كتب وبحوث

الميراث والعرف

إعداد : عامر محمد نزار جلعوط

دكتوراه في الاقتصاد المالي الإسلامي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله القائل في كتابه: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ  مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ [ النساء:7]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر)[1].

لقد جاء الإسلام ودفن القبيح من عادات الجاهلية فقال سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع….)[2]. لكن كثيراً ما يُرى من نبش لتلك العادات -سواء في الميراث أم في غيره- وإن كانت مخالفة للشريعة كحرمان البنات من الميراث أو العكس كحرمان الذكور من حلي أمهاتهم  بحجة أن بعض العادات تمنح ذهب الأم لبناتها فقط فأين تذهبون يا عباد الله؟ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [ البقرة:17].وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [ لقمان:21] وقال تعالى﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة:104].

إن حرمان النساء من الإرث عادة جاهلية أبطلها الله عز وجل بنص القرآن وبآيات قطعية الدلالة، فحرمانهن من العقار أو من الأنواع المرغوب بها كمحل تجاري أو أرض زراعية، هذا له أثار خطيرة ينبغي أن تصحح، من قبل المورّث قبل فوات الأوان، ومن قبل انتقلت إليهم التركة من الورثة إذا ما دخل إليه يزيد عن حقه، فينبغي أن يرده إلى بقية الورثة وإلا أكل حراماً خاصة إن لم يرضى المعُتدى عليهم.

والحقيقة التي ينبغي ألا تغيب عن الأذهان أن الله ما فصّل في كتابه الصلاة والزكاة والصيام والحج وهذه أركان الإسلام العملية فتركت للحبيب صلى الله عليه وسلم كي يبينها للناس -(وإن ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرّم الله عز وجل)[3]- ومع ذلك ما ترك الله تعالى لنبيه المصطفى المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد الخلق وحبيب الحق أن يتولى تفصيل توزيع التركة، بل تولاها الله بذاته العلية في القرآن الكريم كيلا يختلف الناس في تقسيمها حيث أن القرآن الكريم هو قطعي الثبوت بالجملة وآيات الميراث قطعية الدلالة ولا اجتهاد في مورد النص القطعي بثبوته ودلالته، فمن وكّلك أيها الإنسان لتقسّم في الميراث حسب هواك؟  ولو تم التدقيق على التعقيب الرباني الذي جاء بعد آيات الميراث محذّراً العباد فقال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ*وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [ النساء: 13-14]  كذا قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾  [ النساء:19].

ألا تكفي هذه الآيات لمَن تحدثه نفسه أن يتعد حدود الله؟  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ، فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ، قَالَ: وَقَرَأَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ هَا هُنَا: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار﴾ٍّ، حَتَّى بَلَغَ: ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ))[4].

إن القرآن الكريم قد أمر باتباع العرف في قوله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾ [الأعراف:199]، لذا قد يقول قائل: وأين المشكلة إن تم حرمان الإناث من الميراث طالما أن العرف قد مشى على ذلك؟. ونسي هؤلاء أو لم يعرفوا أنه يشترط للعمل بالعرف شرطان:

  1. أن يكون عامًّا شاملًا مستفيضاً بين الناس، فلا يكون عادة شخص بعينه، أو عادة جماعة قليلة.
  2. أن لا يعارضه نص أو إجماع، وإلا كان عرفًا باطلًا لا قيمة له، وهو العرف الفاسد، كتعارف الناس ارتكاب المحرمات من الربا وشرب الخمر واختلاط النساء مع الرجال، وكشف العورة، ولبس الحرير والذهب للرجال وغير ذلك مما ورد فيه نص بالتحريم، فلا قيمة لهذا العرف، ولا اعتبار له، فهو عرف فاسد مردود، واتباع للهوى وإبطال للنصوص، وهو غير مقبول قطعاً[5].

وعلى هذا فالعرف إذا عارض الشرع فهو باطل لا يؤخذ به، بل هو دعوة جاهلية، ينبغي أن تركل بالأقدام ولا يُلتفت إليها سواء في الميراث أو في غيره، لذا جاءت وصيا النبي صلى الله عليه بالبنات والنساء لأجل أن يبطل ما كان عليه العرب في الجاهلية من تفضيل الذكور عليهن قالت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه و سلم فحدثته فقال: ( من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كن له سترا من النار )[6]، فهذه الوصية لا تعني إهمال الذكور وإنما لأجل إبطال ما كان في الجاهلية من عادات قبيحة وإلا فإن العدل مطلوب مع كل الأبناء، وهنا يتساءل كثير من الناس: أين العدل في الإسلام بين الذكور والإناث والله تعالى يقول: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيماً ﴾ فكيف هي الإجابة:

  1. إن الله تعالى هو العليم الحكيم العدل ولا يظلم مثقال ذرة.
  2. إن المفاضلة الظاهرة إنما تكون في حالة الميراث- يوصيكم: والوصية تمليك لما بعد الموت- أما في حالة الحياة وفي الظروف الطبيعية للأبناء[7] فلا بد من التسوية بين الأبناء جميعاً عند أكثر الفقهاء وهو الراجح اسئصالاً لبذور القطيعة بين الأبناء، وأجاز البعض النحلة لبعض الأبناء دون الأخرين مع كراهة ذلك.
  3. إن قضية الضعف للذكر عن الأنثى في الميراث إنما هي حالة من حالات كثيرة من ميراث المرأة والتي قد تأخذ فيها كثير من النساء أكثر من الذكور، وهذه الحالة هي فقط في عصبة البنت مع أخيها وفق اصطلاح علم الفرائض( الميراث)، وذلك كاجتماع البنت مع الابن من نفس الرتبة[8]، واجتماع ابن الابن مع بنت الابن، أو اجتماع الأخ الشقيق مع الأخت الشقيقة.
  4. إن هناك حالات في الميراث يتساوى فيها الإخوة جميعاً وهم الأخوة لأم إذا انفردوا ويلحق بهم الأخوة الأشقاء إذا اجتمعوا مع الإخوة لأم وكان الميراث حاصلاً من الأم: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾[ النساء:12].
  5. إن الإسلام لم يكلف الأنثى مثلما كلف الذكر من نفقات وعندما أعطى القرآن الأنثى في بعض الحالات نصف الذكر فهي الرابحة، حيث لا تكلف بنفقات مهر ولا سكنى ولا غير ذلك فبقى نصيبها موفراً إن أرادت ذلك بخلاف الذكر ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ…﴾ [النساء:34]

 ومن الأعراف الباطلة: تأخير توزيع الميراث لأجل غير مسمى رغم وفاء الحقوق المتعلقة بها من تجهيز للمتوفى وقضاء ديونه، وتنفيذ وصاياه في حدود الثلث، فهذا التأخير أمر باطل غير جائز إذا لم يكن بمرضاة جميع الورثة، فإن رضي الورثة بذلك لمصلحة معينة أو إحساناً لذي القربى منهم كالأم أو الإخوة الصغار ريثما يكبروا فلا حرج من ذلك، وإن رضي البعض بالتأخير ورفضه البعض الآخر فلابدمن دفع الحق له من غير مماطلة أما أن يتم التأخير بحجة أنه لابد أن تمضي فترة زمنية معينة بحجة بعض العادات فهذا أمر مخالف للشرع وأكل للمال بالباطل.

ومن الأعراف الباطلة: ما يفعله بعض الناس خاصة كبار السن الذين يتزوجون بعد وفاة زوجاتهم أو بوجودها فيقومون بتوزيع ميراثهم على أبنائهم لأجل أن يحرموا هذه الزوجة والتي غالباً ما يتم الزواج بها لأجل أن ترعاهم في كبر سنهم فيقومون بحرمانها من حقها في الميراث خاصة عند كثرة المال الموروث فهذا أمر باطل للأمور التالية:

  1. لأن الشرع قد نص على حق الزوجة من الميراث وهذا من حدود الله.
  2. أن هذه الزوجة تقوم برعايتهم في أشد مراحل حياتهم ضعفاً والله تعالى يقول: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن:60].
  3. ما روي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من فر من ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة)[9]. قال مناوي في فيض القدير: (من فر من ميراث وارثه) بأن فعل ما فوت بإرثه عليه في مرض موته (قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة) أفاد أن حرمان الوارث حرام بل قضية هذا الوعيد أنه كبيرة وبه صرح الذهبي[10].

فلا بد من الوعي الإسلامي المبني على الحقيقة الشرعية من خلال سؤال أهل العلم، ثم التوبة وتصحيح الأخطاء عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)[11].

والحمد لله رب العالمين.

———————————————–

[1]أخرجه البخاري ومسلم.

[2]أخرجه البخاري ومسلم.

[3]الترمذي وقال حسن غريب وابن ماجه وأحمد بإسناد صحيح.

[4]أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب.

[5]الوجيز في أصول الفقه الإسلامي جـ1ص267، الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، دار الخير، دمشق،ط:2/1427هـ.

(6) أخرجه البخاري.

[7]ومن الظروف غير الطبيعية أن يحتاج أحد الابناء لعلاج أو عملية جراحية أو إنقاذ من مهلكة.

[8]بمعنى الأشقاء أو لأب.

[9]سنن ابن ماجه

[10]فيض القدير لعبد الرؤوف المناوي جـ6ص242.دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الاولى 1415هـ.

[11]حديث حسن رواه الدارقطني وغيره

*المصدر : مجلة الإقتصاد الإسلامي العالمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى