كتاباتكتابات مختارة

الطريق إلى بناء طليعة إسلامية قائدة

الطريق إلى بناء طليعة إسلامية قائدة

بقلم عزة مختار

في المقال السابق استعرضنا تطور الفكر الحركي الإسلامي من الفكر المجرد في بداية الصحوة الإسلامية وفي فترة الاضمحلال الحضاري ونهاية حكم الدولة العثمانية، ثم نشأة الفكر الحركي على يد الشهيد حسن البنا وأستاذه محمد رشيد رضا، ثم الوقوع في فخ الفصام بين الفكر والحركة، لتصير “المؤسسة” هدفاً في حد ذاتها، ووضعنا بعض الخطوط العريضة لإعادة اللحمة بين الفكرة والحركة لتصيرا كياناً واعياً يتحرك بالمجتمع إلى أن يتحمل مسؤوليته كاملة في عملية التغيير الحضاري المرتقب، الذي يضمن اعتدال ميزان الأرض استناداً لفكرة سماوية قابلة للتطبيق على الأرض.

والمتأمل للوضع العالمي اليوم يدرك بشكل كبير أن العالم يسير لحتفه إن لم تتداركه إرادة الله عز وجل بالإنقاذ وإحياء الأمة الوحيدة القادرة على إدارة المشهد، وإنقاذ الإنسان من أطماعه العلمية التي قسَّمت العالم على أساس عنصري بحت، فصار العالم الأول يتمثل في عدة دول تدير بقيته وتطوّعها حسب مصالحها الشخصية، ولو كانت النتيجة أن يدفع الملايين ثمناً من حرياتهم وسعادتهم واستقرارهم، بل وحيواتهم في معظم الأحيان!

لقد بلغ الجنون بالإنسان أن يظن أنه مالك الأرض، وأنه قادر عليها، وأن بإمكانه اختيار من يبقى ومن يرحل، من يعيش ومن يموت، من الحر ومن العبد، ولقد آن الأوان أن تعتدل تلك الحضارات الواهية فتسير على قدم أخرى إلى جانب قدم المادية البحتة والعلم المجرد والغنى الفاحش، قدم الإيمان والتوحيد والعدل والرحمة والإنسانية والمساواة، ولا شيء كالدين يمكنه أن يقوّم سلوك الإنسان المعوج، وليس لقانون سلطان عليه سوى قانون السماء الذي يعده بالثواب إن هو أحسن، وبالعقاب إن هو أساء، وليس برقابة مثل رقابة العقيدة رادع لتثنيه عن ظلم غيره من بني الإنسان أو الحيوان أو الجماد.

وفي الطريق إلى بناء تلك الأمة المتوازنة التي تسترد الريادة العالمية، يجب بناء طليعة ربانية متجددة، تحمل الإسلام وتفهمه وتقيمه وكأنه تنزل عليها اليوم ، الإسلام الذي تنزل بطرقات مكة، وليس الإسلام الذي فهمه البعض اليوم من الركون والانبطاح والمذلّة والصمت والتلوُّن، الإسلام الواضح الذي آخى بين أبي بكر وبلال، وساوى بين عمر ومولاه، الإسلام القوي العزيز الذي ارتضاه الله الرحيم الودود لعباده؛ لإصلاح الأرض وضمان بقائها وسعادتها، الطليعة المستنيرة التي تستطيع أن تطوّع الأسباب وتعتمد على المسبب، أن تفرق بين الغاية والوسيلة، أن تضع نصب عينيها الإنسان في المقام الأول وإنقاذه من هلاك محقق في الدنيا والآخرة إن هو حاد عن طريق الحق، وفي الطريق لتكوين تلك الطليعة يجب أن نسأل أنفسنا سؤالاً مُهماً:

ما القاعدة التي تنبني عليها تلك الطليعة التي سوف تقود الأمة، وما هو الركن الأول فيها، هل هو القيادة، أم الجندية؟

القيادة أولًا، أم الجندية أولاً؟

كل طريق لا بد له من خطوة أولى، والخطوة الأولى يصنعها إنسان يحمل فكرة، يؤمن بها، يعيش وفقها، يضحي من أجلها بماله ووقته ونفسه إن لزم الأمر، ذلك الإنسان إن ظلَّ قابعاً حول نفسه، متمركزاً حول فكرته في صومعة – فكرية كانت أو تعبدية – كان إنساناً متبتلاً، يسمى عابداً، أو عالماً، أو مفكراً، أو عبداً صالحاً، أما إن تحرك بها بين الناس، يقنع هذا، ويسمع هذا، ويعرض عنه هذا، ويتبعه هذا، ويؤذيه هذا، فهذا هو الإنسان يسمى القائد الذي يستطيع أن يحول الفكرة من كلمات وحروف، إلى كائنات تسير على الأرض، يخرج بها من الصومعة، لتكون سلوكاً يتعامل به الناس، يخرج بها من رفوف المكتبات وطيات الكتب لتكون منهاجاً عملياً قابلاً للتنفيذ، وبقدر مرونة الفكرة ورقيها وسموّها وعمقها وأصالتها وأهميتها وتأثيرها في حياة عدد أكبر من الناس، كلما اكتسبت أهمية مجتمعية تجبر الأتباع على اعتناقها، والدعوة إليها والتحلّق حولها .

والقائد الرباني، هو ذلك الإنسان الذي أخذ على عاتقه مَهمّة إقناع الناس بالفكرة الإيمانية بعدما آمن هو بها، وعمل بمقتضاها، ووعى كيف هي الحياة بدونها، لا ينام حتى يطمئن على فهم أتباعه ومريديه، ولا يهدأ حتى تتسع رقعة المعرفة بفكرته كل يوم، ولا يستريح حتى يطمئن لمدى استجابة الآخرين لفكرته ولو بالرفض أو إعلان الحرب، فالنبي – صلوات الله وتسليمه عليه – قائد الأمة باعتباره الرسول المختار من قبل الله عز وجل بعدما أهّله وأعده لحمل فكرة الإسلام الشامل المعالج الوحيد لمشاكل البشر والضامن الأوحد لسعادتهم في الدارين، وكل مصلح أو مجدد أو مفكر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل نفس الفكرة ويتحرك بها نفس الحركة، ويدعو لها بنفس المنهجية هو قائد رباني على منهاج النبوة.

كل مصلح أو مجدد أو مفكر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل نفس الفكرة ويتحرك بها نفس الحركة، ويدعو لها بنفس المنهجية هو قائد رباني على منهاج النبوة

ومن هنا يتضح أن القائد هو النواة الأولى لأي عمل إصلاحي، أو عملية تغيير مجتمعي ، فليس من المنطق مثلاً أن تخرج مجموعة من الناس في لحظة واحدة، وتتفق على فكرة واحدة بنفس الآلية، ثم تقرر التحرك بها كل وفق هواه أو وفق ما يفهم من النصوص، فتلك تسمى قاعدة، يكوّنها القائد، أو يحركها، أو يؤلف بينها، أو يخطط بنفسه أو بمشاورته، وتسير وفق ما اتفقوا عليه لتكون حركة قوية في المجتمع، فالقائد هو الأساس الذي تنبني عليه أية قاعدة صلبة تحمل الفكرة معه في حركة منظمة وموجهة.

صفات القائد الرباني

ومن مهام القائد الرباني أن يحافظ على وحدة قاعدته أو صفه، ويتعهدهم بالرعاية، الرعاية التربوية التي تضمن إيمانهم الكامل بالهدف المنشود، وولاءهم المطلق للفكرة المعلنة، وطاعتهم الواعية له، ويستحث فيهم المشاركة الإيجابية، ويتيح لهم فرصة الإبداع في الوسائل المشروعة، ولا يسفه لأحدهم رأياً بل يصرفه بالحسنى إن هو أخطأ ويثيبه إن هو أحسن، يدير المشهد بالشورى نصب عينه قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى: 38]، ويتصدر طالما ظل قادراً على تطوير ذاته، والوصول به وبفكرته إلى طريق الرشاد.

من مهام القائد الرباني أن يحافظ على وحدة قاعدته أو صفه، ويتعهدهم بالرعاية، الرعاية التربوية التي تضمن إيمانهم الكامل بالهدف المنشود، وولاءهم المطلق للفكرة المعلنة، وطاعتهم الواعية له، ويستحث فيهم المشاركة الإيجابية، ويتيح لهم فرصة الإبداع في الوسائل المشروعة

وعلى القائد الرباني أن يفرق بين المحن التي هي من طبيعة طريق الحق الذي هو في صراع دائم مع الباطل إلى قيام الساعة، وبين عقاب الطريق حين يقع في الخطأ، الإنسان لديه هو الهدف الأول، وليس المؤسسة أو التنظيم أو الانتصار للذات، عادل بين أفراد صفه، عالي الهمة لا يفتر، ولا يكسل، ولا يهدأ، ثم هو صبور في مواجهة كل ما يلاقيه في سبيل الله، صبور على أذى الناس، صبور على جني ثمار دعوته والتي يمكن أن يحيا ويموت ولا يجنيها هو، بل أجيال قد تأتي من بعده، صبور على إخوانه يتحمل نقدهم ويدرسه ويستفيد منه، صبور على ضعيفهم وغليظهم يستوعبه بالحب والتودد.

إن القيادة في أية حركة تغيير إن صلحت وتحلّت بتلك الصفات نجحت دعوتها، وبقدر إيمانها وقدرتها على إدارة المشاهد المتعاقبة ومشقة الطريق بمرونة وحكمة لا تخل بثوابت الطريق، بقدر إقبال الناس على دعوتها، وانخراطهم بها، ثم في النهاية إن فشل القائد فعليه أن يتدارك الطريق؛ لأنه بشر إن اجتهد وأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، شرط أن يصيب ويخطئ، وشرط أنه حين يخطئ يسمع لغيره ويتوب.

إن طريق الله ليس مفروشا بالورود، طريق شاق محفوف بالمخاطر والتضحيات، لكن ليس معنى ذلك أنه مقرون بالفشل، وأن الهزيمة المنكرة على طول الطريق ملازمة له، بل على العكس تماماً، إن مشقة الطريق تعني كثرة العمل، والتضحية في سبيل الفكرة، فمن بذل الأسباب كاملةً متوكلاً على الله كانت النتيجة هي الانتصار المحقق، فالنصر هو مآل المؤمنين، والتمكين هو وعد الله حين نبذل كل ما يجب أن نبذله.

إن طريق الله ليس مفروشا بالورود، طريق شاق محفوف بالمخاطر والتضحيات، لكن ليس معنى ذلك أنه مقرون بالفشل، وأن الهزيمة المنكرة على طول الطريق ملازمة له، بل على العكس تماماً، إن مشقة الطريق تعني كثرة العمل، والتضحية في سبيل الفكرة

وليتهم القائد نفسه إذا خانته النتائج، فعليه أن يراجع نفسه ومنهجه مرات ويستشير إخوانه، أما إن هو عجز عن الاستمرار فعليه بمقتضى إخلاصه أن يتنحى ويتيح لغيره استكمال الطريق بصورة أخرى يجدد دماءه، ويحيي فكرته، وإلا فهو خائن لله ورسوله وخارج من مقتضى القيادة الواجبة الطاعة.

تلك كانت الحلقة الأولى في سلسلة الطريق إلى حركة إسلامية واعية متزنة، بدأتها بالقائد؛ لأهميته في عملية البناء الحضاري، ثم لنا حلقات أخرى مع الجندية البناءة، حفظ الله أمتنا، وهيَّأ لها من أمرها قائداً ربانياً يسمع كلام الله ويسمعنا.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى