كتاباتكتابات مختارة

حولَ انتقاد المصادر التاريخية الإسلامية ومفهوم التاريخ عند المستشرقين

حولَ انتقاد المصادر التاريخية الإسلامية ومفهوم التاريخ عند المستشرقين[1]

بقلم د. لينا سلايمة

لقد شكّل انتقادُ المصادر (source criticism) هدفًا أساسيًّا للمستشرقين المشتغلين في حقل الدراسات الإسلامية، فالمصادرُ الإسلامية في خيال المستشرق متحيزةٌ ومتضاربةٌ ولا يمكن الاعتمادُ عليها، ومن ثمَّ فهو يسعى، إن لم يدع السعي، إلى تطبيق آليات انتقاد الإنجيل على تلك المصادر.  وفي المقابل دافع العلماء المناهضون لمناهج المستشرقين عن موثوقية المصادر الإسلامية وصحتها، وقام بعضُهم بانتقاد الأسس ذاتها التي بُني عليها الانتقاد الاستشراقي.

وقد خصصتُ الفصلَ الأول من كتابي لبحث انتقادات المستشرقين للمصادر الإسلامية من منظور النظرية النقدية (critical theory) وفلسفة علم التاريخ (philosophy of historiography)، وليس من منظور التراث الإسلامي كما جرت عادةُ الباحثين (خاصة في العالم الإسلامي).

تعتمد الدراساتُ الاستشراقية في الغرب على منهجِ انتقاد الإنجيل بشكلٍ أساسيٍّ باعتباره أحدَ أهم مناهج انتقاد المصادر (source criticism)، وهو منهج يقوم على المقارنة بين المصادر المحفوظة، استنادًا إلى مجموعة من المبادئ التي يفترض المستشرق أنها “محايدة”، بهدف تحديد المصدر الأقدم أو الأكثر أصالة.

ولقد وضع مؤرخو القرن التاسع عشر في أوروبا أساليبَ لانتقاد المصادر التاريخية، والتي لا تزال شائعةً في مجالات معينة. وأصرِّح في كتابي أن بعضَ الدراسات في النظرية النقدية رفضت الأساليبَ المتَّبعة في انتقاد المصادر، مما قلَّل من أهميتها، وأدى بالعديد من التخصصات إلى التخلِّي عنها، وبالرغم من ذلك فما تزال تلك الأساليب هي المهيمنة في حقل الدراسات الإسلامية بالذات في الغرب.

واعتبارًا لهذا الحال يطرح الفصل الأول من كتابي نقدًا لمنهجية انتقاد المصادر وتطبيقاتها على الوثائق الإسلامية (منها الإدارية)، والمراجع التاريخية، والأحاديث النبوية. وسأحاول أن أعرض هنا أهم الخلاصات عن هذه الأنواع الثلاثة من المصادر.

1- الوثائق:

دراسة الوثائق وخاصة البرديات منها، باتت من الدراسات المتنامية، غير أن الكثيرَ من هذه الدراسات تفترض أن الوثائق أكثرُ موثوقية من المصادر التاريخية السردية، وأشرح في كتابي أن هذا افتراضٌ خاطئٌ من منظور فلسفة علم التاريخ؛ لأن الوثائق معرّضة للتزوير والمبالغة والخطأ كالمصادر السردية تمامًا. فالافتراض بأنه يمكننا الوثوق بالوثائق بينما لا يمكننا الوثوق بالمصادر الأخرى مبنيٌّ على افتراضين أيديولوجييّن:

الافتراض الأول: أن مؤلفيّ المصادر السردية متحيّزون ويعملون وفقًا لبرامجهم الخاصة، فقهيةً كانت أو كلامية، إلا إن هذا الافتراض ينطبق تمامًا على كاتبي الوثائق أيضًا، مما يجعله افتراضًا خاطئًا.

والافتراض الثاني: أن الوثائقَ في نوعيتها وكميتها هي انعكاسٌ خالصٌ للقِيَم الحضارية للمجتمع، بيد أنها في ذات الحين انعكاسٌ لظروف مجتمعات الإسلام الجغرافية والاجتماعية والسياسية، وليس لمستوى تطورها. فالبرديات مثلًا  أُعيد استخدامها ولحقها الضرر بسبب العوامل البيئية، وربما تدهورت لأسباب مجهولة. ناهيك عن عوامل السرقة والاستعمار التي أَثّرت بشكلٍ كبير على بقاء المصادر التوثيقية، هذا فضلًا عن عشوائية حفظها من جانب، وعشوائية الأرشيف في بداية الإسلام إلى أواخر العصر الأموي (ما يعرف كأواخر العصور القديمة (late antiquity)) من جانب آخر.

وفي الحقيقة فأنا أرى أن التركيز الراهن في البحث التاريخي على الوثائق في الدراسات الإسلامية يتجاهل أمورًا هامة:

أولًا: أنه يُمكن تدوين التاريخ من دون اللجوء إلى الوثائق. وأبلغ مثال على ذلك هو تدوينُ التاريخ اليوناني والتاريخ الروماني.

ثانيًا: أن الوثائق قد تكون غيرَ صحيحة مزيفةً أو محرفةً أو باطلة.

ثالثا: أن حفظ المصادر المكتوبة كان عشوائيًّا. وبذلك يترتب من التأريخ المستند إلى تلك الوثائق المحفوظة، نفس العشوائية المترتبة من التاريخ المستند إلى المصادر السردية (كما يدعي المستشرقون).

ومن المؤسف أن يعتبر العديدُ من علماء الإسلاميات أن الوثائقَ المادية هي دائمًا صحيحةً، بينما المصادر الأخرى و خاصة السردية منها هي مجرد أساطير، وهو موقف لا يمكن تبريرُه من وجهة نظر فلسفة علم التاريخ.

2- مصادر سردية:

المصادر الإسلامية السردية هي تلك المصادر التي تتناول سيرةً أو تروي أخبارًا ترجع إلى بداية التاريخ الإسلامي، دون الحاجة إلى اعتبارِ وُجوب تزامن الراوي لهذه الأخبار مع هذه الفترة التاريخية، أو كان الراوي معاصرًا بالفعل لها. وتشتمل هذه المصادر على السيرة والمغازي والمصنفات والسنن والمسانيد وكُتب الأحاديث الصحيحة.

وقد شكّل تقييمُ مصادر التاريخ السردية في طرح رؤيةٍ لبدايات الإسلام، موضوعَ جدلٍ حادٍّ في حقل الدراسات الإسلامية في الغرب، حتى غدَا مستحيلًا لأي دارس للتاريخ الإسلامي أن يَفلِت من دوامة المناقشات المحيطة بهذه المصادر.

وكما لاحظ المؤرخ تشيس روبنسون (Chase Robinson)، فإن ذلك الجدل يعكس “الطابع المحافظ للدراسة المهنية للتاريخ الإسلامي، وأن الجدلَ خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، ظل مرتبطًا بوثاقة مصادرنا المكتوبة، عِوضًا عن مناقشة نماذج فهم هذه المصادر وطرائق استخدامها”.

ويمكن القول: إن اعتبارَ النموذج التقليدي الغربي لانتقاد المصادر التاريخية هو النموذجَ الأمثل لدراسة المصادر الإسلامية، كان السببَ البارز الذي جعل من تفسير هذه المصادر أمرًا غيرَ مطروح للنقاش في الدراسات الإسلامية في الغرب.

وعلى عكس الافتراضات التقليدية الغربية، فإني أرى أن مناهج انتقاد المصادر ليست مجردَ تنظيمٍ للمصادر الإسلامية أو تصنيف لها، بل هي في الحقيقة إعادةُ لبنائها وفق طرق جديدة. فعندما يدّعي عالم ما بأن المصادر الإسلامية من بداية الإسلام غير موثوقة، فإنه ينطلق من موقف فلسفي تجاه ماهية الحقيقة/الصحة، ويفرض -بالتالي- تصورًا حديثًا لكتابة التاريخ، ومفهوم “الحديث” هنا ليس له أي دلالة إيجابية.

ويمكن القول: إن هناك ثلاث طرق رئيسة تفترض فيها الدراسات الإسلامية التقليدية في الغرب افتراضاتٍ مُستمدة من الفلسفة الوضعيّة (positivism) حول كتابة التاريخ، وهذه الافتراضات تدور حول: (1) التأليف والنقل الشفهي، (2) والاختلافات (variations)، (3) والمسافة التاريخية (historical distance).

التأليف والنقل الشفهي (oral composition and transmission):

يرى العديدُ من دارسي الإسلاميات أن البدايات الشفهية للمصادر الإسلامية من بداية الإسلام قد جعلت هذه المصادرَ غيرَ موثوقة لكتابة التاريخ، ورغم ذلك، فإن التأليف والنقلَ الشفهي باعتباره الأرشيف الرئيسَ لا يقلّ ثقةً، بالضرورة، عن النقل المكتوب، إذا أخذنا بعين الاعتبار أخطاءَ الكاتب أو الناسخ، وصعوبة المحافظة على النصوص ونقلها واستقلالية الكاتب أو الناسخ.

وتثبت فلسفة علم التاريخ وبحوث حديثة عن المصادر الإسلامية بطلانَ العديد من الافتراضات السائدة وغير الدقيقة في الدراسات الإسلامية في الغرب.

وإليك بنقدٍ لتلك الافتراضات الواهية من خلال النقاط الآتية:

1. تزامن النقل الشفهيّ مع النقل الكتابي لأحداث تاريخية.

2. أن ثمة مصادر تاريخية مكتوبة متزامنة لا يعني أنها بالضرورة موثوقة تمامًا.

3. أن الموثوقية متساوية بين النقل الشفهي المتزامن مع أحداث تاريخية معينة، والكتابة المتزامنة لها.

وبالتالي، العدول عن النقل الشفهي من أجل النقل الكتابي ليس إلا موقف أيديولوجي متحيز وليس مسألة تجريبية صرفة.

الاختلافات (variations): 

هناك انتقادٌ شائعٌ للمصادر الإسلامية التي تروي بدايةَ ظهور الإسلام، وهو أن تلك المصادر تفتقر إلى الواقعية لكونها متضاربةً، ويتجلى ذلك في وجود سرديات مختلفة لنفس الحدث التاريخي.

وتستند هذه الفكرة إلى أساس خاطئ، وهو أن التناسقَ التاريخي للروايات شرطٌ مسبقٌ وضروريٌّ لضمان مِصداقية المصادر التاريخية، وهذا خاطئ للأسباب الآتية:

– أن الأفراد يختلفون في تجاربهم وتفسيرهم للأحداث وتعبيرهم عنها. ونذكر على سبيل المثال اختلاف الشهود في شهاداتهم عن نفس الجريمة، والتي هي في الحقيقة اختلافات معيارية لا تمنع من قبول الشهادة مطلقًا. أما توقع الباحث وجود سرد واحد وثابت باعتباره السردَ الواقعي فهو توقعٌ مبنيٌّ على الفلسفة الوضعية التي تفترض وجودَ حقيقة واحدة فقط.

– أن الطريقة التي تمَّ بها نقل المصادر الإسلامية وكتابتها وجمعها قد أدت حتمًا إلى مثل هذه الاختلافات، ولكن ذلك لا يعني أن المصادر تفتقر إلى المصداقية.

– أن المؤرخين والرواة والمصنفين المسلمين لم يقوموا بتعديل “الحقيقة” فقط لتتناسب مع مصالحهم أو مصالح أسيادهم، بل إنهم فهموا التاريخ بشكلٍ يختلف من بعضهم إلى بعض، علمًا بأنهم لم يكونوا مجموعة موحدة.

المناقشات السياسية والكلامية العديدة في المجتمعات الإسلامية تاريخيًّا تُشير إلى أن لحظات الإجماع بين المؤرخين المسلمين، لا يمكن أن تكون محضَ اختراعاتٍ كاذبة، ومن ثمَّ فواجبُنا كمؤرخين، على عكس اهتمامات المستشرقين، هو بناءُ حُكمنا على كل حالات الإجماع والاختلاف المتعلقة بالأدلة النصية المتنوعة.

وأُشير مرةً أخرى هنا إلى أن الموقفَ ضد الاختلافات بين المصادر أو الروايات التاريخية، ليس مسألةً تجريبية، وإنما هو موقف متحيز لأسباب واهية فلسفيًّا و تاريخيًّا.

المسافة التاريخية (historical distance): 

ليس غريبًا أن يدّعي متخصصٌ في دراسة المصادر من بداية الإسلام، أن هذه المصادر تكشف عن حالة وحقيقة مصنِّفيها أو كاتبها، أكثر مما تكشف عن “الحقائق” التاريخية؛ وذلك للادعاءين التاليين:

1. أن هذه المصادر كُتبت بعد عدة قرون من وقوع الأحداث التاريخية الواردة فيها.

2. وأن المصنفين كانوا غيرَ موضوعيّين؛ بحيث كانت لديهم أهداف اجتماعية وسياسية محددة.

ولكن كما بينت سابقًا في نقاشنا حولَ السرد الشفهي وعملية نقله شفهيةً وكتابةً، ينفي صحة الادعاء الأول. أما بالنسبة للادعاء الثاني، فكلُّ مصنِّف أو مؤلف أو محرر هو غير موضوعي، وهذا الشك ينطبق على جميع المصادر التاريخية (بما في ذلك الوثائق المتزامنة). وحتى إذا كان المصدر التاريخي غير موضوعي، فهذا لا يُبرر نفيَ قيمته التاريخية بتاتًا، فضلًا عن أن جميعَ المصادر التاريخية غيرُ موضوعية؛ لأن عوامل بشرية (وكلها غير موضوعية) تُنتج هذه المصادر وتفسّرها بأشكال مختلفة، كما أن من يتولى الحفاظ على أرشيف ومن يؤلف المصادر التوثيقية يتأثر بدوره بأيديولوجيات معينة، مقابل أولئك الذين يؤلفون وينقلون تلك المصادر الشفهية.

وبعبارة أخرى، فإن الموضوعية لا تنفي الموثوقية التاريخية للمصادر. وكما أسلفت فإن الاعتراض على المصادر التاريخية الإسلامية بحجة المسافة التاريخية، وأنها مسألة تجريبية، ليس إلا موقف أيديولوجيّ متحيز.

يقدم إذن مجال الدراسات الإسلامية الاستشراقية المواضيعَ الثلاثة (التأليف والنقل الشفهي، والاختلافات، والمسافة التاريخية) باعتبارها حواجزَ أمام استخدام المصادر الإسلامية لكتابة التاريخ الإسلامي، ولكن كما بينت أن هذه الدعاوى غير علمية من منظور فلسفة علم التاريخ؛ لكونها تفتقر إلى أي أساس فلسفي.

3- الأحاديث:

لننتقل الآن إلى الكلام عن الانتقادات الاستشراقية للمصادر الإسلامية في مجال الدراسات الفقهية، فنقول بادئَ بدءٍ: إن تحديد تاريخ الأحاديث هو أحدُ أهم المناهج المعاصرة وأكثرها شيوعًا. فقد أصبح هدفًا مهمًّا للعديد من دارسي الفقه الإسلامي في الغرب؛ لأنه يساعدهم على تحديد ما يسمونه النص الأصلي (Urtext)، بوصفه الأساسَ لاكتشاف أصلِ الشريعة الإسلامية.

فهذا وائل حلاق يناقش هذا المنهج قائلا: “[إن] العديدَ من العلماء المعاصرين البارزين الذين بحثوا في أصول الشريعة الإسلامية من جانب علم تطوّر الحديث، قد ضلوا الطريق”. حلاق يردّ هنا على أولئك الذين يطبقون إحدى نماذج انتقاد المصادر؛ وتحديدًا الانتقاد النصي الذي بلغ استعمالُه الآفاق كمنهج في انتقاد المصادر، وهو يركز على الكشف عن النص الأصلي وعن الكاتب (أو المؤلف).

ويبدو لي أنه من البديهي أن عدمَ تطوُّر الدراسات الإسلامية في الغرب من الناحية الفلسفية والفكرية، مردّه هو هيمنة الأساليب الإشكالية في انتقاد النصوص؛ لأن انشغال بعض المستشرقين بالبحث عن “النص الأصلي” للتاريخ الإسلامي، هو بحث عن مهمة مستحيلة لا طائل تحتها.

ومما يزيد التباين حدة في هذه الإشكالية هو أن علماء الأدب وعلم فهرسة الكتب، أعادوا النظر في أهمية ما يطلق عليه “طبعة محققة” (critical edition) في حقل تحقيق النصوص؛ اقتناعًا منهم أنها تخترع النص الأصلي بدلًا من إعادة اكتشافه.

وبذلك تكون القواعد المنهجية الصارمة التي يستعملها دارسو الحديث في الغرب، لا ترمي كما تدعي إلى اكتشاف أو إعادة تشكيل الأحاديث الأصلية، بقدر ما تعمل على اختراع بنية جديدة يطلق عليها: نص أصليّ.

قد دافع مستشرقون آخرون عن منهجية مقنعة في تحليل الإسناد والمتن، من بينهم هارولد موتسكي (Harold Motzki)، الذي تناولَ إشكالية عدم الوثوق بالمصادر الإسلامية من بداية الإسلام؛ لأنها “ظهرت في أزمنة لاحقة” على الأحداث التاريخية التي تتحدث عنها، ولكونها “مبنيّة على مصادر سابقة شفهية أو مكتوبة” بحسب قوله.

وبهذا يطرح موتسكي منهجًا لتحديد تاريخ الأحاديث مقاربًا لاهتمام المستشرقين، في تحديد تاريخ ولادة الفقه الإسلامية، وتتطلب منهجيته تحليلَ المتن والإسناد والمعلومات الشخصية لناقل الحديث من أجل اكتشاف المخْتَلِق الأصلي للحديث. وهكذا يحدد المستشرق تاريخَ الأحاديث حسب تاريخ مختَلِقها الأصلي، بدلًا من تاريخ الحدث أو صدور الحديث.

وبعبارة أخرى: إذا نَقل الحديثُ واقعةً تاريخيةً حدثت أثناء حياة الرسول فسيؤرَّخ هذا الحديث بحسب زمن الراوي، الذي ربما عاش بعد وفاة النبي، وأحيانًا يتمُّ تحديد الراوي على أنه هو مؤلف/مختلق الحديث (author/originator)، مما يعكس اهتمامًا حداثيًّا بتحديد صلاحية المتن عن طريق شخصية المخْتَلِق/المؤلف نفسه، أي أن هذا المنهج لتحديد التاريخ يعمل على تشكيل المؤلّف من خلال تحديد الناقل الأول المتفق عليه.

بالإضافة إلى مسألة تحديد المخْتَلِق/المؤلف، تقوم هذه المناهج الحديثة بترتيب المصادر بطريقة خطية، حتى بات سائدًا أن نجد في دراسات الأحاديث المعاصرة رسمَ مخططات مرئية للأسانيد تدّعي الوقوفَ على طرائق تَغَيُّر الحديث من ناقل إلى آخر، بالاستناد إلى فكرة أساسية مفادها أنَّ ثمة نصًّا أصليًّا خضع للتغَيُّر المستمر.

وتنبني هذه المنهجية على فكرة الإطار التسلسلي الهرمي الذي يبحث عن “الأصل أو الحقيقة”الواحدة، وهي طريقةُ تعكس كيفيات فرض مناهج غربية لانتقاد النص على حقل دراسات الأحاديث النبوية. ثم إن الاختلافات في الأحاديث التي هي روايات تاريخية تختلف تمامًا عن الاختلافات الموجودة في المخطوطات.

وخالص القول: إن منهجية انتقاد النصوص منهجية معدة لانتقاد المخطوطات، فلا يمكن تطبيقها بذاتها على الأحاديث. والقول عندي أن الوثائق ومصادر التاريخ السردية هي نصوصٌ لا يسوغ تقييد معرفتها بأبعادها التقنية فقط، مثل العمر والكاتب والإسناد، بل يجب أيضًا النظر في أبعادها الموضوعية، فعندما تستحيل المصادر الإسلامية بين يدي الباحثين إلى صيغ تجريبية شتى بدعوى ردها إلى تاريخها، فذلك لأنهم يقومون بمحو جوانبها التاريخية والأدبية والشفهية.

ويجب التنبيه هنا إلى أننا لا نستنكر مشروعَ الانتقاد النصي بأكمله، كما لا ننفي أهميةَ ما قام به الباحثون في صياغة عروض أو رسم مخططات مرئية للأحاديث، ولكننا نُشير فقط إلى أن البحث عن النص الأصلي أو الكاتب الأصلي مرتبطٌ بشكل أساسي بالبحث عن الإسلام الأصلي الحقيقي، وهذا بحث أيديولوجي محض لا يمتُّ بصلة إلى ميدان التاريخ أو الثقافة.

تختلف وسائل الانتقاد التاريخي المستخدمة من قبل العلماء المسلمين في العصور الوسطى بشكلٍ واضح عن وسائل باحثي العصر الحديث، كما أن هناك أدلةً كثيرة على أن علماء العصور الوسطى قد استخدموا عدة وسائل لتقييم صحة وأصالة الأحاديث المروية؛ فقد بذل علماء العصور الوسطى مجهودًا عظيمًا لتحليل المتون إضافةً إلى الأسانيد، كما بيَّن ذلك معتز الخطيب في كتابه “رد الحديث”.

إذًا موتسكي لم يبتكر تلك المنهجية في تحليل الترابط بين الإسناد والمتن، وقد قام العلماءُ المسلمون أيضًا بجمع وتحليل متون وأسانيد الأحاديث وأنشأوا أرشيفًا ضخمًا للأحاديث.

ربما اختلف علماء العصور الوسطى عن باحثي العصر الحديث في طريقة الاستدلال وجمع الأحاديث، ولكن العلماء المسلمين والمستشرقين متحيزون، ولم يكن عملهم لا تامًّا ولا خاليًا من النواقص، مع التفاوت بينهم في الكفاءة والفعالية.

فعندما يرفض المستشرقون علمَ الحديث الإسلامي التقليدي، فإنما يفككون الأرشيف الشفهي والمكتوب الذي وضعه علماء أواخر العصور القديمة والعصور الوسطى، ثم يقوم بعدها المستشرقون بإنشاء أرشيف جديد و“حديث”؛ بناءً على منهجيتهم التي تنظر إلى المصادر التاريخية الإسلامية (وخاصة الأحاديث النبوية)، على أنها مصادر فولكلورية ومجرد أساطير وليست تاريخًا واقعيًّا.

ومن جانب آخر فإن أرشيف المستشرقين يقوم بعملية إخضاع ثقافي (subalternization) لمصادر المسلمين التقليدية لمنهجيتهم المتحيزة ثقافيًّا، أي أنه يقوم بإخضاع (subalternization) مزدوج، يتجلى أولًا في إخضاع راوي الحديث مسبقًا إلى تحليل الانتقاد النصي التسلسلي من أجل تحديث وتحويل شهادته التاريخية، ثم في تجاهل المؤرخ المسلم من العصور الوسطى من خلال تطبيق مناهج انتقاد المصادر.

وهكذا يتضح من نظرية الإخضاع (subaltern theory) أن استخدامَ مناهج انتقاد المصادر في الدراسات الإسلامية، لا يساهم في تدوين التاريخ، بل في التسلُّط على المصادر التاريخية الإسلامية واستعمارها.

وفي النهاية: هذا المقال هو عرض موجز للانتقادات التقليدية الاستشراقية لثلاثة أنواع من المصادر التاريخية الإسلامية؛ الوثائق، والنصوص السردية، والأحاديث. أوضحت فيه أن وَصْف المستشرقين لهذه المصادر متحيزٌ من منظور فلسفة علم التاريخ أولًا، وباطلٌ من منظور النظرية النقدية ثانيًا.

وباختصار، فإن المناقشات المنهجية حول المصادر الإسلامية لا تخرج من ظل الأيديولوجيا، فالدراسات الإسلامية الاستشراقية متورطةٌ بالضرورة في سياسة الإخضاع والإسكات والهيمنة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  يوجز هذا المقال بعضَ أفكار الفصل الأول من كتابي “بدايات الفقه الإسلامي”.

(المصدر: مركز نهوض للدراسات والنشر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى