مقالاتمقالات المنتدى

الجغرافيا تصنع الفارق: مناهضة التطبيع وسيناريو ألمانيا الغربية في سورية

الجغرافيا تصنع الفارق: مناهضة التطبيع وسيناريو ألمانيا الغربية في سورية

 

بقلم د. طالب عبد الجبار الدغيم (خاص بالمنتدى)

 

 

تَوافق مجلس النواب الأمريكي بأغلبية أعضائه من الحزبين الجمهوري والديموقراطي على مشروع قانون “مناهضة التطبيع مع نظام بشار الأسد”، بعد قانون قيصر، وقانون الكبتاغون، ليكشف نظام الأسد فوق ما هو عليه من بشاعة وإجرام، بأنه داء سرطاني، وأصبح يهدد الاستقرار والأمن العالمي، فالقانون لا يُدين انتهاكات الأسد وعصاباته وحُلفاءه بحق السوريين، وإنما يُبين أبعاد خطرهم وإرهابهم، وهذا القانون هو بمثابة تحذير لكل جهة أو حكومة قريبة من النظام السوري، أو تحاول أن تطبع علاقاتها معه بأي شكل من الأشكال.

لم تفلح المقاربات والطروحات الروسية والتركية والإيرانية من جهة، أو المبادرات العربية من جهة ثانية في وضع حد لمأساة الشعب السوري، وهذا سببه طبيعة الخلاف البيني بين النظام والشعب، فطبيعة خلافات الأسد مع الشعب السوري ليست شكلية أو إجرائية لتحسين الظروف المعيشية والخدمية، ووقف التجاوزات الأمنية فقط، بل هي قضية الملايين من السوريين، الذين تعرضوا لكل أشكال القمع والوحشية، والتهجير، باتوا يعيشون في مخيمات اللجوء، وفي دول الجوار، وفي الشتات العالمي؛ قدوا مئات آلاف الشهداء، وتهدمت بيوتهم، وهاجر سكان مدن وقرى وبلدات بأكلمها قسراً، ودَمر النظام ما يزيد عن 60 % من البنى التحتية، وهناك الآلاف من المفقودين والمعتقلين في سجونه؛ يعانون العذاب والقهر يومياً، بالإضافة إلى الشرخ الاجتماعي والجغرافي، والانهيار الاقتصادي الشامل.

وأمام حالة الاستعصاء السياسي والأمني والاقتصادي، ظهرت مجموعة من الطروحات، ولا ننسى أن الجهد الاستثنائي الذي بذله “التحالف الأمريكي لأجل سورية”، وأبناء الجالية السورية في الولايات المتحدة الأمريكية، في استصدار تشريعات وقوانين أمريكية تضع الأسد في خانة مجرم الحرب على الأقل في نظر اللاعبين الغربيين الذين يمتلكون الكثير من أوراق الضغط والتأثير في النظام وداعميه، كما دأب عدد من الخبراء، ومن بينهم الخبير الاقتصادي السوري الدكتور أسامة القاضي في طرح مشروعات استشرافية لمستقبل سورية الموحدة والحرة، وهو الذي كان له دور في وضع الدراسة الاستشرافية مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP  عام 2007م، بعنوان: “استشراف مستقبل سورية عام 2025م”، وانبثقت فكرته من طبيعة الجغرافيا السورية، ومن حالة الاستعصاء التاريخي أمام إخفاق لقاءات جنيف وأستانا وسوتشي وإستانبول، وفشل اللقاءات الأردنية – العربية مع نظام الأسد في الآونة الأخيرة.

طرح الدكتور أسامة القاضي مشروع توحيد سورية بما يحاكي نموذج ألمانيا الغريية بنهكة الاقتصاد السياسي، والذي يندرج ضمنه إعادة إعمار سورية، وهذا المشروع يمهد للحرية والسلم الأهلي. فما هو هذا المشروع؟

استند القاضي في طرحه على ميثاق الأمم المتحدة في المادة (1)، ومقاصد المنظمة الدولية للحفاظ على السلم الداخلي الذي تسبب بهدره نظام الأسد وحلفاؤه، ومن أجل وقف نزيف الدم السوري، واستعادة أكثر من عشرة ملايين نازح قسري، وللحفاظ على السلام مع الإقليم والعالم بعدما نجم عن سياسة نظام الأسد في تصنيع وتهريب الكبتاغون والمخدرات والسموم والأسلحة إلى الأشقاء العرب ودول المنطقة، ما أدى إلى وضع سورية تحت العقوبات الاقتصادية، وأحالها مركزاً لتصدير العنف يستعدي العالم كله، وعليه جرى طرح هذا المشروع لأول مرة في عام 2022 من جانب “منظمة غلوبال جستس” و”التحالف العربي الديموقراطي” في ظل “المبادرة السورية الأميركية”، وعبر مبادرتي “سيناريو ألمانيا الغربية” و “الأرض الحرام”، وسُلّمتا رسمياً للدول الفاعلة، والجهات المعنية بالقضية السورية، وتفاعلت معها قوى اجتماعية وسياسية وعسكرية نخبوية وشعبية مختلفة.

انغماس الروس والإيرانيين في الدم السوري، وعجز الأمم المتحدة عن تطبيق 13 قراراً أممياً بخصوص الملف السوري، فضلاً عن إخفاقها في حماية اللاجئين السوريين في لبنان من الإهانة والترحيل، وحرمانهم من العمل والتعليم، ومخالفة القرارات الأممية 2118 لعام 2013، و2139 لعام 2014 ، و2165 لعام 2014، و2191 لعام 2014 ، و2254 لعام 2015، و2258 لعام 2015 وغيرها، وتفريغ القرار 2254 من محتواه، بحيث اختصرت العملية السياسية على أيدي الروس بـ “إصلاحات قانونية شكلية” تُعرض على مجلس الشعب في نظام الأسد، وحكومة وحدة وطنية بوجود نظام الأسد، وتقديم روسيا وإيران عبر مسار أستانا على أنهما الضامنان للحل السياسي لتكريس وجودهما على الأرض السورية، وهذا ما يعني إلزام عشرات الأجيال السورية القادمة بعقود بيع الأصول السيادية السورية التي وقعها نظام الأسد، وستكون كارثة اقتصادية وأمنية على الشعب السوري.

شكل مشروع توحيد ألمانيا الغربية تحولاً تاريخياً سياسياً واقتصادياً وأمنياً هائلاً على مستوى ألمانيا وأوروبا والعالم، والذي اِبتدأ بتوحيد مناطق الحماية البريطانية والأمريكية في ألمانيا بما عُرف بـ “ألمانيا الغربية”، وانتهى بتوحيد شطري ألمانيا؛ إذ كانت هذه العملية تهدف إلى دمج جمهوريتي ألمانيا الفيدراليتين الغربية (البوندسريبوبليك) والجمهورية الديمقراطية الألمانية (شرق ألمانيا) لتشكيل دولة ألمانيا الموحدة، وقد وقعت الدولتان اتفاقيات توحيد في مايو 1990م، تم بموجبها إجراء انتخابات في ألمانيا الشرقية، وفي يوليو 1990م، وُحدت العملة الألمانية، وطُبق الدينار الألماني الغربي في الشرق، وأُجريت إصلاحات اقتصادية لتكامل النظامين. وفي 3 أكتوبر 1990م، دخل توحيد ألمانيا حيز التنفيذ. وقد جاءت هذه العملية بتحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، ولكنها نجحت في تحقيق الوحدة والتكامل في السنوات التي تلت سقوط الجدار البرليني، فكان مشروع الدكتور القاضي “نموذج ألمانيا الغربية”، بمثابة مقاربة منطقية لإنهاء الأزمة في سورية بشكل تدريجي ومدروس.

ويقضي المشروع بتوحيد مناطق النفوذ التركية (10.98%)، والنفوذ الأمريكية (25.64%) في شمال وشرق وجنوب سورية، لتشكل بهذه العملية حزاماً جغرافياً، يمتد من جبل التركمان في شمال غرب سورية حتى جبل العرب في جنوب غرب سورية، وتكون مناطق سيطرة نظام الأسد التي تحكمها القوات الروسية والحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة لإيران والأسد في الوسط السوري، محاطة بهذا الطوق الأمني والسكاني والاقتصادي الكبير، والذي يدعمه وجود نحو 3,6 مليون لاجئ سوري في تركيا، وأكثر من مليون لاجئ في الأردن ومثلهم في لبنان، وأكثر من 6,7 مليون نازح داخلياً معظمهم يقيمون في منطقة النفوذ التركي، ويعزز هذا الزخم السكاني الأهمية البالغة للحدود بين سورية وتركيا التي يبلغ طولها نحو 911 ميلاً (1466كم)، وتعتبر بوابة السوريين إلى الأسواق التركية والآسيوية والأوروبية.

إن طرح مشروع اقتصادي وسياسي وأمني، يشمل مناطق نفوذ الأتراك والولايات المتحدة الأمريكية، هو ما يحقق مصالح الفاعلين الإقليميين في تطويق الأسد وعصاباته وحلفائه، والحيلولة دون تصدير مزيد من أطنان الكبتاغون إلى الأردن، والبحر الأبيض المتوسط والعراق وتركيا، ويقوض من علاقاته العربية والدولية، وهو ما يضمن التقليل من حجم الكارثة السورية، وشرورها العالمية، ويؤدي إلى ضمان عودة الشعب السوري لمناطقه الآمنة. وهنا سيكون لزاماً على المقيمين في مناطق سيطرة الأسد الهجرة العكسية أو التذمر ضد الأوضاع القائمة في مناطق في ظل التدهور الاقتصادي، والتسلط الأمني، وتزايد حالات الخطف، والجوع والإذلال التي باتت السمة الغالبة، والقاسم المشترك في مناطق النظام السوري.

ولا بد بهذه الحالة من البدء بعملية تقويض الحضور الفصائلي في مناطق النفوذ التركية والأمريكية بدعم دولي وعربي، وبالتالي، تشكيل حكومة تكنوقراط سورية مؤقتة، تُنظم عملية انتخابات لمجلس نيابي خاص بمناطق الحماية. وإجراء انتخابات حرة ومستقلة لبناء مجالس المدن والمحافظات، وفقاً لقانون الإدارة المحلية السوري رقم 15 الصادر بتاريخ 11/5/1971م، الذي عطَّله نظام حافظ الأسد (الأب)، وتُنظم الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، وممثلين عن الدول العربية، وعبر لجنة وطنية سورية، تدير الانتخابات ضمن ظروف آمنة وحرة، هو ما سيجعل “مشروع ألمانيا الغربية” البداية الفعلية لحل الأزمة من جذورها.

“الاستثناء السوري” كما أطلق عليه الكاتبة الفرنسية كارولين دوناتي في كتابها الذي طبعته دار لاديكوفيرت الفرنسية، والذي صدر عام 2009م، وتمحور حول الممانعة عن مشروع الحداثة بقيادة نظام الأسد، وهذا الاستثناء لم يتغير طالما أن الأسد يتربع على عرش آلام السوريين، ويُذيقهم من كأس الإذلال والقهر على أيدي مخابراته وشبيحته وحُلفائه، وطالما أن الجغرافيا السورية مسلوبة بهذا الشكل الصارخ لكل القوى المتصارعة محلية وإقليمية ودولية، فالطرح الذي جاء به الدكتور القاضي من بوابة الاقتصاد السياسي يحقق الانتقال الإستراتيجي نحو المستقبل الأفضل، وهو ما سيحقق تدريجياً دولة متوازنة، يتماهى فيها السوريون على اختلاف اثنياتهم وثقافاتهم ومناطقهم، فلا أحد يفضل الموت جوعاً أو الركوع للطغاة كبديل عن التنمية والازدهار والإعمار، وبناء دولة السلام والاستقرار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى