كتب وبحوث

التقعيد الفقهي عند المالكية وآثاره في استيعاب الواقع

إعداد : د. محمد الروكي

لا خلاف في أن التشريع الإسلامي بطبيعته ومادته وخصائصه قادر على مواكبة الحياة البشرية واستيعاب تطوراتها في نختلف المجالات، وأنه بذلك صالح لكل زمان ولكل إنسان، وغير أنه قد يثار في هذا الصدد السؤال المعروف وهو: أن النصوص الشرعية محدودة ومتناهية، وأن الحوادث والوقائع غير متناهية، بل هي متكاثرة ومتزايدة، فكيف للمحدود المتناهي أن يضبط غير التناهي ويستوعبه؟

والجواب عن ذلك: أن النصوص الشرعية إنما كانت صالحة لكل زمان ومكان وإنسان، لأنها تتضمن كليات وقواعد شرعية عامة موضوعية، مجردة عن الزمان والمكان، بحيث يصلح الاعتماد عليها في استيعاب ما يجد من الوقائع والحوادث عن طريق إدراج كل واحدة منها في دائرة نظائرها من هذه الكليات والقواعد الشرعية، وحتى النصوص الشرعية التي كان التنصيص فيها على مسائل بعينها فإن الفقهاء قد استنبطوا منها قواعد وكليات فقهية تتضمن أحكاما كلية منطبقة على أعيان تلك المسائل من جهة، وصالحة للانطباق على كل ما يجد من نظائرها من جهة أخرى.

وهكذا توصل الفقهاء بالنظر في النصوص الشرعية، واستقراء جزئياتها وآثار أحكامها، إلى قواعد وكليات كثيرة، منها على سبيل التمثيل:

– المشقة تجلب التيسير

– الحرج مرفوع

– الضرر يزال

– درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

– لا تكليف بما لا يطاق.

– الضرورات تبيح المحضورات.

– الضرورة تقدر بقدرها.

– الجزاء من جنس العمل.

– الأصل في العقود اللزوم.

– الشرط الباطل لا يؤثر.

فهذه القواعد والكليات تتضمن أحكاما شرعية كلية لا تقتصر على الجزئيات وأعيان المسائل التي صاحبت نزول القرآن أو صدور السنة وورودها، بل تشمل ذلك ونظائرها مما يمكن أن يجد في حياة المكلفين.

وبهذه القواعد والكليات يستطيع الفقهاء أن يستوعبوا التطورات والمستجدات في حياة الناس، ولذلك فقد اهتموا بهذه القواعد، وتوسعوا في تقعيدها، مستندين في ذلك إلى مختلف الأدلة الشرعية: منقولها ومعقولها، كما أنهم – على اختلاف مذاهبهم – اعتنوا بها اعتناءا جيدا على مستوى التصنيف والتأليف.

وأول ما وصلنا من هذه القواعد مصففة تصفيفا علميا: أصول الكرخي، لأبي الحسن الكرخي الحنفي يشتمل على تسع وثلاثين قاعدة من قواعد فقه الأحناف، وقد سمى كل واحدة منها أصلا، ومما جاء فيها من القواعد قوله:(1)

– الأصل أن ما ثبت باليقين لا يزول بالشك.

– الأصل أن أمور المسلمين محمولة على السواد والصلاح حتى يظهر غيره.

– الأصول أن للحالة من الدلالة كما للمقالة.

– الأصل أن القول قول الأمين مع اليمين من غير بينه.

– الأصل أن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة.

ثم توالى التأليف في القواعد الفقهية بعد ذلك في مختلف المذاهب، وتميز المالكية في ذلك بأمور، منها:

أولا: أنهم اهتموا بالقاعدة الفقهية اهتماما بالغا، وتعاملوا معها دقيقا عميقا يناسب قيمتها العلمية وحجيتها الشرعية، ويجعلها أساسيا للفقهاء، خصوصا المتصدرين منهم للإفتاء والقضاء. وقد أمعن الإمام القرافي في ذلك حيث اعتبر القاعدة الفقهية أصلا ثانيا للشريعة، قسيما لأصول الفقه، فقال رحمه الله: «إن الشريعة المعظمة المحمدية، زاد الله تعالى منارها شرفا وعلوا، اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:

  أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو غالب في أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم، ونحو ذلك، وما خرج عن النمط إلا كون القياس حجة، وخبر الواحد وصفات المجتهدين.

  والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من فروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجماع، فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف، فيها تنافس العلماء وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجذع، وحاز فصب السبق من فيها برع، ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصل طلبته في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان، فبين المقامين شأو بعيد، وبين المنزلتين تفاوت شديد».(2)

ثانيا: ومن مظاهر شدة اهتمامهم بالقاعدة الفقهية وعمق نظرهم فيها وإعمالهم لها: دقة تعريفهم لها، حيث يعتبر تعريف المالكية لها أدق تعاريف الفقهاء للقاعدة الفقهية وألصق بحقيقتها وماهيتها، فقد عرفها الإمام أبو عبد الله المقري بأنها: «كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة، وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة».(3) الأصول جمع أصل، وهو كما عرفه الشريف الجرجاني: «ما يثبت بنفسه، وينبني على غيره».(4) ويستفاد من هذا التعريف أن الأصل من حيث مفهومه الشرعي يتميز بأمرين:

1- إن حكمه ثابت بنفسه ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه بدليل خارجي.

2- إن غيره ينبني عليه، وهذا يقتضي أن يستدل به على غيره المبني عليه.

ووصف الأصل بأنه شرعي يعني أن حكمه مستفاد من الشرع، فالأصول الشرعية هي القواعد الكلية التي تستفاد من جملة نصوص الشرع عن طريق الاستقراء والتتبع، أو تعلم من الدين بالضرورة. وذلك كحلية الطيبات، وحرمة الخبائث، ورفع الحرج في الدين، ومراعاة مقاصد المكلفين، وغير ذلك من القواعد الشرعية.

والفرق بين الأصول الشرعية والنصوص الشرعية كالفرق بين المتواتر والآحاد، لأن الحكم حينما يرد منصوصا عليه بنص شرعي، يكون لزاما على الفقيه أن يفحص النص من حيث روايته وثبوته، ثم يفقه طريق دلالاته على ذلك الحكم، أما إذا ثبت عن طريق أصل شرعي، فلا حاجة إلى هذا السير، لأن الأصل لا يتوصل إليه إلا عن طريق استقراء نصوص الشريعة، فالفقهاء حينما قرروا – مثلا – أن من أصول الشرع: رفع الحرج عن المكلف، لم يتوصلوا إلى ذلك إلا عن طريق تتبع فروع كثيرة في العبادات والعادات والمعاملات، ومراعاة نصوص الشرع فيها، فتبين لهم من خلال هذا التتبع أن الشرع قصد إلى رفع الحرج عن المكلف في كل جزئية من جزئيات التكليف. فكانت الأصول الشرعية بذلك أقوى دلالة على الحكم من النص الشرعي الواحد.

والفقهاء لم يفرقوا فيما بسطوه من القواعد بين الشرعية منها والفقهية، بل جمعوا بين ذلك واعتبروه قواعد فقهية، وكان من نتائج ذلك: أنهم عانوا صعوبة التمييز بين هذا الخليط من القواعد، وعلى أي أساس وبأي مقياس يكون هذا التمييز؟ وهكذا نجدهم يدرجون قاعدة: «المشقة تجلب التسيير» و«الحرج مرفوع» و«الضرر يزال» و«الأمور بمقاصدها» ومثيلاتها في إطار القواعد الفقهية، في حين أنها أصول شرعية.

وبهذا يتضح معنى قول المقري: «كل كلي هو أخص من الأصول» بالمراد بالأصول في كلامه: الأصول الشرعية، والأصول إذا أطلقت في الاصطلاح الشرعي، فلا تنصرف إلا إلى ذلك، ولهذا قالوا: نصوص الشريعة وأصولها.

وقد اعتبر المقري القواعد الفقهية دون الأصول الشرعية في اتساع الدائرة وقوة الاشتمال على الفروع، والسبب في ذلك هو استناد الأصول الشرعية في قوة أحكامها إلى جملة نصوص الشرع، بينما تستند القواعد الفقهية في ذلك إلى آحاد النصوص، أو إلى ما يتقرر بها من الأدلة العقلية كالقياس والاستصحاب وغيرهما. كما أنه اعتبرها أعم من الضوابط الفقهية وأوسع نطاقا منها من حيث استيعاب الجزئيات، لأن الضابط الفقهي إذا راعينا معناه الاصطلاحي، فإنما يجمع فروعا من باب واحد، على خلاف القاعدة التي تنظم فروعا عديدة من أبواب شتى.

ثالثا: كثرة تقعيدهم للقواعد في المذهب:

ومن مظاهر هذه الكثرة أنهم لم يتركوا دليلا من الأدلة الشرعية المعتبرة في المذهب إلا وقعدوا به جملة من القواعد الفقهية، فقد رجعوا في ذلك إلى النص، والقياس الأصولي، وقياس العكس وقياس الدلالة، والاستصلاح، ومراعاة المقاصد، والاستصحاب، والترجيح، وغير ذلك مما يعتد به في الاستدلال وكان من نتائج ذلك: أن كثرت قواعدهم الفقهية حتى تجاوزت الألف، ومن أوسع ما ألف فيها بعد فروق القرافي: كتاب القواعد لأبي عبد الله المقري (تـ 756هـ) الذي جمع فيه أكثر من خمسين ومائتين وألف قاعدة.

هذه جملة من الخصائص التي ميزت التقعيد الفقهي عند المالكية، وقد ساعدت بمجموعها – إلى جانب عناصر وصفات أخرى – على جعل قواعد الفقه المالكي تحافظ على سعتها وعمق استيعابها للواقع، حتى صار التجديد واستيعاب الواقع خاصيتين من خصائص قواعد الفقه المالكي وأصوله.

ومن أبرز هذه القواعد التي تحمل معاني التجدد والسعة، وقوة الاستيعاب والسريان:

– الغالب كالمحقق.

– ما قارب الشيء يعطي حكمه.

– المعدوم شرعا كالمعدوم حسا.

– الموجود شرعا كالموجود حقيقة.

– للأكثر حكم الكل، والأقل تابع للأكثر، والأصغر يندرج في الأكبر.

– الشك في النقصان كتحققه.

– الحياة المستعارة كالعدم.

– من الأصول، المعاملة بنقيض المقصود الفاسد.

– اليسير مغتفر، وما لا يتحرز منه معفو عنه.

– الأصل في العقود اللزوم.

فهذه القواعد ومثيلاتها واضح من صياغتها وتجريدتها وبنائها الفقهي أنها واسعة النطاق، قوية الجريان والانطباق، صالحة لأن تضبط وتحكم تصرفات المكلف المعاصر في عباداته ومعاملاته وعاداته مهما لحقها من التجدد والتطور، لأن الأحكام التي تتضمنها هذه القواعد هي أحكام موغلة في العموم، وممعنة في الكلية، مجردة عن عنصر الزمان والمكان، غير مرتبطة بأعيان المسائل، فقاعدة «الحياة المستعارة كالعدم» – مثلا – تندرج فيها عند مالكية فروع كثيرة، منها:

– إذا خرج الجنين غير مستهل بصراخ لم يكن وارثا.

– إذا أجهز على من أنفذت مقاتله في المعترك فهو شهيد، إذ لا يغسل ولا يصلى عليه.

ويمكن لهذه القواعد أن تضبط كثيرا من مستجدات قضايا الحياة والنوازل المكلفين، فبمقتضاها – مثلا – لا يقام القصاص على الطبيب فيما يسمى اليوم بقتل الرأفة.

وهكذا أيضا قاعدة: «للأكثر حكم الكل» وأخواتها، فهي تضبط قضية الانتخابات، وتقنن عملية التصويت، واتخاذ القرارات، والبث في الأمور العامة للأمة، وإصدار الأحكام الدستورية، وغير ذلك مما يدخل في دائرة السياسة الشرعية، وما هو قريب منها.

وقاعدة «المعاملة بنقيض المقصود الفاسد» يمكن اعتمادها على نطاق واسع في تأديب المخالفين لمقصود الشرع ومعاملتهم بعكس ما قصدوا إليه في مختلف عقودهم والتزاماتهم وتصرفاتهم وسائر أفعالهم وأقوالهم…

للمزيد من بيان ذلك وتوضيحه نسوق بشيء من التفصيل مثالا واحدا يندرج في دائرة قواعد العقود ويعتبر من أهم فروعها، وهو مجلس العقد عند المالكية، فقد اختلفوا مع غيرهم من المذاهب في حقيقته وما به تكون ماهيته، وأبرز أطراف الخلاف في هذه المسألة معهم هم الأحناف، حتى اشتهر عند الفقهاء أن لحقيقته مجلس العقد نظريتين: نظرية الأحناف، ونظرية المالكية، وتقوم نظيرة الأحناف على أساس أن ضابط مجلس العقد هو وحدة المكان الذي يجمع العاقدين، ويبتدئ اعتباره بصدور الإيجاب من أحدهما ويستمر قائما ماداما منصرفين إلى التعاقد مشتغلين به في نفس المكان، وبمجرد انفصال أحدهما عنه أو تحوله ولو بخطوة، فإن المجلس يعتبر منفصلا، فلا يصلح حينئذ أن يكون وعاء لاتصال الإيجاب والقبول، فقد جاء في بدائع الكاساني قوله: «وعلى هذا إذا تبايعنا وهما يمشيان أو يسران على دابتين أو دابة واحدة في محمل واحد، فإن خرج الإيجاب والقبول منها متصلين انعقد، وإن كان بينهما فصل وسكوت وإن قل لا ينعقد، لأن المجلس تبدل بالمشي والسير وإن قل، وكذا لو خير امرأته وهي تمشي على الأرض أو تسير على دابة فمشت أو سارت يبطل خيارها لتبدل المجلس، وإن اختارت نفسها متصلا بتخيير الزوج صح اختيارها لأن المجلس لم يتبدل، ولو تبايعا وهما واقفان انعقد لاتحاد المجلس، ولو أوجب أحدهما وهما واقفان فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعا ثم قبل لا ينعقد، لأنه لما سار أو سارا فقد تبادلا المجلس قبل القبول، فلم يجتمع الشطران في مجلس واحد، ولو وقفنا فخير امرأته ثم سار الزوج وهي واقفة فالخيار في يدها، ولو سارت هي والزوج واقف بطل خيارها، فالعبرة بمجلسها لا بمجلس الزوج.

وفي باب البيع يعتبر مجلسهما جميعا، لأن التخيير من قبل الزوج لازم، ألا ترى أنه لا يملك الرجوع عنه، فلا يبطل بالإعراض، وأحد الشطرين في باب البيع لا يلزم قبل قبول الآخر، فاحتمل البطلان بالإعراض، ولو تبايعا وهما في سفينة ينعقد، سواء كانت واقفة أو جارية، خرج الشطران متصلين أو منفصلين، بخلاف المشي على الأرض والسير على الدابة، لأن جريان السفينة بجريان الماء إلا بإجرائه، ألا ترى أن راكب السفينة لا يملك وقفها، فلم يكن جريانها مضافا إليه فلم يختلف المجلس، فأشبه البين بخلاف المشي والسير…» (5 / 137).

فها أنت ترى أن الأحناف حينما جعلوا القاعدة في مجلس العقد هي وحدة المكان بين المتعاقدين ووجهوا بصعوبة تطبيقها وانطباقها على جميع حالات الانعقاد، لأن المجلس ليست له هيأة واحدة، ولا صورة واحدة، ولا طبيعة واحدة، هذا إذا كان بين العاقدين اتصال مباشر، فضلا عما إذا لم كان بينهما، فالصعوبة حينئذ في ضبط المجلس أشد وأعمق.

أما المالكية فالقاعدة عندهم في ذلك هي الوحدة الزمانية والموضوعية التي تربط بين العاقدين، فمجلس العقد عندهم يعني: الاستمرار الزماني الذي يظل فيه العاقدان متصلين موضوعيا بصدد العقد، مشتغلين معا بموضوعه، متجهين في كلامهما إلى قضيته، من غير أن يصدر من أحدهما إعراض عنه، أو انشغال بما سواه، فما دام كذلك فالمجلس قائم، وإن غيرا أو أحدهما موضوع العقد، اعتبر المجلس منقضا ولو بقيا في نفس المكان. جاء في شرح الحطاب على متن خليل: «والذي تحصل عندي من كلام أهل المذهب: أنه إذا أجابه في المجلس بما يقضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتفاقا، وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقا، وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عما كانا فيه حتى لا يكون جوابه جوابا للكلام السابق في العرف لم ينعقد البيع…». فقاعدة المالكية هنا أوسع وأعمق، بحيث لا تضيق عن استيعاب الحالات والصيغ التي يتم بها العقد، وهي متماشية مع ما جد في حياتنا المعاصرة من وسائل وأساليب للتعاقد لم يعرفها القدماء ولمقتضاها يمكن للعاقدين أن يبرما العقد بالاتصال المباشر، أو الاتصال الهاتفي أو اللاسلكي، أو غير ذلك من وسائل الاتصال المعاصرة التي تعتمد فيها التقنيات الحديثة… فهي صالحة لضبط مجالس العقد في كل هذه الحالات وبجميع أساليبها وأشكالها.

ومما يرتبط بآثار هذه القاعدة وامتداداتها أن للعاقدين في ضوئها أن يبرما العقد بكل ما يحصل به التعبير عن إرادتهما، سواء كان ذلك بالكلام، أو كان بما يقوم مقامه من الإشارة المفهمة، أو الكتابة، أو الهاتف، أو المعطاة، أو عن طريق الحاسوب أو غير ذلك…

إن في تراث الفقه المالكي – وغيره من فقه المذاهب – ثروة ضخمة من القواعد الفقهية الكلية، سواء منها ما هو مبسوط في مظانه المباشرة ككتب القواعد وكتب الفروق والاستثناء وكتب الأشباه والنظائر، وكتب الأصول والضوابط، أو ما هو مبثوث ف يكتب الخلاف، وعلى البحث العلمي في الدراسات الفقهية أن ينكب على هذه الكتب ويستخرج ما فيها من قواعد ونظريات، ثم يعكف على دراستها دراسة علمية نظرية وتطبيقية، سعيا بذلك إلى تعميق البحث الفقهي وتطوير مناهجه في عرض مادته وصياغة مضامينه، وعملا على النهوض بالفقه الإسلامي إلى أعمق مستوى في التقعيد والتنظير والتقنين، حتى يبقى محافظا على قوة استيعابه لما تعج به الحياة البشرية من حوادث وقضايا…

—————————————

1) أنظر هذه الأمثلة في أصول الكرخي، مطبوع بآخر كتاب: تأسيس النظر للدبوسي بالمطبعة الأدبية بمصر / بدون تاريخ. (ص: 50 – 51 – 52 – 53).

2) الفروق للقرافي: ج: 1 / ص: 2 – 3.

3) قواعد المقري: ص: 4 (مخطوط خاص).

4) انظر «التعريفات» للشريف الجرجاني ص: 25.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى