كتب وبحوث

النّظام العالمي الجديد بين مخطَّط الماسونيَّة والبعث الإسلامي 9 من 10

النّظام العالمي الجديد بين مخطَّط الماسونيَّة والبعث الإسلامي 9 من 10

 

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

 

ريادة أمريكا للنّظام العالمي الحاليّ

لم يسبق أن شغلت دولة عظمى في العصر الحديث موقع الرّيادة في النّظام العالمي المعاصر غير أمريكا، الَّتي تقود العالم منذ انتصارها الكاسح في الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، وهي تعتقد أنَّها تلعب دورًا قدريًّا يتحكَّم في مصير العالم بأسْره. وكما يشير هنري كسنجر، حرصت أمريكا على نشْر مبادئها الدَّاخليَّة في شتَّى بقاع الأرض، من منطلق أنَّ تلك المبادئ تصلح لكلّ زمان ومكان وأنَّ من شأنها إرساء قواعد الدّيموقراطيَّة والحريَّة في البلدان الَّتي تعاني من الاستبداد والرَّجعيَّة. تقدَّمت أمريكا إلى موقع الرّيادة في نظام وستفاليا منذ القرن التَّاسع عشر للميلاد، استنادًا إلى عقيدة كونيَّة شاملة أرادت تطبيقها في سائر دول العالم، درءً لأيّ تهديدات ممكنة لأمنها وحفاظًا على سلامة الوضع الرَّاهن. بتعبير آخر، أرادت أمريكا “بناء صرْح عالم جديد كليًّا” وتحويل العالم إلى نظام يطبّق معايير تتماشى مع مصالحها وتمحي مخاوفها من صعود نظام معادٍ، خاصَّة إذا كان إسلاميًّا، بما يغنيها عن مواصلة إخضاع العالم لرقابتها الصَّارمة، بعد تحويل العالم إلى قرية صغيرة تسيّرها التّقنيات المتطوّرة وتقودها المادّيَّة والنَّفعيَّة (ص234).

أعلنت أمريكا استقلالها عام 1776م، بعد صراع دامٍ مع المستعمر البريطاني؛ ووُضع دستورها وفق مبادئ أوروبيَّة أعيدت صياغتها بما يتناسب مع الأوضاع في العالم الجديد؛ وكان من أهمّ توجُّهاتها السّياسيَّة النَّأي بنفسها عن أيّ تحالفات إقليميَّة، عملًا بنصيحة الرَّئيس الأمريكي الأوَّل، جورج واشنطن (إبريل 1789-مارس 1797م)، في خطاب وداعيّ ألقاه عام 1796م. وقد عبَّر السّياسي، ولاحقًا والرَّئيس الأمريكي (مارس 1825-مارس 1829)، جون كوينسي آدمز، في خطاب جماهيري عام 1821م عن التزام بلاده بالبقاء “بعيدة عن التَّدخُّل في هموم الآخرين حتَّى لدى كون النّزاع حول مبادئ هي متمسّكة بها”، وإن كانت “تتمنَّى الحريَّة والاستقلال للجميع”، نقلًا عن كسنجر (ص238). غير أنَّ ذلك التَّوجُّه ما لبث أن تغيَّر بعد سنوات قليلة، مع إرسال أمريكا بعثة استكشافيَّة رسميَّة إلى جزء الكرة الأرضيَّة الغربي وجنوب المحيط الهادي عام 1839م؛ حيث نشرت مجلَّة “الولايات المتَّحدة والدّيموقراطيَّة” مقالًا يثني على تلك الخطوة الَّتي قطعتها “أمَّة المستقبل العظيمة” في سبيل نشْر الدّيموقراطيَّة في العالم. لا شكَّ أنَّ عقيدة الحتميَّة القدريَّة المستمدَّة من العقيدة البروتستانتيَّة مارست تأثيرًا كبيرًا في إقناع الأمريكيين بأنَّ بلادهم تعمل وفق تكليف إلهي لتخليص العالم من قيود الاستبداد والتَّخلُّف. بمرور الوقت، تخلَّت السّياسة الأمريكيَّة عن وصيَّة الأب المؤسّس والرَّئيس الأوَّل، جورج واشنطن، ودخلت طرفًا في نزاعات خارجيَّة في أوروبَّا، ولكن في حدود ما يأتيها بالمنفعة ويحافظ على مصالحها؛ وتطلَّب الوصول إلى موقع الرّيادة في النّظام العالمي القائم مضاعفة قدرات الجيش الأمريكي، الَّذي حلَّ في المرتبة الـ 14 على مستوى العالم عام 1890م. وبعد أن صارت تنافس بريطانيا دوليًّا وتهدّد بسحب البساط من تحت قدميها، “لم تعد السّياسة الأمريكيَّة تحصر نفسها بالحياد”؛ حيث شعرت الإدارة الأمريكيَّة بضرورة تطبيق “مغزاها الأخلاقي الكوني” في الحصول على مكانة جيوسياسيَّة تناسب وضعها الجديد (ص242).

بعد أن صارت أمريكا قوَّة عظمى في العالم، أقدم الرَّئيس الأمريكي وودرو ولسن (مارس 1913-مارس 1921م) على تحويل الرَّؤية الأخلاقيَّة الكونيَّة الأمريكيَّة إلى برنامج يمكن تطبيقه لتحويل النّظام العالمي لما يرضي الطُّموح الأمريكي، مدّعيًا أنَّ تلك الرُّؤية من شأنها تعزيز الدّيموقراطيَّة في العالم. كما يذكر كسنجر، حرِص ولسن على انتقاد الأساليب السّياسيَّة المتَّبعة في العالم، مقترحًا استبدالها بأخرى وفق “مفهوم جديد للسَّلم الدَّولي قائم على خليط جملة فرضيَّات أمريكيَّة تقليديَّة ونوع من الإصرار الجديد على دفْعها نحو تطبيق نهائي وعالمي” (ص252). وكما ذُكر من قبل، كان لإيمان السّياسيين الأمريكيين بأنَّ بلادهم وُهبت من أجل نشْر الحريَّة وإرساء قواعد الدّيموقراطيَّة في العالم دوره الكبير في دفْع هؤلاء السّياسيين إلى اتّخاذ خطوات فعَّالة لتنفيذ ذلك المخطَّط الإلهي، الَّذي يتطلَّب تدخُّلًا في شؤون الدُّول الأخرى؛ غير أنَّ لذلك التَّدخُّل مبرّره القوي، وهو تحويل حياة الشُّعوب الأخرى إلى الأفضل. يتلخَّص مفهوم ولسن للنّظام العالمي في منْح كلّ أمَّة موحَّدة لغويًّا وعرقيًّا حقَّ تقرير المصير، وقد صرَّح بذلك في أعقاب انتهاء الحرب العالميَّة الأولى عام 1919م بعد مؤتمر باريس للسَّلام، الَّذي تمخَّض بدوره عن تأسيس عصبة الأمم، أوَّل منظَّمة أمنيَّة دوليَّة دعت للسَّلام العالمي ونبْذ أسباب النّزاعات الدَّامية.

اتَّخذت عصبة الأمم من مدينة جنيف السّويسريَّة مقرًّا لها، وتكوَّنت من منظَّمات دوليَّة شكَّلت نواة منظَّمة الأمم المتَّحدة الَّتي احتضنتها أمريكا وخصَّصت لها مقرًّا أساسيًّا في مدينة نيويورك عام 1945م. وقد أشار الرَّئيس ولسن، في رسالة وجَّهها إلى الكونغرس الأمريكي في 2 أبريل 1917م، إلى أنَّ عصبة الأمم-قيد التَّأسيس حينها-ستُلزم كافَّة دول العالم بالتَّسوية السّلميَّة للنّزاعات، وفق قواعد مشتركة، على أن يفصل في نزاعات الدُّول أطراف نزيهة محايدة. غير أنَّ التَّجربة أثبتت عجْز عصبة الأمم عن فضّ نزاعات كثيرة أو منْع إعلان الحروب؛ وتبيَّن من واقع الأحداث أنَّ الاستناد إلى مبادئ أخلاقيَّة، وليس إلى أسس استراتيجيَّة، في صنْع القرار السّياسي غير مجدٍ؛ وهذا يثبت صحَّة تنبُّؤ الرَّئيس الأمريكي الأسبق حينها، ثيودور روزفلت (سبتمبر 1901-مارس 1909م)، حينما قال في إحدى رسائله عام 1918م “أنا مؤيّد لمثل هذه العصبة، شرط ألَّا نتوقَّع منها الكثير”، نقلًا عن كسنجر (ص260). خلافًا لنموذج وودرو ولسن للنّظام العالمي القائم على مبادئ فلسفيَّة، اقترح خلَفه فرانكلن روزفلت (مارس 1933-أبريل 1945م) نموذجًا يعتمد على الثّقة الشَّخصيَّة. وقد صرَّح روزفلت في حديث إذاعي على عشاء رابطة السّياسة الخارجيَّة في نيويورك في 21 أبريل 1944م بشأن رؤيته للنّظام العالمي الجديد، نقلًا عن كسنجر (ص264):

 على نوعيَّة النّظام العالمي الَّذي يجب أن نُنجزه نحن الأمَّة المحبَّة للسَّلم، أن تعتمد أساسًا على علاقات إنسانيَّة ودّيَّة، على المعرفة الشَّخصيَّة، على التَّسامح، على الإخلاص الحصين والإرادة الطَّيبة والإيمان الحسن.

ويمثّل فرانكلن روزفلت نموذجًا غير مسبوق ولم يتكرَّر حتَّى اليوم للرُّؤساء الأمريكيين، بفوزه في 4 استحقاقات رئاسيَّة؛ ولعلَّ السَّبب في احتفاظه بالسُّلطة لما يتجاوز العشر سنوات نجاحه في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي خلال سنوات الكساد الكبير (Great Depression)، الَّذي أصاب أمريكا منذ أواخر العشرينات وحتَّى بداية الأربعينات من القرن الماضي انهيار البورصة الأمريكيَّة في 29 أكتوبر 1929م. دخلت أمريكا الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م) خلال فترة رئاسة فرانكلن روزفلت؛ وقد نجح في إدارة الأزمة وإخراج بلاده بأقلّ الخسائر، حتَّى أنَّ أمريكا اعتُبرت الدَّولة الوحيدة النَّاجية من الويلات الاقتصاديَّة النَّاجمة عن الحرب، باستحواذها على 60 بالمائة من إجمالي النَّاتج العالمي. غير أنَّ انتهاء الحرب العالميَّة الثَّانية لم ينهِ التَّنافس الشَّرس بين أمريكا والاتّحاد السُّوفييتي على الرّيادة في النّظام العالمي القائم؛ فبدأ صراعٌ غير عسكري بين الطَّرفين وحلفائهما، امتدَّ منذ منتصف الأربعينات وحتَّى مطلع التّسعينات من القرن الماضي، بات معروفًا بالحرب الباردة، الَّتي انتهت بانهيار الاتّحاد السُّوفييتي في ديسمبر 1991م. وكما يؤكّد كسنجر، دافعت أمريكا خلال سنوات الحرب الباردة عن رؤيتها للنّظام العالمي، من منطلَق اعتقاد رؤسائها بأنَّ الرُّؤية الأمريكيَّة للنّظام العالمي تعتمد على “مبادئ كونيَّة شاملة”، بينما لا تتعدى رؤية الأمم الأخرى المصالح القوميَّة غير القابلة للتَّعميم (ص272). كان لدى الإدارة الأمريكيَّة، على اختلاف انتماءاتها السّياسيَّة، قناعتها بضرورة خوض حروب في أقطار نائية، إذا ما كان في ذلك ضمانٌ لعدم المساس بالرُّؤية الأمريكيَّة للنّظام العالمي. خاضت أمريكا 5 حروب بعد انتصارها في الحرب العالميَّة الثَّانية، لعلَّ أحدثها وأشدُّها تأثيرًا على العالم الإسلامي حربي أفغانستان (2001م) والعراق (2003م).

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى