مقالاتمقالات المنتدى

القلوب لا تتسع الأحزان ولكن الموت بأجل

القلوب لا تتسع الأحزان ولكن الموت بأجل

 

بقلم د. سلمان السعودي (خاص بالمنتدى)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد.

إن الحدث في غزة جلل، حرب إبادة بكل تفاصيلها وأركانها، دمار، وحصار، وجوع وظمأ، وخوف، وقتل بكل أساليب الجريمة، قتل بالفعل، وقتل بالمنع، وقتل بالتسبب، قتل بتدمير المستشفيات، ومراكز العلاج، وبتدمير مراكز الإسعاف والطوارئ والدفاع المدني.

أصبحت القلوب لا تتسع الأحزان  والعقول لا تستوعب المصائب، والجسد منهك، مل الوداع، فقوافل الشهداء تمضي دون وداع، والجرحى تعالج دون تخدير، والأطفال الخدج تموت اختناقا.

هذا هو حال غزة على وجه الخصوص، وحال فلسطين على وجه العموم، ودائما نقول: ” إن قضية فلسطين هي ضحية الأنظمة العربية، والفلسطينيون هم رأس حربة الدفاع عن شرف الأمة ومقدساتها.”

نؤمن بقدر الله تعالى، إيمانا ويقينا أنه لا يتحرك من متحرك، ولا يسكن من ساكن إلا في كتاب مسطور عند الله تعالى قبل خلق هذا الكون، قال ابن جرير في الفتح: وأما ما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: ” أولُ ما خلق اللهُ القلَمَ فقال اكتُبْ قال وما أكتُبُ يا ربِّ . قال اكتُبْ القدَرَ قال فجرى القَلَمُ في تلْكَ الساعَةِ بِما كانَ و بما هو كائِنٌ إلى الأبَدِ ” انتهى.

وفي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” أولُ ما خلق اللهُ القلمُ فقال له: اكتبْ فقال: يا ربِّ وما أكتبُ؟ قال: اكتب القدرَ ما هو كائنٌ من ذلك إلى قيامِ الساعةِ “.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ اللَّهَ قدَّرَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السَّمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ وَكانَ عرشُهُ على الماءِ ” مسلم.

فهذا كله يجعلنا على يقين بأن ما يحدث في الكون بصفة عامة، وفي غزة بصفة خاصة هو بعلم الله، وقدر الله، وإرادة الله، قال تعالى: “بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ”  وما دام أن الأمر كذلك فإنه خير، لأن الله تعالى لا يقدر إلا الخير، ولا يأمر إلا بخير، فهو سبحانه الخالق، وهو أعلم بالخير الذي يعود على الخلق، ولكن الإنسان ظالم لنفسه جهولا، فقد وصف الله الإنسان بقوله ” إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ” ولا يدري الإنسان انه كلما قل يقينه بالله تعالى قل استيعابه لمكامن الخير التي يخبئه الله للعباد، فكثير ما يكمن الخير في الشر، ويكمن الشر في الخير والإنسان لا يعلم ذلك إلا بعد فوات الآوان، لأن علمه وتقديره للأشياء ناقص قال تعالى: ” وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “.

وإن ما يحدث في فلسطين، هو قدر الله تعالى لخير لا يعلمه إلا هو سبحانه، وقد أشار الله تعالى إلى بعضه ببيان بركة هذه الأرض، وجعلها مركز قيادة للقضاء على الفساد والطغيان اللذين يمثلهما يهود الأرض واعوانهم، وقد ربط الله تعالى مركز القيادة هذا بمركز الدعوة في مكة لبيان قدسية المكان وخيريته فقال تعالى: ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ “

وقد بين الله تعالى بأن هلاك هذه الفئة الطاغية سيكون في هذه الأرض المقدسة، فإذا هي أرض صراع بين الحق والباطل، ولا ينتهي الصراع إلا بانتهاء الباطل، قال تعالى: ” وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ” وقال تعالى: ” فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا “

وبين النبي صلى الله عليه وسلم بأن فلسطين أرض رباط، والرباط لا يكون إلا لصد الشر والعدو، فكونها أرض رباط فهي إذا ميدان جهاد ومقاومة، والدفاع عن الدين والوطن والمقدسات، “قال صلى الله عليه وسلم: ” أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون، فمن نزل مدينة من المدائن فهو في رباط أو ثغراً من الثغور فهو في جهاد} رواه الطبراني ” وقال صلى الله عليه وسلم: ” أول هذا الأمر نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ثم يكون ملكاً ورحمة ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط وإن أفضل رباطكم عسقلان ” رواه الطبراني.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ” مسلم.
وما دام أن فلسطين أرض رباط وجهاد ومقاومة، إذا لا بد من القتل والفقد والدمار، لأن هذه طبيعة الحروب، ولكن عزاؤنا أن الله تعالى جعل قتلى المسلمين شهداء، والفقد امتحان لصبرهم وإيمانهم حتى يفوزوا برضوانه تعالى، قال في كتابه: ” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ “

وقال تعالى يطمئن المجاهدين وذويهم: ” إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ “

ولقد طمأن الله تعالى عباده بأن الأنفس لا تموت إلا بمعاد وأجل حدده سبحانه وتعالى لها قبل خلقها، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً ، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك ، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك ، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكا ، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ ، ويُقالُ له : اكتبْ عملَه ، ورزقَه ، وأجلَه ، وشقيٌّ أو سعيدٌ ؛ ثم يُنفخُ فيه الروحَ … ” البخاري.

فالآجال ليس لها علاقة بحرب أو سلم، أو مرض، أو صحة، قال تعالى: ” نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ” وقال تعالى: ” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ” ، فموت الأنفس بآجالها في الزمان والمكان والكيفية، قال تعالى: ” وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ “.

الأخذ بأسباب الأمن والسلامة واجب، ولكن إذا جاء الأجل لا يوقف الموت شيء، قال تعالى: ” أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ “

فقد جعل الله تعالى الموت والحياة فتنة يختبر بها الإنسان  فمن صبر واحتسب فاز، قال تعالى: ” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ” وقال تعالى: ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”

وقد وضح الله تعالى أن الفوز والفلاح ليس بمتاع الحياة الدنيا والخلود فيها  وإنما الفوز والفلاح برضى الله تعالى على العبد، فيدخله الجنة وينجيه من عذاب النار، قال تعالى: ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ “

إن الفقد صعب، وما تمر به غزة من حرب إبادة كارثة الكوارث،والإنسان ضعيف يزلزل قلبه، ويضطرب فكره أمام هذه المصائب، كيف لا وقد وصف الله تعالى الموت بالمصيبة ”  إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ  ” كيف لا وهو يرى ماله وبيته يدمر ويحرق أمام ناظريه ولا يستطيع أن يسعف أبناءه أو والديه، وأحبابه، فقد زلزل الصحابة وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ذلك القرآن ” هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ” فإنه من هول ما يلاقيه أهل غزة من فظاعة الجريمة والطغيان والإبادة، فهم غير مآخذين عما يصدر منهم في حالة الزلزلة.

ولكن من الواجب علينا أن نواسي بعضنا، ونصبر بعضنا، لأننا لا نملك غير ذلك، ونقول للمثبطين والمخذلين الذين يبثون الفزع والفتنة بين الناس، من أجل أن يحرضوهم ضد المجاهدين في سبيل الله، ويقذفون المجاهدين بالسب وعدم المسؤولية، وإن هذه الفئة ” المجاهدين ” هم الذين قادوا الشعب إلى التهلكة والقتل والدمار، نقول لهم ما قال الله تعالى: ” الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” ويقول تعالى للذين يفرون من مواجهة العدو حرصا على الحياة: ” قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا”

وقال تعالى: ” قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ “

وهذا هو قدر الله تعالى في خلقه، يفعل ما يشاء لأمر منه يريده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لأن طبيعة البشر الحرص على الحياة، والسعي لامتلاكها، والحزن على فقدها، فقد ذم الله تعالى المخلفين عن القتال في سبيل الله تعالى وبرروا ذلك بأنهم يخافون على متاعهم وبيوتهم ” وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ” .

فلسطين والأقصى يستحقوا منا الأنفس والدماء والأموال، لأن الجهاد من أجلهم من أعظم القربات التي تقدم إلى الله تعالى، فقد تحمل صلاح الدين الأيوبي وجيشه مشاق الطريق وعناء السفر من أجل تحريرها من الصليبين الذين كانوا يفوقون المسلمين عددا وعدة وعتادا، ولم يفكر المسلمون آنذاك في توازن القوى، بل كان جل تفكيرهم في توازن الرعب وتفوقه، وكانوا يستمدون قوة الرعب من إيمانهم بالله تعالى ويقينهم عليه سبحانه، واتباع هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، واليقين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم لأنهم  على حق في قضية حق من أجل تحرير مقدس.

فإن الله تعالى أمر المسلمين أن يعدوا من القوة لمقابلة الأعداء بقدر استطاعتهم، ولم يطلب منهم التوازن بها أو المساواة، قال تعالى: ” وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ” وكان يقينهم بقوله تعالى: ” وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ “

اللهم إن هذه غزة وهؤلاء جندك فيها فنصرك الذي وعدت يا رب العالمين .

والحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى