تقارير وإضاءات

كيف سقطت مصر في يد العسكر؟

كيف سقطت مصر في يد العسكر؟

إعداد شريف مراد

“لا توجد خسارة تاريخية كبرى لا يكون الشعب الخاسر مسؤولا عنها! ولا يوجد في مزبلة التاريخ أبرياء. لأنك عندما تكون ضعيفا أو مترددا في اللحظات التاريخية الكبرى، فهذه خطيئة من وجهة نظر التاريخ”

علي عزت بيغوفيتش

“يا لها من أيام عصيبة”، قالها في قرارة نفسه الإذاعي الشاب فهمي عُمر وهو يَحُث الخطى باتجاه مبنى الإذاعة المصرية -مقر عمله- في شارع علوي بوسط القاهرة، حيث يُشاهد للمرة الأولى في حياته وفي حياة جيله تقريبا(1) الدبابات والمركبات العسكرية التابعة للجيش المصري وهي تنتشر في شوارع وأحياء القاهرة الخديوية، حيث بَدتْ في عينه المدينة التي كانت دائما مليئة بالحياة والحركة والألوان وهي ساكنة ومُتوجسة ومُترقبة وكأنها على أعتاب تحول تاريخي، إلا أن أحدا من سُكان المدينة كان على علم بِكُنه هذا التحول وما سوف تشهده مدينتهم فعليا.

فمنذ الثالث والعشرين من يوليو/تموز 1952 استولت مجموعات من داخل الجيش المصري بقيادة عدد من الضباط الشُّبان على مبنى الإذاعة، وانتشرت المركبات العسكرية في شوارع القاهرة والمحافظات الأخرى، وتم إعلان الثورة في المذياع والجريدة، وإجبار الملك على التنازل عن عرش مصر، لكن في الشوارع أعلنت الأحكام العرفية وتم فرض حظر التجول ومنع التجمعات، وانتشر العسكر ورجال الشرطة في كل الأماكن الحيوية في المُدن، و تم منع الصحف من النشر والإذاعة من البث إلا بالطبع ما تريده السُلطة السياسية الجديدة. وفي مقر عمله يسمع فهمي وزملاؤه بيانات الجيش التي تدعوهم إلى التزام الهدوء والسكينة والنظام ولا تطرح أهدافا سياسية مُحددة يُمكن لهم أن يُشاركوا في صُنعها.

ثورة 1952 في مصر (مواقع التواصل)

“إن نجاحنا للآن في قضية البلاد يعود أولا وأخيرا إلى تضافركم معنا بقلوبكم، وتنفيذكم لتعليماتنا، وإخلادكم إلى الهدوء والسكينة، إنني أتوسل إليكم أن تستمروا في التزام الهدوء التام حتى نستطيع مواصلة السير بقضيتكم في أمان”

من البيان الثاني للثورة

في سنين الثورة المصرية، ومع كل صدام مع أجهزة الدولة، ينكشف تدريجيا طبيعة ومنظومة الاستبداد والسلطوية في مصر، فثورة يناير التي بدأت كاحتجاج سِلمي على ممارسات الأجهزة الشرطية والأمنية في مصر ومنددة بانتهاكاتها لحقوق الإنسان في مصر، مع مطالبات باستقلال السلطة القضائية كمطلب ديمقراطي أساسي، وجدت نفسها بعد كسر هيمنة وسطوة الشرطة المصرية في مواجهة مفتوحة وعنيفة مع جمهورية يوليو العسكرية العميقة.

وقد كان لمرارة هزيمة الثورة في مصر وصعود الثورة المضادة على أجساد عشرات الآلاف من المواطنين القتلى في الشوارع والمسجونين في العنابر أن ولّدت التساؤل عن تاريخ صعود تلك السلطوية العسكرية، بل وفي السنين الأخيرة زاد الحنين في أوساط العديد من دوائر المهتمين بالشأن العام المصري، لحقبة المَلكية شبه الدستورية والليبرالية المدنية التي سبقت قيام دولة يوليو، والتي عرفت مصر خلالها أقصى درجات التعددية السياسية والثقافية، لتبدو الجمهورية السلطوية العسكرية في مصر، وفقا لهذا الحنين السياسي وهذه السردية السياسية، وكأنها انحراف عن مسيرة التحديث والديمقراطية الليبرالية التي عرفتها مصر منذ ثورة 1919، انحراف أتى على شكل انقلاب عسكري قام به مجموعة محدودة من الضباط الشُّبان الغاضبين، ليغيّروا نظام الحكم ويُغيّروا وجه البلاد إلى الأسوأ وللأبد.

يصف الغالبية من المؤرخين والباحثين النظام الجمهوري الذي تَشَكَّل بعد حركة 23 يوليو بجمهورية الضباط أو بدولة يوليو العسكرية العميقة أو بحكم العسكر، مؤكدين على أن الاستبداد والعداء للديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية والجنوح الدائم للعسكرة والأمننة وتصفية المجال السياسي هو جزء أصيل وهيكلي من طبيعة النظام الجمهوري العسكري المصري وليس مجرد حدث عارض داخله، وهو ما يؤكده تاريخ الجمهورية المصرية الممتد لأكثر من نصف قرن حتى الآن، فالسؤال عن الأسباب التاريخية التي أدّت إلى تَشَكُّل هذه السلطوية العسكرية وهيمنتها على الدولة والمجتمع في مصر بات سؤالا يتجدد طرحه كلما اشتدت دولة يوليو في المضي قدما في تصفية المجال السياسي المصري والقوى الفاعلة فيه، وهنا يُطرح تساؤل حول ما إذا كانت هذه السلطوية تمثل بالفعل انحرافا عن حقبة سابقة عليها، كانت ديمقراطية وليبرالية فعلا، وإذا صَحّ هذا؛ فمن يتحمل المسؤولية التاريخية عن هذا الانحراف؟

قصة تَشكُّل الحداثة في مصر

في غالبية الدراسات التاريخية(2) التي تتناول تاريخ مصر الحديث، أتت بدايات قصة الحداثة المصرية عبر عدة محطات رئيسية يقع أولها في الحقبة الزمنية من مجيء الحملة الفرنسية واستيلائها على مصر وصولا وامتدادا مع مشاريع محمد علي الذي حكم مصر بُعَيد جلاء الفرنسيين عن مصر، حيث يؤكد الباحث ف.روبرت هنتر(3) أن مشاريع محمد علي وأبنائه لا تختلف جوهريا عن المشاريع التي كانت تنوي السلطة الاستعمارية الفرنسية أن تُقيمها في مصر من ناحية التقنيات أو التكنولوجيا السياسية المُتبعة بداية من بناء المصانع ومعسكرات العمل وتنظيم الزراعة وقوانين المَلكية وتكوين الفرق العسكرية والأمنية الحديثة وفرض التجنيد ومشاريع إحصاء السكان والصحة العامة والتخطيط العمراني للمدن الحديثة.

محمد علي باشا (مواقع التواصل)

المرحلة الثانية(4) هي التي بدأت بتفكيك المشاريع الاحتكارية لمحمد علي من خلال تسوية عام 1840 التي تمت بينه وبين القوى الأوروبية، وبداية خصخصة الأراضي المصرية المملوكة للباشا وظهور طبقة محلية من الأعيان وكبار ومتوسطي المُلاك، فبحسب العديد من المؤرخين كانت تلك الطبقة التي ظهرت للوجود بفضل تلك التسوية السياسية بمنزلة النواة وحجر الأساس في تشكيل المجال السياسي المصري الحديث، حيث أظهرت وعيا أخذ يتزايد بمرور الوقت بمصالحها، وشكّلت حالة من التفاوض والنضال للتخفيف من وطأة الاستبداد الخديوي وحكمه المُطلق المدعوم من السلطنة العثمانية، فكانت الثورة العُرابية كأول حركة وطنية ديمقراطية ضد الاستبداد الخديوي هي ذروة هذه المرحلة من تاريخ التحديث في مصر.

ثم المحطة الأهم ونقطة الانتقال الأكثر جذرية في تاريخ مصر الحديث تمثلت في قيام ثورة 1919، التي كانت أكبر من مُجرد حراك جماهيري واسع من حيث كثافته ومداه الزمني فحسب، بل كانت في أحد وجوهها دمجا لقطاع عريض من السكان داخل مصر الحديثة التي بدأ تأسيسها مع محمد علي حتى اللورد كرومر، ودمجا لقطاع عريض من السكان المحليين داخل الوطنية المصرية، ليس كهوية متخيلة قيد التَشَكُّل، بل كهويّة وطنية لها أسسها المادية وفاعليتها داخل التاريخ، وتأسيسا للمجال السياسي الحديث وللجماعة الثقافية والسياسية المصرية الحاملة له.

في كتاب “البحث عن خلاص.. أزمة الدولة والحداثة في مصر”، في معرض تأريخ الكاتب لأزمة الحداثة في مصر يؤكد الباحث شريف يونس أنه ككُل التحولات التاريخية في الحداثة، أخذت الدولة المصرية الصاعدة “تدمج المزيد والمزيد من السكان في الحيز الجغرافي الذي تستولي عليه، ومع الاندماج المتزايد لم يعد السكان يقاومون ذلك بالهرب، كالهرب من التجنيد أو التعليم النظامي أو مراوغة سياسات الدولة الاقتصادية والصحية مثل أيام محمد علي، بل بالمطالبة بحقوقهم من داخل هذا النظام الذي أخذ يتقادم ويُعتبر طبيعيا، أصبح قطاعات واسعة من السُكان -ظلت تتزايد بفعل استمرار حركة التحديث- تنظر إلى الدولة الحديثة لا ككيان خارجي غاشم يُهيمن على حياتها، بل كبيئة يعيشون فيها ويبحثون عن مصالحهم داخلها”، أصبحوا يحتجون على استبدادها ولاحقا على استعماريتها، وليس على وجودها نفسه، بذلك وُضعت أسس التحول الكبير نحو تَشَكُّل المجال السياسي المصري، والوطنية المصرية كهوية سياسية حديثة لها تجلياتها المادية وفاعليتها السياسية والقانونية، من هذه الزاوية تُعد ثورة 19 -وهي ثورة ضد الاستعمار كما ضد الحُكم المُطلق للخديوي- هي التعبير السياسي الديمقراطي الجذري والأوسع عن الشعب المصري ككيان قانوني وفاعل سياسي يطالب بالسيادة الوطنية والدستور والديمقراطية.

فشل مُبكر للحداثة الديمقراطية في مصر

“إن أي تنظيم سياسي إنما يحمل في داخله طبيعة السلطة وصورة الدولة التي سيقودها”

طارق البشري

بطبيعة الحال لم يكن النجاح الأساسي لثورة 19 هو الاستقلال وجلاء الاستعمار البريطاني عن مصر، حيث ظل الوجود العسكري والسياسي والاقتصادي للاستعمار قائما، رغم إعلان بريطانيا في فبراير/شباط 1922 برفع الحماية عن مصر وإعلانها كدولة مستقلة ذات سيادة، ولكن الشيء الجوهري في الثورة هنا هو تأسيسها للمجال السياسي المصري(5) بصيغته القانونية ومؤسساته التمثيلية كالدستور والبرلمان، المجال السياسي الذي ظهرت نواته الأولى مع تَشكّل طبقة المُلاك والأعيان والوجهاء المحليين بعد تسوية 1840، ثم تجلت سياسيا في الحركة العُرابية التي كانت ثمرة تحالف بين المُكوّنات المحلية في الجيش وطبقة المُلاك والأعيان ودوائرها الاجتماعية ضد الاستبداد الخديوي(6)، وصولا إلى الانتصار الأهم في ثورة 19، حيث أصبحت مصر مَلكية دستورية يحكمها الدستور والقانون لها برلمان مُنتخب يُمثّل قوى المُجتمع ويراقب السلطة التنفيذية ويحاسبها، كخطوة أساسية في القضاء على الحُكم المُطلق لعائلة محمد علي.

بحسب طارق البشري، فإن حزب الوفد لطوال ثلاثة العقود التي تلت الثورة والإعلان الدستوري كان العمود الأساسي للنظام السياسي القائم

كانت قوى الثورة الأساسية هي الفئات الحديثة في المجتمع المصري(7)، أي الفئات التي هي نتاج لعملية التحديث المستمرة؛ مُمَثّلة في طلبة الجامعات وطبقة الأفندية من مُحامين ومُعلمين وموظفي البيروقراطية وصحفيين والعاملين في الشركات الأجنبية وجموع الفئات الحضريّة من سُكان المدن الخديوية إضافة لامتداداتها العضوية وتحالفاتها داخل المجتمع التقليدي، حيث كانت تلك الفئات جزءا من تحالف واسع للبرجوازية المصرية، على قمة هرمه الاجتماعي كُبار ومتوسطو المُلاك والأعيان، وعلى قمة هرمه السياسي حزب الوفد الذي تم تأسيسه بعد قيام الثورة مباشرة بزعامة سعد زغلول ومصطفى النحاس على التوالي.

وبحسب الفقيه الدستوري والمؤرخ طارق البشري، فإن حزب الوفد لطوال ثلاثة العقود التي تلت الثورة والإعلان الدستوري كان هو العمود الأساسي للنظام السياسي القائم، مضيفا أن حزب الوفد كان التجسيد السياسي المؤسسي للثورة، “حيث كان بمنزلة التنظيم السياسي للحركة الوطنية الديمقراطية”، ينقل شريف يونس تعليق طارق البشري إلى مستوى تحليلي أعمق موضحا أن الوفد لم يكن يملك بنية حزبية حقيقية تعبر عن مصالح سياسية واقتصادية لفئة أو طبقة بعينها، معقّبا أن البنية التنظيمية والاجتماعية للحزب كانت أقرب للجبهة التي تضم العديد من القوى السياسية والاجتماعية، فحزب الوفد -يُضيف يونس- كان حزب المُجتمع المصري الحديث الذي يتشكّل سياسيا، حزب البرجوازية المصرية الصاعدة التي تريد أن تأخذ مكانها وسط العالم الحديث.

بطبيعة الحال انعكس ذلك على الخطاب السياسي لحزب الوفد الذي رأى نفسه طليعة ومُمثلا للأمة المصرية ووكيلا عنها في صراعها من أجل الاستقلال والسيادة، يُعلق البشري(8) ا: “ومن هنا كانت أحزاب الأقلية تجأر بالشكوى، مما أطلقت عليه استبداد الأغلبية، حيث كان تقدير الوفد لنفسه أنه التنظيم الجامع للأمة، وأن ما عداه ليسوا أحزابا سياسية مُنافسة، بل خوارج عليه وعلى القضية الوطنية”، مما يضرب في صُلب التعددية السياسية التي من المفترض أن تكون عنوان النظام الديمقراطي النيابي الليبرالي، ويفتح المجال بالتبعية للتحول إلى نظام شمولي وسُلطوي.

صعود الحداثة السلطوية

يُعلل طارق البشري الخطاب الشمولي لحزب الوفد ، بارتباط الديمقراطية بصلب المسألة الوطنية والمعركة مع الاستعمار، فقد أدى هذا التوظيف الوطني للديمقراطية أن تُختزل الديمقراطية إلى مجرد أداة لتحقيق السيادة وليست تعبيرًا – كما هو مُفترض- عن التعددية السياسية في مصر ، فالوفد كما يصفه البشري لم يكن حزبا ديمقراطيا كما في التقليد السياسي الحزبي البرلماني، بل “كان تنظيم الحركة الوطنية بأسرها في نضالها ضد الاستعمار، وأن التأييد الشعبي الكاسح له كان يُطالبه بالأساس بتحقيق السيادة المصرية على السياسة والاقتصاد وطرد المُسْتَعمِر”(9)، لذلك تميّزت المنافسة البرلمانية في العقدين اللذين أعقبا الثورة بعدم التناسب المُطلق بين حزب يحظى بما يُقارب الإجماع من التأييد الشعبي، سواء في الانتخابات أو غيرها من أساليب التعبئة السياسية كتنظيم المظاهرات والاعتصامات والإضرابات أو حتى الدعوة إلى المقاطعة السياسية، وبين أحزاب مُتناهية الصغر حين لم تجد ظهيرا شعبيا سياسيا حقيقيا دخلت في تحالف مع الاستبداد الملكي.

وُجّهِت أول ضربة للنظام بتوقيع معاهدة 1936 بين حكومة الوفد بقيادة مصطفى النحاس وبين المملكة البريطانية

ويوسع شريف يونس(10) مستوى التحليل موضحا أن مَكمن الخلل في المقولة الشهيرة بعد الثورة بأن الوفد هو حزب الوطنية هو أنها مقولة غير ديمقراطية بالأساس، لأنها تنزع الشرعية الوطنية عن باقي الفاعلين السياسيين، النقطة الأهم هنا هي أن الديمقراطية المصرية نظرا لأنها تشكّلت كجزء من مشروع وطني لمحاربة الاستعمار تولّد لديها نزعة شِيمِيتيّة* يرتكز خطابها السياسي بشكل هيكلي على هوس بمفهوم السيادة مصحوبا بنزعة عدوانية وتخوينية لا تهدف إلى خلق مجال سياسي تعددي وتنافسي حقيقي، بل إلى ديمقراطية يَعاقبيّة هُوياتيّة تتخذ طابعا شكليا مثاليا تُصوِّر المُجتمع المصري بكل مكوناته كوحدة شاملة عضوية مُصمَتة في مواجهة الأعداء الأجانب، ومع افتراض بوجود ثقافة مصرية قائمة بذاتها ومُوحَدّة أمام ثقافة المستعمِر الأجنبي، وعلى الحكام الشرعيين أن يكونوا التجسيد الحقيقي لتلك الثقافة والهوية المصرية، يُعرّف الفيلسوف اليميني الألماني كارل شميت الديمقراطية الشعبية بقوله: “الديمقراطية هي تطابق هويّة الحكام مع المحكومين”(11).

بهذه الكيفية تطورت الوطنية المصرية، فهي لم تتشكّل كوعاء سياسي ديمقراطي يسمح بتعددية سياسية داخلها، بل ظل النظام الدستوري والبرلماني إحدى الأدوات الوطنية للتعامل مع الوجود الاستعماري وصار من يريد المَسّ أو التلاعب بالحقوق والأوضاع الديمقراطية والدستورية إنما يتحالف بوعي أو بغير وعي مع الاستعمار والاستبداد الخديوي، فالنضال الديمقراطي هو نضال وطني بالبديهة، وعلى هذا الأساس ظل الوفد مُهيمنا على الساحة السياسية المصرية كوكيل عن الأمة المصرية في هذه المواجهة التاريخية، حتى وُجّهِت أول ضربة للنظام بتوقيع معاهدة 1936 بين حكومة الوفد بقيادة مصطفى النحاس وبين المملكة البريطانية والتي تم بمقتضاها الاعتراف بشرعية الوجود العسكري البريطاني في مصر لدواعي قيام الحرب العالمية الثانية، حيث أتى توقيع الحكومة الوفدية لهذه الاتفاقية خصما من رصيد الوفد السياسي، فقد ساد رأي عام أن المعاهدة بمنزلة هزيمة للقضية الوطنية إذا إنها شرعنت الاحتلال البريطاني بدل أن تنتزع منه السيادة المصرية.

كان هذا التنازل من الوفد ليس مجرد انتقاص من شرعية الحزب فقط، بل كان بصورة أعمق تآكلا في شرعية المشروع الدستوري الليبرالي النيابي نفسه، لأن الحزب وإن نادى بالليبرالية النيابية والملكية الدستورية، فإنه قدّم نفسه قبل كل ذلك كرمز الوطنية المصرية الحديثة، وتجسيد مباشر للمجتمع المصري الحديث الذي خرج إلى الشوارع في ثورة 19 يُطالب بالسيادة الوطنية، وفضلا عن أن الحزب بالفعل هو عمود النظام الدستوري النيابي القائم، وليس مجرد حزب سياسي، وبهذا كان تراجع الوفد تآكلا لشرعية النظام السياسي الدستوري كله، وليس مجرد تراجع لحزب سياسي فقد شعبيته، حيث يَجْزم الباحث رول ماير(12) أنه بتوقيع هذه المعاهدة وتراجع شعبية الوفد بدأت تتهاوى أركان النظام وبدأ المجال السياسي المصري يتحوّل باتجاه السلطوية بالفعل.

فشل الحداثة.. الطريق إلى السلطوية العسكرية

كان الوفد هو الاختيار السياسي الواعي والنضالي لمجتمع حديث يَتَشكّل سياسيا ويتجه إلى أن يكون شعبا ودولة ذات سيادة، إلا أنه ومنذ معاهدة 36 التي اعترفت فيها حكومة الوفد بالوجود العسكري البريطاني كوجود شرعي وليس كاحتلال عسكري يجب مواجهته، بدأت شعبيّة الوفد الكاسحة في التراجع حيث ظلت الحكومة الوفديّة طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية تحكم مصر بالأحكام العرفية نظرا لظروف الحرب وقربها من الحدود المصرية، وتقوم بالممارسات الأمنية نفسها التي كان يقوم بها الاحتلال، في كتابه “البحث عن الحداثة: الفكر السياسي العلماني الليبرالي واليساري في مصر” يلحظ رول ماير أن سنوات الحرب والسنوات التي تلتها شهدت تغيرات مهمة في المجال السياسي، وهي لأول مرة عزوف المصريين عن المشاركة في الانتخابات بنسب صارت تتزايد منذ تاريخ توقيع المعاهدة، فلم تتراجع شعبية الوفد فقط، بل باتت شرعية النظام كله محل تراجع مستمر.

الأمر الثاني كما يفيدنا تميم البرغوثي في كتابه “الوطنية الأليفة” أن بفعل هذا الفراغ السياسي الذي نتج عن تراجع الوفد والنظام الدستوري بدأت الطبقة الوسطى الحضرية القاعدة الجماهيرية التاريخية لحزب الوفد والآخذة في الازدياد -بفعل سياسات التحديث المستمرة كسياسات التعليم الموحّد المدرسي والجامعي والتي تضاعفت منذ ثورة 19- في التوجه لتنظيمات تُعبر عن هذا المزاج الراديكالي الجديد لدى البرجوازية المصرية، كتنظيم الإخوان المُسلمين وتنظيم مصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية المختلفة، وبحسب طارق البشري(13) فإن هذه التنظيمات على التباين الواضح بينها فإنها اتفقت جميعا على رفض الأسس النظرية والهوياتية التي قام عليها النظام من جذوره، كرفض السياسات البرلمانية والليبرالية والهوية الوطنية ودستور 23 شبه الديمقراطي، ورفضت الرأسمالية والإقطاع بدرجات متفاوتة، بالإضافة إلى أن كلًّا منها امتلك رؤى سلطوية صلبة للعالم وللمجتمع، ويُضيف رول ماير(14) أن المشترك بين هذه القوى خلاف الوفد أنها لم تكن ترى في الديمقراطية والبرلمان والتعددية السياسية والحزبية أهدافا وطنية أو سياسية، حيث يصفها: “مجموعة تنظيمات كُلية يريد كل واحد منها أن يفرض كلّيته على المجتمع، بخطاب دولتِي -غير حزبي – عن المصلحة العامة وتمثيل السيادة الوطنية بشكل معادٍ للسياسية وللتعددية”.

بنهاية الأربعينيات، كان النظام السياسي والدستوري قد وصل فعليا لمرحلة من الانهيار يصعب معها أي إصلاح، فمن ناحية كان استبداد الملك التقليدي وصل لدرجة عالية من انعدام الشرعية وبات الحديث عن إلغاء الملكية وانعدام شرعية حكم أبناء محمد علي علنيا، ومن ناحيته قام الملك بحل كل البرلمانات التي أتت بأغلبية وفدية، وتواطئ مع حالة الاستثناء التي وفرتها معاهدة 36 والقدرات القمعية للاستعمار لتدعيم استبداده، حيث ظل يعتمد على أحزاب الأقلية في تشكيل الحكومة، من ناحية أخرى دخلت التنظيمات السياسية الشيوعية وتنظيما مصر الفتاة والإخوان المسلمين -الذي بات أحد التنظيمات السياسية الرئيسية في مصر- بالإضافة للوفد في مواجهة مفتوحة مع حالة الاستثناء التي فرضها الاستعمار وحكومات الأقلية(15)، فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 اندلعت المظاهرات وحركات الاحتجاج والمواجهات سواء مع الأجهزة الأمنية المحلية او مع الوجود العسكري الإنجليزي في كافة المدن المصرية بشكل مُستمر مع رفض ملكي – بريطاني لإلغاء المعاهدة أو حالة إنهاء الأحكام العرفية.

وفي العام 1950، وبعد استنزاف بدائله السلطوية -خاصة بعد الهزيمة في حرب فلسطين-، قرر الملك السماح بإجراء انتخابات برلمانية، كانت قيادة الوفد قد أدركت أنها لم تكن الممثل الحصري للبرجوازية المصرية كما في السابق، بل أصبحت تنظيمات الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية تشترك معها في ما كان لها وحدها سابقا، وبالفعل دخل الوفد الانتخابات البرلمانية مدعوما من كل التنظيمات التي شكّلتها الطبقة الوسطى المصرية في كفاحها ضد الاستعمار، وصل الوفد إلى السلطة، ووسط تأييد شعبي منقطع النظير قام مصطفى النحاس بإعلان إلغاء معاهدة 36 من طرف واحد.

تردد الساسة ونجاح العسكر

أتى نجاح الوفد في الانتخابات الأخيرة نتيجة تحالف سياسي بين التنظيمات السياسية للطبقة الوسطى المصرية، ويهدف هذا التحالف والاصطفاف خلف حزب الوفد إلى إلغاء معاهدة 36 وجلاء الإنجليز عن مصر، مثّلت تلك الخطوة من طرف القوى المدنية المصرية أول مؤشرات على الرغبة في استكمال الحداثة الديمقراطية التي بدأها المصريون في ثورة 19، فبإلغاء المعاهدة عادت القوات البريطانية مرة أخرى قوات احتلال واندلعت مواجهات مُسلحة بينها وبين التنظيمات السياسية المصرية في طول مدن القناة.

أبقت أخبار المواجهات بين المصريين والجيش الإنجليزي في مُدن القناة المدن المصرية مُشتعلة

بانهيار شرعية الملك ودخول المصريين في مواجهة مفتوحة ومُسلحة برعاية الحكومة الوفدية ضد الوجود الاستعماري البريطاني يكون النظام السياسي الذي تم تأسيسه بعد الثورة 19 قد انتهى سياسيا، حيث باتت السلطة مُلقاة في الشوارع عمليا وتنتظر من يلتقطها(16)، إذ خرجت المظاهرات الشعبية لتحاصر قصر الملك أكثر من مرة في الأعوام التي تلت إلغاء المعاهدة، وكانت وزارة الداخلية بأمر من الحكومة الوفدية قد حشدت أغلب قواتها في مُدن القناة في مواجهة مُسلحة مع الجيش الإنجليزي.

باتت أيام المَلكية في مصر معدودة، بانتظار فقط من يسحب الزناد. على الناحية الأخرى أبقت أخبار المواجهات بين المصريين والجيش الإنجليزي في مُدن القناة المدن المصرية مُشتعلة، إذا لم تهدأ المظاهرات والاحتجاجات وتم مهاجمة المصالح والهيئات الإنجليزية. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي ما عُرف تاريخيا بمذبحة الإسماعيلية حيث حاصرت القوات الإنجليزية مبنى البلدية في الإسماعيلية في إطار مواجهة حدثت بينها وبين قوات الشرطة المصرية، وتم اقتحام المبنى بعد مواجهات دامية وقتلت القوات الإنجليزية ما يزيد على ثلاثمئة ضابط مصري، وبمجرد أن وصل الخبر للقاهرة اشتعلت بمظاهرات غاضبة قادها رجال الشرطة أنفسهم وما لبث أن انضم إليهم غالبية سُكان القاهرة الغاضبين وتم مهاجمة كل المصالح التجارية والسياسية الأجنبية وتزايدت الجموع الغاضبة وتطور الأمر لإحراق القاهرة الخديوية كلها(17)، يصف طارق البشري مصر تلك الليلة: “باتت مصر وكأنها بدون سُلطة سياسية فعلية، وانفلت زمام الأمور”.

في سلسلته عن تاريخ أوروبا الحديث عَنون المؤرخ إيريك هوبزباوم المجلد الأول الذي يؤرخ فيه لانتقال المجتمعات الأوروبية إلى الحداثة السياسية والاجتماعية(18) بـ “عصر الثورات”، وداخل هذا العنوان الدال يحكي هوبزباوم عن ثورات جماهيرية عارمة خاضتها البرجوازيات الأوروبية للقضاء على الاستبداد التقليدي مُمَثّلا في الحكم المَلكي المُطلق، لتؤسس بعدها دولا حديثة تتمتع بالسيادة والاستقلال، على النقيض كان حزب الوفد -وهو الأفق السياسي التاريخي للثورة والديمقراطية في مصر- وعلى رأسه مصطفى النحاس الزعيم السياسي التاريخي للبرجوازية المصرية، ظل مترددا وهو على بُعد خطوة واحدة من الثورة والتقاط السلطة المُلقاة في الشوارع وتحقيق الانتقال السياسي التاريخي التالي الذي تنتظره مصر الحديثة.

في ذات الوقت الذي بلغ الملك فيه درجة عالية من التخبط والارتباك، فبعد إقالته لحكومة الوفد في أعقاب الانهيار الأمني الذي حدث في حريق القاهرة، حاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه ويُسلم الحكومة لأحزاب مُوالية له، لكن لأن الفشل الأمنى الحادث كان مصدره فشلا سياسيا في واقع الأمر -كما يوضح البشري- فلم تستطع أي حكومة من الوزارات الأربعة التي تم تشكيلها خلال العام الأخير للملكيّة من استعادة النظام الذي كان قد انتهى إكلينيكيا بالفعل.

 المؤرخ إيريك هوبزباوم (مواقع التواصل)

وأمام هذا التردد للوفد ومصطفى النحاس في الإطاحة بالملك واستلام السلطة، وعجز التنظيمات السياسية المختلفة للطبقة الوسطى المصرية كالإخوان ومصر الفتاة وحركة حدتو الشيوعية -التي كانت سيطرت على الشارع بشكل كامل- عن تشكيل جبهة مُوحدة وتحريك الرأي العام وراء الأهداف المُتفق عليها، ظهرت أصوات شعبوية واستبدادية من الأطراف المعادية للملك -كتنظيم مصر الفتاة- وحتى من الأصوات الموالية له تبحث عن الرجل القوي أو المُخلص أو القائد الذي يُخلّص مصر من الفوضى والفساد، ليستيقظ المصريون يوم الثالث والعشرين من يوليو/تموز على أصوات الدبابات وهي تنتشر في شوارع القاهرة ويدعوهم عبر المذياع بالتزام الهدوء وعدم الخروج إلى الشوارع مرة أخرى.

—————————————————-

الهوامش:

نزعة شِيمِيتيّة: نسبة إلى الفيلسوف السياسي والقانوني كارل شميت، الذي كان يرى أن الديمقراطية قوامها تجانس الهوية والسيادة، وليس التعددية السياسية والحزبية، لمزيد من الشرح يُرجى الاطلاع على: الديمقراطية عند كارل شميت.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى