في رمضان نتقي لنرتقي!

في رمضان نتقي لنرتقي!

بقلم علاء حميدة

في رمضان الذي هو شهر التقوى والفُرقان، يسارع المسلمون إلى عمل الصالحات من الأعمال، ويتنافسون في قراءة القرآن الكريم، وينشغلون بإحصاء الطاعات المبذولة في سباق كَمِّي يراكمون فيه الحسنات..

***

لا تكاد تخلو مُقدِّمة وحدة من وحدات كتاب مدرسي من عبارة: يجب على الطالب بعد دراسة هذه الوحدة أن يقوم بالإجراءات التالية.

عملية تحويل المعرفة إلى سلوك أو ممارسة هي الهدف الأساسي من التعليم.

وأنت عندما تلجأ لطبيب مختص لعلاج مرض ما تسأل عن خبرته العملية في فحص المرضى ووصف العلاجات الناجعة، ولا تسأل عن عدد ساعات حضوره في محاضرات ومعامل الجامعة قبل التخرج!

وعندما تقرأ شروط التقدم لوظيفة ما تجد من بينها الأفضلية لأصحاب الخبرة السابقة.

المهندس لن يصبح مهندسًا إلا إذا اجتاز مقرَّرات الجامعة والحصول على شهادة اجتياز لاختبارات قياس المستوى، لكنَّه لن يُصنَّف كمهندس كبير ومحترف إلا بعد ممارسته الهندسة زمنًا،وعدد المشروعات التي يُشرف عليها.

المعرفة ضرورية لكنَّ الممارسة هي التي تجعل لها قيمة في حياة الناس.. المعرفة شرط ضروري لا غنى عنه، لكنَّ الحركة بالمعرفة هي التي تصنع التراكم الحضاري البشري..

عرَّفَ النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بأنَّه ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.. الذي يستقر في القلب هو اليقين المبني على المعرفة، والعمل هو الذي يُترجم هذا اليقين إلى ممارسة.. حركة الحياة لن تستفيد بكَم العارفين إن لم تتحول معرفتهم إلى سلوك عملي مُنتِج ومحسوس..

ومن الغايات الكبرى للصيام يبينها الله تعالى في قوله الكريم: (لعلَّكم تتَّقون).. وبعيدًا عن التعريفات التقليدية للتقوى التي أجملها الإمام علي كرم الله وجهه بقوله: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل. فإنَّ المعنى المعاصر المطلوب لتحقيق التقوى هو الارتقاء المستمر في سلوك الفرد لتحقيق نموذج المؤمن المتقي الذي يجده المولى حيث أمره، ويفتقده حيث نهاه.

التقوى إذن بمفهوم معاصر هي محاولة تحسين الأداء السلوكي في ممارسة الحياة عبادةً وخلقًا ومعاملةً وإنتاجًا مبنية على معرفة يقينية بالله تعالى ومنهجه ومآلات هذا السلوك في الحياة الآخرة.

في رمضان الذي هو شهر التقوى والفُرقان، يسارع المسلمون إلى عمل الصالحات من الأعمال، ويتنافسون في قراءة القرآن الكريم، وينشغلون بإحصاء الطاعات المبذولة في سباق كَمِّي يراكمون فيه الحسنات.. كل هذه الأعمال الخيرية محمودة ومطلوبة لكنها تمثل في الغالب الأعم جانب المعرفة، أو جانب التزود اليقيني على مستوى القلب.. لكنَّ الجسر الذي يمكن أن يحوَّل كل هذه الطاقة الإيمانية الرمضانية إلى تراكم حضاري مُنتج وملموس في حياة الناس، هو ترجمة هذه الطاقة إلى عملٍ وممارسة.. إلى الارتقاء بمستوى الأداء ليس فقط التعبدي، ولكن أيضًا الأداء الخُلقي وممارسة السلوك اليومي مع الناس ونحو ارتقاء أفضل في ممارسة العمل المهني من مُنطلقي الإخلاص والترقي كشرطين من شروط تحقيق التقوى..

إنَّ كل طاقة إيمانية يضيفها للفرد المسلم الترفع عن الشهوات الكبرى -البطن والفرج- بالصوم نهارًا، وصلاة القيام ليلا، والتزود بقراءة القرآن الكريم، لا بد أن تتحوَّل إلى ممارسة وسلوك ومعاملة في نهار اليوم التالي في تعاملات جمهور المجتمع المسلم في ممارسة حياته الاعتيادية، في احترام أولويات المرور وسماحة التعامل بين قائدي السيارات والمركبات، وفي إنهاء خدمات الناس واحتياجاتهم أمام موظفي الخدمات العامة، وفي سماحة حركة البيع والشراء، وفي التجاوز عن الأخطاء الفردية غير المقصودة هنا وهناك، وتقليل المشاحنات والمنازعات اليومية في الطرقات، وفي محاولة التجويد والإبداع المستمر في العمل.. وغيرها من مناشط الحياة..

المحصِّلة أنَّ التقوى الحقيقية في رمضان تتحقَّق بكل ارتقاء وسمو وإضافة نوعية يستطيع الفرد المسلم تحقيقها في نفسه للمساهمة في الارتقاء بالمجتمع الذي يعيش فيه، ولا تتوقف فقط عند عداد الحسنات في كشوف معدي البرامج الإيمانية الفردية في رمضان..

وأنَّ كل زيادة معرفية باردة غير قابلة للاستثمار في ممارسة السلوك اليومي، تظل كشهادة إسلام صالحة لكنها غير ممزوجة بالخبرة العملية والممارسة اليومية، فلا تضيف إلى تراكم حضاري، ولا ترتقي بحياة المجتمع.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى