كتابات

الانتصار واللاءات الثلاث

بقلم د. ناصر بن سليمان العمر – الأمين العام لرابطة علماء المسلمين

إن أسباب الانتصار التي أشارت إليها سورة يوسف كثيرة، قد مضت الإشارة إلى نذر منها، وفي هذه المقالة أستكمل ما بدا لي من أهمها؛ فمن أعظم أسباب انتصار يوسف: اطّراده في منهجه اطرادًا عجيبًا من أول لحظات حياته حتى آخر لحظة، وهو يمشي على خط مستقيم. نقول هذا ونحن نرى الاضطراب في حياة بعض الدعاة، نرى الاضطراب في حياة ومناهج بعض المؤسسات والجماعات الإسلامية، تنشأ الجماعة على منهج، بعد عدة سنوات فإذا هي تُغيِّر، بعد ثلاثين أو أربعين سنة فإذا الجماعة التي نشأت ليست هي الجماعة اليوم في منهجها وإن بقي اسمها وإن بقي بعض الرموز..

بعض الدعاة يجلس عدة سنوات يدعو الناس إلى منهج سليم، وعندما يُعرف وتبدأ انتصاراته، يبدأ التغيُّر أو بعد أن يبتلى أو غير ذلك من الأسباب. يوسف -عليه السلام- لم يتغير أبدًا من أول لحظة في حياته إلى آخر لحظة، مُطَّرد {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43].

هذا الاطراد من أقوى عوامل الانتصار، وهذا يغفل عنه كثير من الدعاة؛ ولذلك يقولون: لماذا فشلنا؟ لماذا لم ننتصر؟

لأنكم لم تنتصروا على أنفسكم، لم تلتزموا بالمنهج الحق كما التزم به محمد صلى الله عليه وسلم صاحب المنهج الذي لا يتغير لا في السراء ولا في الضراء، لا تزيده المحن إلا قوة وثباتًا واطرادًا {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2] ، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

نصر الله قريب، لكن المشكلة فينا وفي التزامنا بهذا المنهج.

ومن أعظم مقومات الانتصار عدم الاستعجال، أو التنازل، أو اليأس والقنوط، وأسمِّيها اللاءات الثلاث، فإذا أردت الانتصار فلا للاستعجال، ولا للتنازل، ولا للقنوط. وقد درستُ واقع كثيرٍ من الجماعات الإسلامية، وتساءلت: لماذا لم تحقق ما كانت تَعِدُ به؟ فوجدت أن لذلك أسبابًا كثيرة، ولكن من أبرزها أن هناك فئة مستعجلة، تريد أن تحقق الانتصار في مدة قياسية، فترتكب أعمالاً تتنافى مع المنهج بسبب الاستعجال.

ومن أمثال هؤلاء الذين يدعُون قومهم، وبعد أن يدعوهم مُدّة من الزمن ولا يلمسوا استجابة منهم، ومن ثَمّ يقومون عليهم فيواجهونهم بالسلاح، فتنشب حرب في غير مكانها وغير زمانها، وكم أضر الأمة أمثال هؤلاء المتعجلين! بينما صبر أولو العزم من الرسل حتى جاء نصر الله.

أما التنازل، فكم أوقع من أناس! تقوم جماعتهم وترسم منهجها وما تريد أن تربي الناس عليه، وبعد مرور الزمن تلاحظ أنها لم تحقق ما وعدت به أتباعها، فيبدأ التنازل وتبدأ المساومة مع الظالمين، حتى تنتهي تلك المؤسسة أو تلك الجماعة أو ذلك الفرد إلى شكلٍ دون حقيقة، ونجد في النهاية أنه لا فرق بينهم وبين الظالمين إلا في أمور يسيرة، وهذا تنازل في دين الله، وركون إلى الذين ظلموا.

وفئة ثالثة عملت في الدعوة -وغالبًا يكون هذا على مستوى الأفراد- ومرت عليهم الأيام والأعوام، لم يستعجلوا ولم يتنازلوا، ولكنهم لما لم يروا استجابة الناس لهم، يئسوا وقنطوا فانسحبوا من الساحة!

أما يوسف -عليه السلام- فقد حارب كل هذه الأشياء، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90]. فلا استعجال، ولا تنازل، ولا يأس أو قنوط.

أيها الدعاة، يا أصحاب المؤسسات الدعوية، ما مقدار التزامكم بهذه القضايا الكبرى؟ هل أنتم تتعجلون؟ إن نجوتم من هذا فهنيئًا لكم، هل أنتم تتنازلون باسم المصلحة العامة؟ إن كنتم لا تتنازلون فهنيئًا لكم، هل دبَّ اليأس والقنوط إلى قلوبكم؟ إن لم يكن كذلك فهنيئًا لكم.

فهذه مقومات مهمة في انتصار المسلم، وما أخذ بها فرد أو مؤسسة أو أمة إلا انتصرت، الانتصار بمعناه الحقيقي، وليس الانتصار هو الحصول على المُلك، بل الحصول على الملك نوع من أنواع الانتصار، وأعظم الانتصارات هو انتصار المنهج؛ ولذلك يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط والرهيط، ويأت النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي ليس معه أحد، كما في الحديث الصحيح، ويقول صلى الله عليه وسلم: «رأيت نبيًّا من الأنبياء ما آمن معه إلا رجل واحد».

ومن اليقين أن كل الأنبياء قد انتصروا {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. فكل نبي قد انتصر، وانتصاره في ثباته على منهجه، في اطّراده، في التزامه بالأصول والمنطلقات التي يدعو إليها، هذا هو الانتصار الحقيقي، فإن تحقق بعد ذلك استجابة الناس فهو انتصار، وإن تحقق المُلك فهو انتصار، لكن أعظم الانتصارات انتصار المنهج وما بعده نافلة.

فما أحوجنا إلى هذه العوامل المهمة من أجل أن نحقق الانتصار لأنفسنا وأمتنا في العاجل والآجل! إننا بحاجة إلى محاسبة النفس وإلى نقد الذات بصدق وصراحة.. لماذا لم ننتصر؟ ولماذا لم تنتصر الأمة مع ما قدمته من جهود جبارة في تاريخها، منذ سبعين سنة ونحن نرى الجماعات الإسلامية، ونرى المؤسسات الإسلامية وقد بذلت جهودًا مشكورة لا تنكر، وقدمت تضحيات أصبحت مضرب المثل في التاريخ فداء لدينها وعقيدتها، ولكننا نلحظ أنها لم تحقق الانتصار، لا الانتصار في المنهج، ولا الانتصار على ظهر الواقع، لماذا؟

لأنها لم تتكامل فيها مقومات الانتصار التي أخذ بها يوسف عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم عندما سأل هرقل أبا سفيان، قال: هل أتباعه يزيدون أم ينقصون؟ قال: يزيدون. قال: وهكذا الأنبياء حتى يكتملوا. وهكذا أيضًا الدعاة، وهكذا الجماعات، هل تزيد أفرادهم أم ينقصون؟ بعض الجماعات أفرادها ينقصون، يزيدون في مدة من الزمن ثم ينقصون بعد ذلك..

فمن أسباب عدم الانتصار عدم توافر هذه المقومات في سيرة الداعية أو سيرة تلك الجماعة أو سيرة الأمة، وبعد ذلك نأتي ونقول: لماذا لم ننتصر؟ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 110].

آيات الانتصار صريحة وواضحة، والله لا يخلف وعده، إذن الخلل في أنفسنا، سواء أكان فردًا أو كان جماعة أو مؤسسة أو مجتمعًا، فإذا لم تحقق الانتصار فاسأل نفسك، ارجع إلى الكتاب والسُّنَّة، «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله، وسنتي»، لو أننا التزمنا بهذا لحققنا الانتصار العظيم في العاجل والآجل.

فيا أيها الداعية، أيها العالِم، أيها المسلم، التزم بهذه المقومات التي أشرت إليها في سيرة يوسف لتُحقِّق الانتصار في العاجل والآجل بإذن الله، فإذا انتصرت على نفسك وعلى شهواتك وعلى رغباتك وعلى هواك، إذا كان منهجك سليمًا بعيدًا عن البدع ومحدثات الأمور، إذا لم تستعجل، إذا لم تتنازل، إذا لم تيأس، أو تقنط، فأبشر فإن وعد الله لا يتخلف {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].

أسأل الله أن يحقق لهذه الأمة الانتصار الذي نرجوه لها على أيدي علمائها ودعاتها ومؤسساتها، وأسأل الله أن يقر أعيننا برفع راية هذا الدين وراية الجهاد في سبيل الله، لتنتصر على أعدائها لا بالأماني ولكن بالحقائق.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى