الحقوق السياسية لغير المسلم | الدكتور محمد عوام

الحقوق السياسية لغير المسلم | الدكتور محمد عوام

تطرقت في مقالين سابقين إلى حفظ حياة غير المسلم وحفظ ماله، وأن له كرامة ابتداء بحكم إنسانيته، وأن الشريعة تكفل له مجموعة من الحقوق، باعتباره فردا من المجتمع الإسلامي، وكيانا من نظام الدولة في الإسلام، لكن ميزة النظام الإسلامي أنه لم يغفل الحقوق السياسية لغير المسلم، ولم يقتصر على الجانب النظري، وإنما فعل ذلك عمليا عبر تاريخه الطويل، مما يدل على رسوخ هذه الحقوق، حتى لا يبقى غير المسلم بعيدا عن المشاركة في القرارات السياسية، ولا حتى بعيدا عن تقلد بعض المناصب في تسيير الشأن العام، من ثمة ارتأيت تناول هذا القضية في مسألتين من الأهمية بمكان، وهما:

الأولى: تولي الوظائف العامة والمناصب الوزارية.

حينما أعطى الإسلام غير المسلم جملة من الحقوق، فإنه لم يشترط في ذلك سوى الوفاء والالتزام بأحكام الشريعة التي تدبر الشأن العام، فبذلك وجدنا الفقهاء يوسعون من دائرة هذه الحقوق حتى شملت الاستوزار، وإسناد بعض وظائف الدولة لغير المسلم، واستثنوا من ذلك منصبين، وهما:

 أولا: الإمامة أو الخلافة أو رئاسة الدولة، وهي أعلى سلطة في الدولة، لأن القصد منها “حراسة الدين وسياسة الدنيا به”،  لأجل هذا لا ينبغي لغير المسلم أن يكون على رأس هرم الدولة، وهو من البداهة بمكان، بحيث تعمل به كافة الدول المعاصرة اليوم، فلا ضير أن تكون للإسلام السلطة العليا.

ثانيا: الإمارة على الجهاد، وهو من الأمور الخاصة بالمسلمين، فغير المسلم، ليس مكلفا بالجهاد البتة، فمن الحكمة والعقل أن تسند إمارة الجهاد إلى المسلم، على أن غير المسلم له أن يشارك المسلمين في الجهاد عن طواعية واختيار، دون المس بأمن الدولة أو التجسس عليها لصالح العدو. كما أن للدولة الإسلامية أن تمتنع من الاستعانة بهم، فهذه القضية خاضعة لاستراتيجية الدولة وحفظ مصالحها.

 وعن بيان أهمية هذين المنصبين، وتعليل منع غير المسلم من توليهما يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: “وحجب هذه الوظائف القليلة عن الذمي ينبغي أن لا يثير استغرابا ولا دهشة، لأن الوظيفة في نظر الشريعة الإسلامية تكليف لا حق، كما قلنا. وللدولة أن تشترط بعض الشروط الخاصة –التي تراها ضرورية- فيمن تكلفه ببعض الوظائف المعينة. كما أن هذه الوظائف القليلة، التي لا يكلف بها الذمي، تقوم على أساس العقيدة الإسلامية أو تتصل بها، ويظهر فيها عنصر التدين بارزا، فكان قصرها على المسلم سائغا مقبولا، لأن الذمي لا يشارك المسلم في أمور الديانات ولا فيما يتصل بالعقيدة الإسلامية أو يقوم عليها.”[1]

وهذا لا يعني عدم الاستفادة من خبرة غير المسلم، والانتفاع بفنون صناعته وتداريبه الحربية، وإن كان من الواجب الشرعي أن تحصل الكفاية للمسلمين، فيستغنوا عن غيرهم خاصة في هذا المجال الحساس، الذي عادة غير المسلم لا يكون فيه مخلصا، ولا يكشف عن كافة خبرته.

 وما عدا هذين المنصبين، أعني رئاسة الدولة (الإمامة الخلافة) وإمارة الجهاد، فيجوز للدولة الإسلامية، في شخص رئيسها أو إمامها أن يسند بعض الوظائف العامة إلى غير المسلم، كالاستوزار مثلا، من ذلك ما سماه الفقهاء وزارة التنفيذ، قال الماوردي مبينا وظيفة وزير التنفيذ: “وَهَذَا الْوَزِيرُ وَسَطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّعَايَا وَالْوُلَاةِ يُؤَدِّي عَنْهُ مَا أَمَرَ، وَيُنَفِّذُ عَنْهُ مَا ذَكَرَ، وَيُمْضِي مَا حَكَمَ، وَيُخْبِرُ بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنْ مُهِمٍّ وَتجدد مِنْ حَدَثٍ مُلِمٍّ؛ لِيَعْمَلَ فِيهِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَهُوَ مُعِينٌ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ بِوَالٍ عَلَيْهَا وَلَا مُتَقَلِّدًا لَهَا.”[2] لذلك ألفينا من جعل منصبه يشبه الوزراء في الدول الحديثة، لأنهم في الحقيقة ينفذون قرارات وسياسة مجلس الوزراء.

 ومهما يكن من اجتهادات بين الفقهاء في هذا المجال السياسي، المتعلق باستوزار غير المسلم، فإنه لا جرم أن واقع الدولة الإسلامية عبر التاريخ، أعني من زمن الخلفاء إلى الخلافة العثمانية، بل إلى يوم هذا، يشهد شهادة حق على ذلك التسامح الفريد، الذي على إثره تقلد غير المسلمين من أهل الذمة مناصب ووظائف مهمة.[3]

وهنا حقيق بنا أن ننقل هذا الوجه المشرق الدال على التسامح مع غير المسلمين، بتقليدهم وظائف، ننقله بالرغم من طوله لأهميته عن عبد الكريم زيدان من كتابه الفذ (أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام)، قال في سياق حديثه عن واقع الذميين في الدولة الإسلامية: “فعمر بن الخطاب عندما جاءه سبي قيسارية جعل بعضهم في الكتابة وأعمال المسلمين. وسليمان بن عبد الملك عهد بالإشراف والنفقة على أبنائه وبناء مسجد الجماعة في بلدة الرملة في فلسطين إلى كاتب نصراني يقال له البطريق ابن القنا.

ولما فتح المسلمون مصر أبقوا العمال البزينطيين، وكان من هؤلاء شخص يدعى ميناس، كان هرقل قد ولاه أعمال المنطقة الشمالية من مصر. ومن الأشخاص المعروفين “أثناسيوس” الذي شغل بعض مناصب الحكومة في مصر زمن الأمويين حتى بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الإسكندرية. وهكذا كانت عادة الأمويين في تعيين النصارى في وظائف الدولة، وقلما خلا منهم ديوان من دواوينها، حتى كان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني اسمه سرجون.

وفي زمن العباسيين عين الخليفة أبو جعفر المنصور يهوديا اسمه موسى، كان أحد اثنين في جباية الخراج. وعين الخليفة المأمون أحد وجهء “بورة” من مدن مصر، اسمه بكام، رئيسا لبلدته وإقليمها. وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، منهم نصر بن هارون سنة 369ه. وعيسى بن نسطورس النصراني سنة 380ه…

والدولة العثمانية، وهي الدولة الإسلامية المتأخرة، جرت على ما جرت عليه دول الإسلام، وزادت عليه. فكانت تسند الوظائف المختلفة إلى رعاياها من غير المسلمين، وجعلت أكثر سفرائها ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى.”[4]

مما جعل المؤرخ آدم متز يتعجب من هذا التصرف، فدوَّن تعجبه وانبهاره قائلا: “من الأمور التي نعجب بها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية.”[5]

الثانيةالترشح للمجالس النيابية، وهي من المسائل المعاصرة، فإذا كان فقهاؤنا العظام قد أجازوا استوزار غير المسلم، فقالوا بتقليده منصب وزير التنفيذ، وغيرها من المناصب، وإذا كان غير المسلم يتمتع بحقوق مهمة في ظل الدولة الإسلامية، كما سبق أن قررنا ذلك في المباحث المنصرمة، فإنه لا جرم من حسن المعاشرة وحقوق المواطنة تمتيع غير المسلم بالترشح للمجالس النيابية، بل إنه من حق غير المسلمين أن يكون لهم من يمثلهم في تلك المجالس، فيشاركوا إخوانهم في الوطنية من المسلمين، باقتراحاتهم وآرائهم، طبعا لا يحصل هذا إلا في ما ليس فيه نصوص  قطعية، ودائرة العفو في الشريعة تسع الجميع، مسلمين وغير مسلمين،[6] ونحن نقيد هذا المنحى بما يلي:

  • أن يظهر من المترشح غير المسلم إخلاصه للوطن واحترامه لدين المسلمين.
  • أن يكون متحريا النصيحة والتفاني في خدمة الوطن والمواطن دون تعصب ديني أو عرقي.
  • أن لا يقيم علاقات خارجية مع المناوئين للمسلمين والمحاربين لهم.
  • أن لا يتلقى دعما خارجيا، لأنه ينزل منزلة الرشوة لمناهضة الدولة الإسلامية.


[1] أحكام الذميين والمستأمنين 78،79.

[2] الأحكام السلطانية 56، النظريات السياسية الإسلامية 266.

[3] انظر أحكام الذميين 81،82.

[4] نفس المصدر 81،82.

[5] نقلا عن أحكام الذميين 81،82.

[6] انظر المصدر السابق 84، ومن فقه الدولة في الإسلام 193.

(المصدر: مركز المقاصد للدراسات والبحوث)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى