تقارير وإضاءات

ورطة العلمانيين في إثبات أسانيد أسباب النزول

ورطة العلمانيين في إثبات أسانيد أسباب النزول

 

من مظاهر فشل المفكرين العرب المنتمين إلى خطاب التأويل التاريخي أو التأويل الهرمونيطيقي أو الإنساني للنصوص جهلهم الشديد بالنصوص، وبالتاريخ، وجهلهم بمرادات النصوص ومقاصد الشريعة، وبحقائق النظريات التي يتبعونها ومآلات أقوالهم في الشريعة بناء على هذه النظريات.
وعندما يجهل المنظر مآلات قوله ولوازمها فذلك يدل على أنه قاصر، وعندما تتكون من أسلوبه هذا منهجية ومدرسة فهذا يدل على أن هذه المنهجية وهذه المدرسة قاصرة إن لم نقل إنها مدرسة خشبية.
من أمثلة ذلك:
عناية التاريخيين والهرمونيطقيين( التأويليين) بأسباب النزول ,واعتمادهم عليها لإثبات تاريخانية النص، وأنه صالح لذلك الزمان فقط، وهم يتكلفون في ذلك تصحيح جميع روايات أسباب النزول، بل والكذب في تخيل لعدد أحاديث أسباب النزول أو للآيات التي وردت فيها أسباب نزول، بيد أنها ليست كذلك.
وهذا التوجه على رغم أنه توجه خاطئ من جهة أنه تعسفي، وأنه يعتمد على معلومات خاطئة، ويتعمد – بالكذب – الخطأ فيها، فإنه أيضاً خاطئ من جهة أخرى هي التي تنوي هذه المقالة مناقشتها، وهي جهة مآلاته ولوازمه.
فلو أننا قبلنا بجميع أخبار النزول، وقبلنا كذب هؤلاء المفكرين في أن جميع الآيات إلا ما ندر لديها أسباب نزول، وعلّقنا قبولنا لنظريتهم بقبول أخبار أسباب النزول، ثم قبلناها جميعاً، فهذا يلزم عليه إبطال مذهبهم في إنكار المتواتر وأحاديث الآحاد، كإنكارهم أخبار الرجم والمسح على الخفين وغيرها من المتواترات.
وكذلك يلزم على قبول هذا المذهب أن نقبل الأحاديث الآحادية الصحيحة من باب أولى، لأنهم يحتجون في إثبات نظريتهم في أسباب النزول بمرويات كثيرها غير صحيحة في أسباب النزول. بل ويلزم على قولهم قبول الحديث الضعيف لأن هذا هو عين عملهم في أسباب النزول، ويلزم عليه كذلك القبول بالحديث الموضوع أيضاً ,لأنهم وضعوا بأنفسهم أخباراً غير صحيحة لإثبات نظريتهم المذكورة.
والنتيجة هي أن تأصيل هؤلاء في أسباب النزول يلزمهم قبول ما أنكروه في باب المتواترات اللفظية والمعنوية والصحيحات والضعيفات ,بل والموضوعات، أو أن عليهم أن يبطلوا مذهبهم هذا في تاريخانية النصوص، وعندئذ لا تتيسر لهم طريق تثبت لهم بها تاريخانية النصوص، لأنهم إنما احتجوا عليها بوقائع مروية أكثرها لا تتجاوز مرتبة الحسن، وكثير منها ضعيف.
وهذا إنما هو ناتج من الخطأ المنهجي الذي يرجع إلى أن هؤلاء لم يلجؤوا إلى إثبات مرويات أسباب النزول من جهة قناعتهم بطريق ثبوتها، بل هم يعتنون بها وإن علموا بضعفها لإثبات أمر وحيد هو أن القرآن نزل خاصاً بحوادث وأحوال وأزمنة وأمكنة محدودة لا يصلح إلا لها، لكن على التسليم بذلك لا يقبل إثبات أسباب النزول ممن ينكر ثبوت النصوص الأخرى التي ثبتت من طريق كطريقها أو أصح من طريقها.
وهم في ذلك فريقان، أحدهما المذكور سابقاً، والآخر فريق أشد هو الهرمونيطيقي الذي يرى أن القرآن منتج ثقافي لتلك البيئة، وذلك ما ألجأهم إلى إثبات نزوله منجماً، ورفض ثبوت نزوله قبل ذلك في بيت العزة أو حتى كونه مكتوباً من قبل في اللوح المحفوظ.
ومن هنا فإنهم تشبثوا بأن أكثر الآيات لها أسباب نزول مروية (وهذه كذبة باردة)، ويتشبثون في ذلك بالواهيات والموضوعات كما ذكرنا… لا لشيء إلا لشدة الإخلاص لهذه النظرية.ولهذا فإن الطريقة المختصرة في ردّ هذه النظرية هي أن يقال لهم:
عليكم الإقرار بثبوت الموضوع والضعيف وصحة الاحتجاج بهما، وثبوت الصحيح والمتواتر من باب أولى قبل الخوض في القضية، فقولكم بقبولها في إثبات نظريتكم ورفضها في إثبات نظريات الآخرين تناقض، فإن رفضوا ذلك سقط مذهبهم في إثبات روايات أسباب النزول، وإن قبلوا به أقاموا مذهب السنة بقبولهم المتواتر والصحيح وإن كنا لا نقبل منهم ثبوت الضعيف والموضوع.
والقضية منهجية بحتة، بل ومنطقية وفطرية أيضاً لكل من تصورها، وهي أنهم يحتجون بما يلزم من إثباته إثبات ما يجحدونه من نظائره وما هو أصح منه، وهذا يثبت أنهم ليسوا من أهل الاستقراء كأساطين ونظّار المذاهب السابقين.
بعد هذا الجزء المقدمة دعونا نرجع إلى ما كنا فيه من إثبات أن الإشكالية ناشئة من الجهل بالنصوص وبالتاريخ، والجهل بالشريعة، وكذلك الجهل بلوازم الأقوال ومآلاتها، ولنأخذ على ذلك مثالا من الأمثلة المعظّمة في عيون أتباع هذا الفكر في زماننا:
على سبيل المثال نصر حامد أبو زيد صاحب النظرية الهرمونيطيقية القائلة بأن النص القرآني منتج بشري انطلق من بيئة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاضع للتأويل وفقا للبيئة التي تتعامل معه.
يقول أبوزيد في اعترافه الشخصي في رسالة دكتوراه إن المنهج الشائع في تأويل النصوص هو: “إخضاع النص الديني لتصورات المفسر ومفاهيمه وأفكاره”!
ثم جاء بعد ذلك ليعترف في مقال مطول كتبه عن ابن عربي أن رسالة دكتوراته تورطت في القراءة “الذاتية الاستنباطية”، مقرا بأنه “لا توجد أي قراءة بريئة”!
وحين تريد أن تدرك لماذا نفق فكر هؤلاء ومر وخدع عقول كثير الناس فلا تجد تفسيراً لذلك سوى أن أستعير ما نقل أكثر من مرة عن هذه التقنية في الإنكار التي وصفها ميشيل فوكو بأنها “إرهاب الغموض” التي وصف بها دريدا، بمعنى أنه حالما تكتشف أخطاؤك ويواجهك بها خصومك فقل لهم: أنتم مخطئون، أنتم لا تفهمون، أنتم تقولونني ما لم أقله.
نعود من هذا الاستطراد إلى نصر أبو زيد، واتخاذه مثالاً لإثبات ما قدمنا به في رأس هذه المقالة، من أن هؤلاء جهلة بالنصوص والتاريخ وجهلة بمقاصد الشريعة وجهلة بمآلات أقوالهم ولا يتبعون سوى أهوائهم:
فللمثال على جهله بالنصوص:
في كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية” يدعي أن قوله تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم” يقع في الآية رقم (5) من سورة المائدة! مع أنها في الآية الثالثة فقط!
وللمثال على جهله بالصحابة يظن أن عبدالله بن عباس من التابعين حين يقول في الكتاب نفسه:
“وهذا هو اتجاه كثير من مفسري التابعين وعلى رأسهم عبد الله بن عباس الذي عاصر النبي ودعا له بالفقه في الدين وبعلم التأويل”!
الإمبريقية( الحقائق الحسية) المميزة (سيأتي شرحها) هي:
لا يكاد يوجد مسلم درس حرفاً واحداً من الدين (والعدد هنا مجازي لا مفهوم له) لا يعرف أن عبد الله بن عباس من الصحابة، وأنه كان كما في صحيح البخاري وغيره يصلي مع النبي في بيته، وكان ينام عنده لدى خالته ميمونة، وكان رديفه، وغير ذلك، بل وخصه النبي صلى الله عليه وسلم بأن دعا الله أن يفقهه في الدين ويعلمه “التأويل”.
فكيف أصبح ابن عباس تابعياً عاصر الرسول مثل النجاشي والقاضي شريح؟!ومن أبرز الأمثلة على جهله أنه ألف هذا الكتاب كاملاً عن الإمام الشافعي مهاجماً فيه تأصيله الأصيل، ولكن في هذا الكتاب ليس ما يدل على جهله بالنصوص، ولكن فيه أيضاً ما يدل على جهل الرجل بالإمام الشافعي الذي يكتب عنه المؤلف! وإليك على سبيل المثال:

يقول نصر أبو زيد في كتابه عن الشافعي ص 16 و17 أنه: “تعاون مع الامويين مختاراً راضيا. على عكس موقف أستاذه مالك بن أنس…. الذي كان له من الأمويين موقف مشهور، بسبب فتواه عن بيعة المكره وطلاقه. وموقف الإمام أبي حنيفة…. الرافض لأدنى صور التعامل معهم. رغم سجنه وتعذيبه، فقد سعى الشافعي على عكس سلفه أبي حنيفة وأستاذه مالك إلى العمل مع الأمويين”.
وهذا من علامات الجهل الفارقة والعجيبة جداً في هذه الدنيا!
وذلك لأن الشافعي ولد عام 150 هـ، أي بعد سقوط الدولة الأموية ب18 عاماً، كيف يعمل مع الأمويين؟
وكذلك أستاذه الإمام مالك: إنما تعرض للسجن والجلد على فتوى طلاق المكره في عهد أبي جعفر المنصور العباسي.
وكذلك سجن أبي حنيفة وجلده: كان على عهد العباسيين وليس على عهد الأمويين!
ومن أمثلة جهله بأسهل معلومات التاريخ:
جهله بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المثال:
أنه في كتاب التفكير في زمن التكفير ص 143 خلط بين غزوة الخندق وغزوة بدر! فتوهم أن الخندق هو بديل لمنزل الحرب الذي اقترحه الرسول بدلا من حفر الخندق! والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقترح منزلا للحرب في الخندق، وهذا يعلمه كل من يعرف ألف باء التاريخ.
ولكن الرجل خلط بين غزوة الخندق وغزوة بدر، التي اقترح فيها النبي عليه السلام منزلا، ثم عدل عنه عندما قال له الحباب بن المنذر إن هذا ليس بمنزل حرب!
بعد هذا كله نعود إلى قضية أسباب النزول، فهل نستغرب عندئذ أن يكون هذا الرجل غير قادر على بناء نظريته؟ بالطبع لا، لأنه جاهل، لكن الأسوأ من ذلك كما ذكرنا أنه لا يدرك مآلاتها ولوازمها التي ذكرناها أيضاً، ولكن بما أننا ناقشنا تلك المآلات وكررنا فيها (لفائدة القارئ) فإننا نكتفي بنقل صورة من صور تلك المغالطات والأخطاء الشنيعة إن أحسنّا الظن وحكمنا بالجهل ولم نحكم بالكذب والوضع:
يتعالم نصر أبو زيد بلهجة متغطرسة متعالية لكنه يفضح نفسه بعد كل بضعة أسطر بقلة العلم، ويستخدم في تغطية جهله ما وصفه “فوكو” بإرهاب الغموض، انظر ماذا يقول في كتاب مفهوم النص ص 109:
“إن الحقائق الإمبريقية المعطاة عن النص (القرآن) تؤكد أنه نزل منجماً على بضع وعشرين سنة”.

إلى هنا الكلام صحيح، ولكن لماذا جاء بعبارة “الأمبريقية”؟ مع أنها تعني ما أثبته الحس والتجريب؟ إنه الاستعراض والإرهاب، لكن نستمر لنكشف لكم الخطأ الفظيع:
يكمل أبو زيد:
“وتؤكد أيضاً (أي الحقائق الإمبريقية!) أن كل آية أو مجموعة من الآيات نزلت عند سبب خاص استوجب إنزالها، وأن الآيات التي نزلت ابتداء، دون علة خارجية- قليلة جداً”!
فيا للعجب: أصبحت الكثرة قلة، والقلة كثرة؟الحقائق (الروايات الثابتة) التي يسميها الرجل إمبريقية (ليرهبنا) تتكلم عن أن عدد الآيات التي جاءت فيها أسباب النزول لا يتجاوز 472 آية!
أي ما هو أقل من 10 % من مجمل آيات القرآن التي تتجاوز 6000 آية!
وأما الروايات التي لم تثبت (غير الإمبريقية وفقاً لأبو زيد) في أسباب النزول فهي تشمل ما مجموعه 888 آية تقريباً، أي ما هو أعلى بقليل من 10%، وتندرج في هذا المجموع الآيات التي لأسباب نزولها روايات ثابتة، بمعنى أن مجموع الآيات التي ورد فيها رواية سبب نزول بغض النظر عن كونها صحيحة أو ضعيفة لا تصل إلى 890 آية، بما فيها الروايات الضعيفة!
فكيف أصبحت آيات أسباب النزول هي الكثرة الكاثرة بالحقائق المؤكدة إمبريقياً؟ مع أنها هي القلة النادرة؟
وصارت آيات النزول ابتداء هي القلة النادرة “إمبريقيا”ً! مع أنها هي الكثرة الكاثرة؟
وارجع إلى كلامه السابق لترى عبارات الغطرسة والاستعراض “الحقائق الإمبريقية”، “تؤكد أن كل آية أو مجموعة آيات نزلت عند سبب خاص استوجب إنزالها”. “إلا القليل جداً”!
فما رأيكم في هذه المدارس بعد كل هذا؟
الحقيقة أنها كما اعتدنا أن نسمع من أحد زملائنا يصف هذه “الإمبريقيات النزولية” بأنها: كتابات خشبية من العصر الخشبي، وأصوات لا تعدو كونها من “البقبقة” التي لا تروج إلا على “الدجاج”، لكنه من الدجاج “النائم المخدر” الذي لا يوقظه صياح الديك حين الأذان.

 

 

(المصدر: موقع “المثقف الجديد”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى