متابعات

مسلمو فرنسا والمشاركة الانتخابية

مع اقتراب موعد الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجرى في أبريل/نيسان القادم لتحدد اسم الرئيس الحادي عشر للجمهورية الخامسة؛ يعود إلى السطح الاستفهام الكبير حول دور الجالية العربية والمسلمة في هذه الانتخابات.
كما يعود إلى الواجهة التباينُ الكبير بين عزوف العرب والمسلمين بشكل عام عن المشاركة الفعلية في المناسبات الانتخابية الفرنسية (سواء أكانت رئاسية أم برلمانية أم بلدية)، وشكواهم الدائمة من حيف النظام السياسي بقوانينه وتشريعاته التي لا تمنحهم حقوقهم كبقية مكونات المجتمع الفرنسي.

عوامل العزوف الانتخابي
قد لا يختلف اثنان في فرنسا على أن الجالية العربية -والمغاربية منها بشكل خاص، أي تلك القادمة من الجزائر وتونس والمغرب تحديدا- لا تشارك في المناسبات الانتخابية بشكل يعكس حجمها الديمغرافي والتاريخي تمثيلا وانتخابا. وهذا العزوف يعود إلى عوامل كثيرة يتعلق بعضها بالجالية نفسها أو بالبلد الأم أو ببلد الإقامة.

فالجالية العربية والمسلمة -لاسيما في موجات الهجرة الأولى التي عرفتها فرنسا بداية النصف الثاني من القرن العشرين- كانت تتكون أساسا من اليد العاملة غير المتعلمة، التي عملت في حواضر البناء وأنفاق المترو وشركات الصناعات الثقيلة، وغيرها من الوظائف التي يعزف عنها المواطن الفرنسي عادة.
أي أن الجيل الأول من المهاجرين لم يكن جيلا متعلما بشكل عام، ولم يكن بذلك مستعدا لاستيعاب نمط الحياة السياسية والثقافية بسبب طبيعة العمل الشاق الذي كان ينهض به، والذي لا يزال الكثير من المهاجرين العرب الجدد ينهضون به خاصة من غير الحاصلين على وثائق الإقامة.
إن غياب الثقافة السياسية والوعي المدني -اللذين يفرضان الالتزام بالمشاركة في صياغة المحيط الاجتماعي والسياسي للفرد والمجموعة- كانا عائقا أمام الموجة الأولى للمهاجرين العرب والمسلمين، بشكل منعهم من التأثير في هذا المحيط بل والحضور فيه.
أما العامل المتعلق بالبلد الأم -وإن كان لا ينفصل تماما عن السبب الأول- فإنه يتمثل أساسا في الارتباط الوثيق بين المهاجر وبلده الأصلي عبر أشكال مختلفة.
ولذلك تبقى مشاركة المسلمين السياسية بفرنسا -سواء تمثلت في الترشح أو الانتخاب- محكومة بأصداء البلد الأم، وليس أدل على ذلك من انتشار العزوف عن المشاركة في كل أشكالها سواء باستحضارٍ لا واعٍ للمشهد السياسي بالبلد الأم حيث تكون الانتخابات محسومة سلفا، أو خوفا من التورط في شبهات النشاط الحزبي التي قد تعود عليه بالمتاعب حال عودته إلى أرض الوطن.
وبالنسبة للسبب المتعلق ببلد الإقامة فإن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للجاليات المهاجرة لا يوفر الإطار القادر على تشجيع المهاجرين من أصول عربية مسلمة على المشاركة بكثافة في الحياة السياسية.
إذ يعيش المهاجرون عامة في أحياء شعبية تتكدس فيها العائلات الفقيرة والمتوسطة الدخل، فيما يسمى “الغيتو” المغلق والمخصص لطبقة اجتماعية بعينها، مما يمنعهم من الاختلاط الحقيقي بالآخرين ويساهم بشكل كبير في تغييبهم عن المشهد السياسي الفرنسي.
إن سياسة التمييز الاجتماعي في السكن والتعليم وفرص العمل التي يعاني منها المهاجرون عامة والعرب والمسلمون بشكل خاص، تعمق هذا الإحساس بعدم الانتماء الذي يظهر في العزوف الكلي عن مجمل أشكال المشاركة سياسية كانت أو ثقافية أو اجتماعية.

تطورات المشهد السياسي
إذا كانت أغلبية العناصر التي سبق ذكرها لا تزال حاضرة وفاعلة في تفسير الغياب اللافت للمهاجرين عن الساحة الانتخابية، فإن معطيات أخرى حادثة توحي بأن تغيرات جديدة بدأت تطرأ على المشهد.
لم يعد الحديث في فرنسا عن المهاجرين بشكل عام بقدر ما صار الحديث اليوم عن أجيال المهاجرين وخاصة الجيلين الثالث والرابع، حيث يكون المواطن الفرنسي من أصول عربية مسلمة قد وُلد ودرس وتربى في مدارس الجمهورية.

وهو ما يجعله قد تجاوز عقبات كثيرة كانت تعطل حركة الجيل السابق له، ومنها الكفاءة اللغوية والأهلية الاجتماعية المتمثلة في استيعاب شفرة العلاقات مع الآخر في الإدارة، أو داخل المجتمع الذي يعيش فيه بشكل عام.
إن عناصر التكوين السياسي هذه هي التي كانت تنقص الأجيال الأولى للمهاجرين الذين يعتبرون أنفسهم غرباء عن المجتمع، ويرون أن المشاركة السياسية لا تخص إلا السكان الأصليين، أو أن الانتخاب لن يغير من واقعهم اليومي شيئا.
هذا الجيل الجديد هو الذي أفرز مسؤولين سياسيين من الصف الأول، مثل وزيرة العدل السابقة رشيدة داتي ووزيرة التربية والتعليم نجاة فالو بلقاسم، وهو كذلك الجيل الذي أفرز نشطاء مدنيين وحزبيين كثراً يتوزعون على كامل المشهد السياسي والمدني والجمعياتي الفرنسي.
لكن مع ذلك ورغم كل النجاحات يبقى التمثيل السياسي للعرب والمسلمين ضعيفا جدا، مقارنة بوجودهم القديم في فرنسا وبعددهم الأكبر من بين كل الجاليات الأخرى، رغم امتناع السلطات الفرنسية عن تقديم إحصاءات رسمية لعددهم الحقيقي.
بل إن بعض المراقبين لا يرى في التمثيل السياسي للعرب والمسلمين بفرنسا إلا مساحيق باهتة لتغطية حالة الإقصاء والتهميش التي يعيشونها، فماذا قدمت الوزيرتان السابقتان للجالية؟ ألم يكن انتخابهما ذراًّ للرماد في العيون وإيهاما بالتمثيل السياسي، في حين تعاني الجالية من كل أشكال التمييز والتهميش والتفرقة.
صحيح أن مستجدات دولية أخرى عمقت عزلة المهاجر العربي والمسلم خاصة ما سُمّي “الحرب العالمية على الإرهاب” بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي ركّزت بشكل مريب على العرب والمسلمين دون غيرهم من الشعوب والأديان.
وصحيح أيضا أنّ استهداف الجالية العربية المسلمة في الإعلام المحلي والدولي وخطاب التصعيد ضدها -الذي يتقنه اليمين المتطرف العنصري ممثلا في حزب الجبهة الوطنية- مثلّاَ معا أسبابا إضافية عمّقت عزلتها وانطواءها.
أما أكثر العناصر التي عمّقت حالة الانزواء والعزلة التي تعاني منها الجالية فهي الهجمات الإرهابية الدامية التي استهدفت الأرض الفرنسية، سواء إبان العشرية الحمراء الدامية في الجزائر بهجمات قطار الأنفاق، أو الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو”، أو التفجيرات الأخيرة لمسرح “باتكلان”.

حضور يعوزه التنظيم
اليوم ومع اشتداد الحملة الانتخابية الأخيرة التي تخص الرئاسيات؛ تحْضر الجالية العربية والمسلمة بشكل بارز في الخطاب الانتخابي الفرنسي نفسه، وذلك عبر زوايا مختلفة.
فقد أسست زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان حملتها الانتخابية -كما جرت عادتها- على معادة المهاجرين والأجانب، وخصت المسلمين منهم بنصيب هام من شعاراتها الانتخابية.
حيث صرحت في أكثر من مناسبة بأن الخطر الأول الذي يهدد هوية فرنسا هو الإسلام والمسلمين، ولم تتردد في الخلط المتعمد بين الإرهاب والإسلام، أو ما تسميه هي “الفاشية الإسلامية ” تقربا من المعجم السياسي لدونالد ترمب وفلاديمير بوتين.
وفي نفس المضمار ولكن بحدة أقل؛ تحرك المرشح الأبرز لليمين الفرنسي فرانسوا فيونعندما دشّن حملته الانتخابية بكتاب جعل له عنوانا براقا: “من أجل هزيمة الشمولية الإسلامية”، قبل أن تعصف به وبحملته الانتخابية فضائح الفساد المالي التي ألغت تقريبا كل حظوظ له في الفوز بالرئاسيات.

وفي المقابل؛ دافع مرشح اليسار بنوا هامون عن المهاجرين مصرحا بأنه يفتخر بأن يسميه منافسوه “بلال هامون” بسبب ميوله المفرطة للعرب والمهاجرين. أما المرشح الأبرز للفوز بالرئاسيات الفرنسية إيمانويل ماكرون فقد أظهر موقفا وسطيا من المهاجرين، رغم تصريحاته القوية بشأن الاستعمار الفرنسي للجزائر، والتي أثارت ضجة كبيرة خاصة في الأوساط اليمينية التقليدية الفرنسية.
بناءً على ما سبق؛ يبدو المهاجرون العرب المسلمون -أحبوا أم كرهوا- في قلب المعركة الانتخابية الفرنسية سواء بالسلب أو بالإيجاب، ويزيد ذلك الحضور وعيهم المتصاعد بجدوى المشاركة في الفعل السياسي، أسوة بالجاليات الأخرى النافذة في فرنسا وخاصة منها الجالية اليهودية.
لكن عناصر أخرى لا تزال تكبّل تبلور الفعل السياسي للجالية، وهي تتعلق أساسا بدور النخب المهاجرة في تجميع الصوت الانتخابي حتى يصبح كتلة انتخابية ذات قيمة، والعمل في شكل تجمعات أو “لوبيات” توجه الناخب من أصول عربية بشكل يجعل السياسي الفرنسي يحسب لأصوات العرب والمسلمين ألف حساب.
إن الصراعات التي تعرفها المنطقة العربية تُلقي هي الأخرى بظلالها كاملة على فعل المهاجر في المشهد الفرنسي، وهو فعل يميزه التشرذم والانقسام والتشتت، وغلبة النعرات الإقليمية والطائفية وحتى الجهوية.
فحتى المساجد -التي تعتبر أهم أماكن تجميع الأصوات التي يقصدها المرشحون- صارت تتبع بشكل يكاد يكون رسميا لهذا البلد أو ذاك، بشكل أنهك قيمة المشاركة الانتخابية للجاليات المهاجرة.
لكن رغم كل هذه العوائق والعراقيل؛ يتأكد يوما بعد يوم -لدى الفاعلين في الجالية المسلمة الفرنسية- الوعيُ بالتقصير وبكلفته الباهظة، والوعي بطبيعة التحديات التي يواجهها المهاجرون في فرنسا، والتي ستحدد حتما مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
هذا الوعي الجديد يشكل في الحقيقة نواة مركزية لتفعيل الإدراك وتحويله إجراء ميداني، تعبر من خلاله المجموعة العربية المسلمة بفرنسا عن مطالبها المستحقة، في فضاء يسمح بحرية العمل الحزبي ويشجع الممارسة السياسية، ويقطع مع أساليب القمع والتضييق التي استبطنها المهاجرون بتمثلهم سياق البلد الأم في فضاء يختلف عنه كثيرا.

(محمد هنيد “​أكاديمي وباحث تونسي” – الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى