا نظير له في ثمار قوة أخرى.

وقوة البدن تشمل تقويته بما شرعه الله تعالى حتى يتأهل ليقوم بفرائض الله ويؤدي واجبات الشرع ويحقق المقاصد المشروعة من خلقه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في بيان قصة أمة مجاهدة تحفزت للنهوض بعبء النضال في سبيل حريتها واستقلالها وتكوين نفسها, فاختار الله لها زعيما قوي الفكر وقوي الخلق, وجعل من أركان نهوضه بعبئه قوة بدنه, فذلك ما حكاه القرآن الكريم عن بني إسرائيل في تزكيته طالوت : (قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة:247) .
ولقد شرح رسول الله هذا المعنى في كثير من أحاديثه , وحث المؤمنين على المحافظة على قوة أبدانهم , كما حثهم على قوة أرواحهم , فالحديث الصحيح يقول : (المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف)([13]) ويقول (إن لبدنك عليك حقا)([14]) . ولقد بين رسول الله للأمة كثيرا من قواعد الصحة العامة وبخاصة في علم الوقاية , وهو أفضل شطري الطب فقوله صلى الله عليه وسلم : (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)([15]) وتحريه فيما يشرب من ماء , وفي الحديث: (كان يستعذب الماء)([16]), ونهيه عن البول والتبرز في المياه الراكدة , وإعلانه الحجر الصحي على البلد المطعون وأهله , فلا يتركونه ولا ينزله غيرهم , وتحذيره من العدوى وطلب الفرار من المجذوم , وأخيرا عنايته بكثير من فروع رياضة البدن كالرمي والسباحة والفروسية والعدو , وحث أمته عليها وعلى العناية بها.

وقد وضع الشرع تدابير لهذا كله بما يوجد العقل الراشد، والنفس الزاكية، والبدن القوي، وما يعمل على حفظها واستمرارها محفوظة قوية باقية.
***

وأما قوة الأمة فالمقصود بها أن تصير مرهوبة الجانب قوية الشكيمة، عندها من موارد القوة ومصادرها، ومظاهرها ومنابعها ما يُرْهب أي عدو خارجي أو داخلي، ويمنعه من إيقاع أي عدوان أو ظلم؛ تحقيقا لقول الله تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ”. سورة الأنفال: 60.

ثانيا: وهي بالنظر إلى مجالاتها تنقسم إلى:

قوة العقيدة – قوة الخلق – قوة العلم – قوة الاقتصاد – قوة التماسك الاجتماعي – قوة الجهاد .

وقد ألف الشيخ السيد سابق – يرحمه الله – كتابا كاملا عنوانه: “عناصر القوة في الإسلام”، تحدث فيه عن هذه الأنواع من القوة، ورأى أن هذه هي العناصر التي تضمن للإسلام قوته وبقاءه واستمراره.

وحسبنا أن ننقل هنا ما جاء في مقدمته؛ حيث قال:

“دور الأمة الإسلامية دور إمامة وزعامة، وقد أمدها الإسلام بالعناصر التي تؤهلها لهذا المنصب الخطير.. ومن هذا المنصب الخطير تتألف القوة الحقيقية التي تصل بالأمة إلى غايتها، من العزة و المتعة، والمجد و السؤدد، والسيادة والقيادة، والتمكين في الأرض .. وليست هذه العناصر مقصورة على جانب دون جانب، وإنما تتناول جوانب الحياة جميعا فهي تتمثل:

* في الايمان بالله إيمانا يحرر الضمير والوجدان .
* وفي الاعتصام، بالحق استعصاما يزهق أمامه الباطل ويندحر.
* وفي معرفة الضعف النفسي، و التطهر منه، حتى تأخذ النفس طريقها إلى العزة والسمو.
* وفي العلم المقوم لشخصية الإنسان، والكاشف عن حقائق الوجود المادي، وما وراء هذا الوجود من عالم ما وراء الطبيعة.
* وفي الثروة ، وتعمير الأرض، و استثمار قوى الكون والانتفاع بما في الطبيعة، من بركات الله وخيراته، وتوزيعها على أفراد الأسرة الإنسانية بالكفاية والعدل.
* وفي إقامة المجتمع على أساس من الحرية والعدالة، والمساواة والتشريع السمح، والعمل الجاد، والمعاشرة الحسنة، والحكم الصالح التي تكون فيه السيادة للأمة.
* وفي السلام القائم على احترام الإنسان وكفالة حقوقه.
* وفي احترام العهود والحفاظ على المواثيق .
* وفي التضحية النبيلة والاستشهاد في سبيل الحق ومن أجل الحياة الحرة الكريمة.

هذه هي عناصر القوة في الاسلام، وهي ليست مثل القوة التي اصطلح الناس عليها، فهي قوة في العقيدة، وقوة الخلق، وقوة في العلم، وقوة في المال، وقوة في التماسك الاجتماعي، وقوة في التنظيم السلمي، وقوة في الاستعداد الحربي، وسيادة الأمة وقيادتها منوطة بتوفر هذه القوى مجتمعة”([17]).

وقد توسع الشيخ – رحمه الله تعالى – في التأصيل والاستشهاد من نصوص القرآن والسنة لكل قوة من هذه القوى بما يجلي حقيقتها ويوضح مكانتها ويبين أثرها على الفرد والأمة.

ثالثا: وهي بالنظر إلى الداخل والخارج تنقسم إلى:

قوة داخلية وقوة خارجية:

وتتمثل القوة الداخلية في :

1- أن يكون المجتمع قويا متماسكا، من خلال الأسر القوية، التي تعتبر الوحدة الأولى في بناء المجتمع القوي المتماسك، ولا غرو أن يتحدث القرآن الكريم عن الأسرة كما يتحدث عن الدولة!

2- يحتاج الحاكم هنا إلى رعاية الأئمة والخطباء الذين سيرسخون هذا التماسك الاجتماعي، ويحققون الأمن الثقافي والفكري بلا طغيان ولا إخسار، ولا إفراط ولا تفريط، فالدعاة والعلماء هم الضمانة الحقيقية لتحقيق هذا التماسك الداخلي وإيجاد الأمن الفكري، ومن هنا وجب على الدولة أو الحاكم رعايتهم ودعمهم.

3- كذلك لتحقيق القوة الداخلية يجب على الحاكم أن يأخذ على أيدي المجرمين، ويجفف منابع الجريمة، ويقضي على الفكر المتطرف بالحوار الهادئ والنقاش البناء، كما فعل عبد الله بن عباس وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم.

4- أن تتحقق الواجبات الكفائية في المجتمع، من طب وهندسة وتصنيع وتجارة وزراعة وإنتاج، وتوفير مختصين في علوم مختلفة، وبهذا تتحقق للمجتمع الكفاية الذاتية، وهو الطريق البارزة لجعل المجتمع قويا حرا، لا يرهبه تهديد معتدٍ، ولا يرغِّبه ترغيب مرغِّب.

أما القوة الخارجية فتتمثل في:

1- كل نقاط القوة الداخلية تسهم إسهاما واضحا في القدرة على التعامل الخارجي، وتهيء الفرصة لبناء سياسات خارجية راشدة.

2- أن تتعامل الأمة مع نظائرها من الأمم بندية وعزة وقدرة، لا أن تستخذى وتذل كما نراه في كثير من التعامل اليوم.

3- الإسهام في بناء اتحادات وتكتلات قوية تستطيع من خلالها إحداث التوازن العالمي للأمة المسلمة مع غيرها من الأمم؛ فقد أصبحت الاتحادات والهيئات هي لغة العصر الذي لم يعد يعرف الأفراد ولا العمل الفردي.

4- أن تعمل على تبادل المصالح المشتركة بين الأمم لتحقيق التعاون الإنساني العالمي والتعارف الأممي والتكامل البشري؛ عملا بقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…”. سورة الحجرات: 13.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 37. لشيخ الإسلام ابن تيمية . طبعة دار المعرفة.
([2]) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني: 2/ 274-275. دار القلم. دمشق.
([3]) صحيح مسلم: كتاب القدر. باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله.
([4]) شرح النووي على مسلم: 16/ 215. دار إحياء التراث العربي. الطبعة الثانية. 1392هـ.
([5])صحيح مسلم: كتاب الإمارة. باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه.
([6]) شرح النووي على مسلم: 13: 64.
([7]) صحيح البخاري: كتاب الدعوات. بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ.
([8]) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: من رسالة المؤتمر الخامس.
([9]) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 4/ 467. رقم (11386). مؤسسة الرسالة. الطبعة الخامسة. 1401هـ.
([10]) قال الهيثمي: رواه البزار، والطبراني في الصغير والأوسط، وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري وغيرهما، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات”. مجمع الزوائد: 5/ 323. دار الفكر. بيروت. 1412هـ.
([11])السياسة الشرعية: 25.
([12])مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: من رسالة المؤتمر الخامس.
([13]) سبق تخريجه، وهذه الفقرة منقولة من المرجع السابق.
([14])مجمع الزوائد: كتاب الفتن – أعاذنا الله منها. أبواب في وقعتي الجمل وصفين. باب فيما كان بينهم يوم صفين – رضي الله عنهم.
([15]) لم أقف عليه.
([16]) لم أقف عليه.
([17]) عناصر القوة في الإسلام: 3-4. السيد سابق. دار الفتح للإعلام العربي. القاهرة. الطبعة الثانية. 2006م.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى