كتب وبحوث

التأصيل المقاصدي لأصول الفقه عند الشاطبي (الجزء الثاني)

إعداد: أحمد بيبني الشنقيطي.

تحدثنا في الجزء الأول من هذا البحث عن أصول الفقه عند الشاطبي، وقراءته المقاصدية لهذا العلم قراءة متميزة وخلفية أبيستمائية متنورة. واستعرضنا التصميم الذي قدمه الشاطبي لهذا العلم بالمقارنة مع المستصفى، والأصول الإجمالية والقواعد الأصولية كما تطرق لها الشاطبي. وفي هذا الجزء نتناول الأحكام الشرعية وقضية الاجتهاد بالإضافة إلى مميزات أصول الفقه عند الشاطبي والتوصيات.

المطلب الرابع: الأحكام الشرعية:

تأتي الأحكام في صدارة المباحث الأصولية، وقدمها الغزالي في المستصفى فقال: “والبداءة بها أولى لأنها الثمرة المطلوبة، وقد تناولها الأصوليون تناولا إشكاليا يبتعد عن الغايات والمعاني والمقاصد”. أما الشاطبي فتناولها تناولا مقاصديا فقال: “الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد، فإذا عريت عن المقاصد لم تتعلق بها والدليل على ذلك أمور:

أحدها: هو ما ثبت من أن الأعمال بالنيات، وهو أصل متفق عليه في الجملة. والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع. ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال، إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب الوضع خاصة. أما في غير ذلك فالقاعدة مستمرة، وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات. والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا فكذلك ما كان مثلها.

والثاني ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والصبي والمغمى عليه، وأنها لا حكم لها في الشرع..

والثالث الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة. وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق”[1]. هذه القاعدة تكر على الأحكام عند الأصوليين بالترشيد والتسديد، حيث اختفلوا في مسائل أحكامية لا معنى للخلاف فيها إذا عُرِضَت على المقاصد، حيث سيظهر الحكم فيها لكل ذي عينين.

1 ـ الواجب: وقد تناول فيه الأصوليون مجموعة من المسائل والتفريعات المتفرقة، مثل قولهم: ينقسم الواجب إلى ضيق وواسع، وقولهم: ينقسم الواجب إلى معين ومبهم، ومثل بحثهم في الواجب المختلط -مثل الصلاة في الدار المغصوبة، ويتناول الأصوليون في هذا الموضوع الأسبقية بين الكفائي والعيني. تناول الشاطبي هذا الموضوع بإدخال الناحية المقاصدية فيه، فكان من نتائج ذلك تكثير الأمثلة وتنوعها. فأمثلة الواجب هي الصلاة والزكاة والحج والصوم. ورغم أهميتها فقد أضاف الشاطبي واجبات أخرى لا تأتي في الكتب الأصولية إلا نادرا، مثل: العدل والإحسان والوفاء بالعهد وأخذ العفو من الأخلاق والإعراض عن الجاهل، والصبر والشكر، ومواساة ذي القربى والمساكين، والفقراء والاقتصاد في الإنفاق، والإمساك، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف والرخاء، الانقطاع إلى الله، والتوفية في الكيل والميزان، واتباع والصراط المستقيم، والذكر لله وعمل الصالحات، والاستقامة والاستجابة لله، والخشية والصفح، و وخفض الجناح للمؤمنين، والدعاء إلى سبيل الله، والدعاء للمؤمنين، والإخلاص والتفويض والإعراض عن اللغو، وحفظ الأمانة، وقيام الليل والدعاء..[2]

وتفرد الشاطبي في هذا الموضوع بالحديث عن الواجب بالكل وواجب بالجزء، فقال: “العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي”، مثل وجوب صلاة الظهر، وصلاة الجمعة، أما الواجب الكلي فيعني تأثير العدد على الواجب، فإنَّ القيام به مرة واحدة ليس كالمواظبة عليه، وتركه مرة واحدة ليس كإهماله الزمن كله، ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم: “من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه”[3]

كما تعرض الأصوليون إلى الواجب الكفائي والواجب العيني، ولكنهم أهملوا عاملا أساسيا هي جهة الفاعل؛ أي أنهم جردوا النظر في البحث، ولم ينزلوا إلى الإمكانات والواقع. فالواجب الكفائي يسقط في حالة قيام البعض لكن هذا البعض غير متعين، وهو قصور واضح في النظر، قال الرازي: “إن البعض معين عند الله تعالى مبهم عندنا”.[4]

يقول الشاطبي: “طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول أنه متوجه إلى الجميع. لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. وما قالوه صحيح من جهة كلي الطلب، وأما من جهة جزئيه ففيه تفصيل. وينقسم أقساما وربما يتشعب تشعبا طويلا، وليكن الضابط للجملة من ذلك أن الطلب وارد على البعض ولا على البعض كيف كان، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك المطلوب لا على الجميع عموما”[5]. وينتهي التحليل عند الشاطبي أن الواجب الكفائي غير مطلق. والدليل على ذلك قوله تعالى: ((ومَا كَانَ الـمُؤمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَولَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طَائِفَةٌ))، التوبة: 122. فورد التخصيص على طائفة لا على الجميع. وقوله: ((وإِذَا كُنتَ فِيهِم فَأَقَمتَ لَهُم الصَّلَاةَ فَلتَقُم طَائِفَةٌ مِنهُم….))، النساء: 102. وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع. والثاني ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى؛ كالإمامة الكبرى أو الصغرى؛ فإنها إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس، وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والغِنَاءِ فيها. وكذلك الجهاد حيث يكون فرض كفاية إنما يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة، وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد؛ فإنه من باب تكليف ما لا يطاق. ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة وكلاهما باطل شرعا.

2 ـ المباح: من الغريب أن هذا الموضوع هو ما استفتح به الشاطبي كتاب الأحكام. ولم يكن ذلك ضربة لازب، بل كان يخفي وراءه مكانة هذا الباب في بناء الأحكام الشرعية وتوسيعها. ويمثل المباح عند ابن حزم ما يمثله القياس والاستصلاح وكافة الأصول الأخرى عند غيره. يقول ابن حزم: “لما أنزل الله الشرائع فما أمر به فهو واجب، وما نهى عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلقا، حلال كما كان”[6]. ويتلخص موقف الشاطبي هنا بالدفاع عن المباح، وأنه أقرب إلى أن يكون مثابا على فعله على نحو موقف الكعبي. وذلك بعد أن عرض هذا الموضوع على الطريقة الجدلية: وهي الأطروحة، ويمثلها موقف الكعبي القائل بأن المباح مأمور به إذ في القيام به ترك للحرام؛ ونقيض الأطروحة، ويمثله بعض الفقهاء والمتصوفة الذين يرون في الانتهاء عنه بعدا عن المحرمات كحاجز؛ أما التركيب فهو توفيق بين الموقفين المعارضين.

3 ـ السبب: لقد تناول الأصوليون هذا الموضوع تناولا جافا. وذكره الغزالي في أربعة فنون قصيرة جدا، يطبعها الطابع الجدالي. ففي الفن الأول تناول الأسباب بالتعريف والأمثلة، كقوله تعالى: ((أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ))، الإسراء: 78، وقوله تعالى: ((فمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ))، البقرة: 185؛ فهما سببين للصلاة والصوم. وأما قسم المعاملات فلِحِلِّ الأموال والإبضاع وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره. ورغم أهمية هذا الكلام لكن الغزالي كان مهموما بالنظر الكلامي، فغلب عليه ذلك الاتجاه على النظر المقاصدي؛ لذلك نراه يقول بأن هذه المسائل ظاهرة، أي بسيطة؛ ليصرف الاهتمام إلى البحث عن ارتباط الأسباب بالمسببات. فقال: “فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به، ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية، لأنها لا توجب الحكم لذاتها، بل بإيجاب الله تعالى ولنصبه هذه الأسباب علامات لإظهار الحكم. فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة، فشابهت ما يحصل الحكم عنده. وأمثلة ذلك أن التردية ليست سببا للهلاك”[7].

لكن الشاطبي رغم هذا يقدم نظريات جديدة في هذا الموضوع تتلخص في النقاط التالية:

تلازم الأسباب مع المسببات، مما يؤكده العقل والنقل. فالسبب إذا لم يكن لغاية كان عبثا، والشارع لم يضع الأسباب إلا ويقصد منها مسبباتها التي هي جلب المصالح ودرأ المفاسد. قال الشاطبي: “وأدلته في الشرع كثيرة بالنسبة إلى الأسباب المشروعة والممنوعة. كقول الله تعالى: ((مِن أَجلِ ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ)) إلى قوله: ((ومَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النَّاسَ جَمِيعًا))، المائدة: 32. وفي الحديث: (ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، لأنه أول من سنَّ القتل، وفيه: (من سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها)، وكذلك: (من سن سنة سيئة)، وفيه: (أن الولد لوالديه ستر من النار، وأن من غرس غرسا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزأه أحد إلا كان له صدقة) وكذلك الزرع”[8].

أما الأدلة العقلية فإن الفصل بينهما يفقد العمل أو السبب هنا قيمته. فإن العلماء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هي موجودات فقط، بل من حيث ينشأ عنها أمور أخر، وإذا كان كذلك لزم من القصد إلى وضعها أسباب القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات.

الدليل العقلي الثاني هو أن الأسباب في جانبها التكليفي مثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين، وتحريم المصاهرة، وحلية الاستمتاع، والذكاة سببا لحلية الانتفاع بالأكل، والسفر سببا في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سببا للقصاص، إنما شرعت لتحقيق المقاصد ودرء المفاسد. يقول الشاطبي: “فمن المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد، فالتكليف كله إما لدرء المفسدة وإما لجلب المصلحة أو لهما معا”[9]. ويتساءل الشاطبي فيما إذا كان هذا التلازم في جميع الأحكام العادية والعبادية أم لا؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن قصد المسببات لازم في العاديات، لظهور وجوه المصالح فيها، بخلاف العبادات فإنَّها مبنية على عدم معقولية المعنى. فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات. لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح أو المفاسد، وهي ظاهرة في العاديات، وغير ظاهرة في العبادات. وإذا كان كذلك فالالتفات إلى المسببات والقصد إليها معتبر في العاديات؛ ولاسيما في المجتهد. فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها”[10].

المطلب الخامس: الاجتهاد:

المجتهد وشروطه:

وإذا كان هاجس الأصوليين هو الامتلاء بالنصوص حيث قال الغزالي في بداية كلامه عن الاجتهاد: “الركن الثاني المجتهد، وله شرطان، أحدهما أن يكون محيطا بمدارك الشرع متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره، والشرط الثاني أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة”. فإن هاجس الشاطبي كان معرفة المقاصد فقال: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كماله. والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها. أما الأول فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلف، إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات. واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف، هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في التعليم والفتيا، والحكم بما أراه الله”[11]، ولما كان موضوع البحث في النصوص هو المقاصد والمعاني فلا يلزم في الاجتهاد: “العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة”[12]. فالمعاني مجردة لا تختص بلغة دون لغة، ويمكن أن تفهم عن طريق الترجمة من اللسان العربي إلى اللسان الأعجمي، ويصح الاجتهاد فيها: “ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية.. وأيضا فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج إلى مقتضيات الألفاظ إلا في ما يتعلق بالمقيس عليه وهو الأصل”[13].

نفس الاجتهاد ومجاله:

أما عن نفس الاجتهاد فلم يتحدث عن القياس بالمفهوم الأصولي والاختلاف بين المؤيدين والرافضين، ولم يتحدث عن قياس العلة وقياس الدلالة وقياس الشبه، وغير ذلك من أشكال القياس، والمواضيع التي يحتار فيها العقل، وينقلب فيها النظر خاسئا وهو حسير. فقد قال الغزالي في (شفاء الغليل) بأن قياس الشبه: “يمثل المغاصة الكبرى، والغمرة العظمى، فقد عزَّ على بسيط الأرض من يعرف معنى الشبه المعتبر، ويحسن تمييزه عن المخيل والطرد، على نهج لا يمتزج بأحد الفنين”[14]. وحكى الإمام الشوكاني عن الأبيارى أنه قال: “لست أرى في مسائل الأصول مسألة أغمض منه”، وقال إمام الحرمين الجويني: “لا يمكن تحديده”.[15] وسيقول الغزالي بأن قياس الشبه هذا يمثل أكثر مظاهر القياس، وأن جلَّ أقيسة الفقه تنتمي إليه.

أما الشاطبي فهو إنما تحدث عن الاجتهاد بمعنى تحقيق المناط، وهو في معنى قياس العلة، حيث هي منصوص عليها، وإنما المطلوب هو تنزيلها على آحاد الصور. قال الغزالي في تعريفه: “أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه، مثاله الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد، مع قدرة الشارع في الإمام الأول على النص، وكذا تعيين الولاة والقضاة، وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات، وإيجاب المثل في قيم المتلفات وأروش الجنايات، وطلب المثل في جزاء الصيد. فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية، وذلك معلوم النص، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين”. وقد قسمه ­إلى نوعين؛ أحدهما تحقيق المناط، والثاني تحقيق المناط فيما تحقق مناطه.

وعرفه الشاطبي بقوله: “فإذا شرع المكلف في تناول الخمر مثلا، قيل له أهذا خمر أم لا؟ فلا بد من النظر في كونه خمرا أو غير خمر، وهو معنى تحقيق المناط، فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر قال: نعم هذا خمر، فيقال له: كل خمر حرام الاستعمال فيجتنبه”[16].

ويمثل هذا القياس امتدادا للنص، فقبله منكرو القياس. قال الغزالي: “اعلم أنا سبرنا النظر الفقهي في المسائل القياسية التي يظن أنها مستندة على إلحاق فرع في أصل جامع فوجدناه منحصرا في فنين: أحدهما تنقيح المناط والثاني تحقيق مناط الحكم”[17]. وقال الشاطبي بأنه محل إجماع المجتهدين، وإليه ينتهي طلقهم -حسب عبارته. ويتميز هذا الاجتهاد بأنه لا يخص المجتهدين، بل يخص كل فرد، مما يعني تحديدا جديدا للاجتهاد ينزل به على أرض الواقع. يقول الشاطبي: “فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس الصلاة أو من جنسها، إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه”[18]. والشاطبي يتناول القياس في إطار الاجتهاد الذي يهتم بالواقع وتنزيل الأحكام حسب المعطيات الواقعية؛ ذلك أن التنصيص على الحكم يتطلب نظرا في الواقع لمعرفة إمكانية تطبيقه أو لا، فليس كل منصوص عليه قابلا للتنفيذ مباشرة، بل ذلك يختلف بحسب حال الشخص وظروفه وإكراهات المكان والزمان.

المطلب السادس: مميزات أصول الفقه عند الشاطبي والتوصيات:

أولا: خلو كتاب (الموافقات) من حدود وتعريفات الأصول والقواعد، فهو يدخل في الموضوع مباشرة، دون أن يقدم له تعريفا لا في اللغة ولا في الاصطلاح، فلا يعرِّف القرآن ولا السنة ولا الاجتهاد ولا أي من القواعد الأصولية، ولعله في ذلك يستجيب لمبدئه القائل هناك مسائل في الأصول يجب أن تتحرر تعاريفها في علومها الأصلية، ويأخذها الأصولي منهم كمسلمات. فتعريف القرآن يجب أن يكون من اهتمام المفسرين، وتعريف السنة يجب أن يكون هدف علم الحديث وهلم جرا.

ثانيا: عرضه للأصول يتوخى المسائل الإجماعية، وتندر فيها الخلافات والنقاشات البيزنطية التي تمتلئ بها كتب أصول الفقه، وما كتاب (المستصفى) ببعيد.

ثالثا: يمثل كتاب (الموافقات) أول نقد جذري لأصول الفقه، وبالتالي أول محاولة لتجديد هذا العلم، بربطة بميكانيزم المقاصد الشرعية، بدل ربطه بالدلالات اللغوية والقراءة النصية للأدلة.

لقد أشبع الناس المقاصد الشرعية عند الشاطبي من خلال (الموافقات) درسا ومقاربة، ولكن نفس هذا الإشباع لم تحظ به مشاركته الأصولية، التي مثلت الجزأ الأكبر من كتاب الموافقات. فالمقاصد عند الشاطبي لا تخص المقاصد فقط، بل تخص أيضا وربما بدرجة أقوى أصول الفقه. ولعلنا هنا أمام نظريتين للمقاصد؛ إحداهما نظرية الشاطبي عن المقاصد، والثاني نظريته عن المقاصد في أصول الفقه. والسؤال المطروح هو: إلى أيهما يجب أن يكون الاعتماد والمحور؟ وأيهما أكثر مردودية على الدراسة الشرعية. ويظهر أن المهم هو نظريته في علم الأصول، لأنها الأكثر ارتباطا بالأدلة، وبالتالي الأكثر جدوائية وانعكاسا على البحث الشرعي. ذلك أن هذا البحث هو نتيجة لما تقرر في أصول الفقه، فكان التجديد يجب أن يكون داخل المعرفة الأصولية لا خارجها، وبهذا الاختيار نكون قد جمعنا بين أصول الفقه وبين المقاصد الشرعية. أما الاعتماد على نظرية المقاصد من أجل المقاصد فهو بحث ارتدادي يجعل السبب هو نفس المسبب، أي يجعل المقاصد سبب لذاتها في حين أن السبب يجب أن يغاير المسبب. فالمقاصد تكون حيوية عند ما تتناول موضوعا معينا وتنصب عليه. وعندما تفتح أضابير المقاصد على أصول الفقه وعلى الأدلة فإنها تكون عملية منتجة ورائعة لا مروعة.

المراجع:

التجديد الأصولي نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه، إعداد جماعي، بإشراف الدكتور أحمد بن عبدالسلام الريسوني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1435هـ- 2014م.

الآمدي الإحكام في أصول الأحكام تعليق عبد الرزاق عفيفي دار الصميعي للنشر و التوزيع الطبعة الاولى 1424 هـ 2003 م السعودية

ـ عبد الوهاب خلاف علم اصول الفقه مكتبة الدعوة الإسلامية شباب الأزهر الطبعة الثامنة

ـ الشوكاني محمد بن علي إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول تحقيق أبو حفص سامي بن العربي الاشتري و قدم له الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد و د. سعد بن ناصر المشتري الطبعة الأولى 1424 هـ 2000م دار الفضيلة للنشر و التوزيع الرياض المملكة العربية السعودية

ـ الشافعي محمد بن إدريس الرسالة تحقيق أحمد شاكر دار الكتب العلمية

ـ الجابري ، بنية العقل العربي مركز دراسات الوحدة العربية ،الطبعة التاسعة ، بيروت، لبنان ،2009/م

ـ الغزالي أبو حامد محمد بن محمد بن محمد، شفاء الغليل في بيان الشبه و المخيل و مسالك التعليل تحقيق حمد الكبيسي 1390 هـ 1971 م مطبعة الارشاد بغداد

ـ ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق أحمد شاكر، مطبعة العاصمة ، القاهرة مصر

ـ سيف الدين أبو الحسين علي ابن أبي علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام: دار الكتب العلمية، بيروت لبنان

ـ أبو إسحاق ابراهيم بن موسي الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام: دار الفكر للطباعة والنشر

ـ العلوي، سيد عبد الله ولد إبراهيم، نشر البنود على مراقي السعود تحقيق محمد الأمين ولد محمد حبيب الطبعة الأولى المصححة 1426 هـ 2005 م

ـ نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية أعداد أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب الفاروق الحديثة للطباعة و النشر الطبعة الأولى 1423 هـ 2002 م

ـ الريسوني و الأستاذ محمد جمال باروت الاجتهاد النص ،الواقع ، المصلحة دار الفكر المعاصر الطبعة الأولى 1420 هـ 2000م دمشق

ـ سالم يفوت: حفريات المعرفة العربية الإسلامية، التعليل الفقهي، دار الطليعة، 1990م

————————————

[1] الشاطبي، الموافقات: ج1/97 و98.

[2] المرجع السابق: ج2/80.

[3] المرجع السابق: ج /87.

[4] العلوي، نشر البنود: ص194.

[5] الشاطبي، الموافقات: ج1/119.

[6] ابن حزم، الإحكام: ج2/515.

[7]

[8]

[9]

[10] الشاطبي، الموافقات: ج1/138.

[11] المرجع السابق: ج2/56.

[12]

[13] المرجع السابق: ج2/91.

[14] الغزالي، شفاء الغليل: ج144.

[15] الشوكاني، إرشاد الفحول: ص909.

[16] الشاطبي، الموافقات: ج /43.

[17] الغزالي، أساس القياس: ص31.

[18] الشاطبي، الموافقات: ج2/48- 49.

المصدر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى