علماء من عصرنا

مذكرات الشيخ رفاعي طه (3): أول اصطدام بالنظام.. وأول صدمة فكرية.. وأول تفكير في إقامة دولة إسلامية

مذكرات الشيخ رفاعي طه (3): أول اصطدام بالنظام.. وأول صدمة فكرية.. وأول تفكير في إقامة دولة إسلامية

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

أنهيت المرحلة الابتدائية وكنت الأول على مستوى الصف السادس الابتدائي بالمدرسة، والعشرين على مستوى المحافظة، كانت درجاتي تجعلني في المركز العاشر ولكن المتكرر من المتفوقين أنزلني إلى المرز العشرين، وكانت عادتهم في ذلك الوقت أن يأخذوا المتفوقين إلى “تنظيم البراعم” الملحق بالطلائع، وكانت الطلائع ملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، فدخلت تنظيم البراعم في الصف الأول الإعدادي وبقيت فيه فترة، فلما انتهت المرحلة الإعدادية دخلت الطلائع وبقيت بها حتى الصف الثالث الثانوي، ثم دخلت منظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وكنت مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو في المنظمة، وعندما دخلت الجامعة انضممت إلى الحزب الشيوعي لامصري لفترة، وبقيت فيه طوال فترة السنة الأولى في كلية التجارة، ولمست ظاهرة الفساد الأخلاقي إذ كنت متدينا بطبيعتي، وكنت قد التحقت بطريقة صوفية بعد أن أنهيت المرحلة الإعدادية.

أذكر حين كنت في الصف الثالث الإعدادي كان معنا زميل اسمه محمود حسن عبد الرسول، كان في عائلته على ما يبدو أحدٌ ممن يفهم السياسة أو أكثر، أو كان متدينا، المهم أن محمود حسن كان يقول لي:
– لا بد أن نغيِّر جمال عبد الناصر، هل تعلم كيف أمسك جمال عبد الناصر بالحكم؟
– كان ضابطا بالجيش وقام بثورة ثم حكم البلد
– يمكننا أن نفعل مثله
– ولماذا نفعل؟ هو رجل جيد
– لا، ليس هو كذلك
– لماذا؟ في الطلائع يعلموننا أنه رجل جيد. وأذكر له بعض الخطب
– لا ليس كذلك.

كان من الواضح أنه متشبع برأي، إلا أنه لا يستطيع التدليل عليه. ولم يكن هو من الإخوان، لكني أتذكر أن أخاه الأكبر كان يملك متجرا للقماش “ماني فاتورة”، وكنت إذا ذهبت أجد عنده أصحاب كثيرون يجلسون ولا يشترون، وكان بيتهم في القرية كبيرا ويغلب عليهم التدين، ولعلهم من الإخوان القدامى، والله أعلم. إذ لم تطل صحبتنا، فقد افترقنا في الصف الثالث الثانوي.

مما أذكره من تلك الأيام أننا انتقلنا من مدرستنا إلى مدرسة أخرى أفضل أنشأها مصنع السكر، كانت مدرسة نموذجية نظيفة وبها فناء واسع على النمط الحديث وبها حديقة وبالحديقة صوبة لزراعة الورد، وجاءت مُدَرِّسة تدرس لنا مادة “التربية الزراعية”، وكانت ملابسها قصيرة جدا “الميني جيب والميكرو جيب” كما هي عادة أهل المدن في تلك الفترة، وأغلب الظن أنها من الوجه البحري وإنما جاءت في سياق المساكن التابعة لمصنع السكر، وهذه المساكن كانت كبيرة كأنها مدينة سكنية وكنا نسميها “المستعمرة”، وكانت كأنها قطعة من خارج البلد. وذات يوم كانت تعلمنا زراعة الورد، فكانت تميل إلى الأسفل فانكشفت ملابسها الداخلية، فصرخت فيها:
– هذا عيب جدا، لا ينبغي أن تنكشف ملابسك الداخلية
ففزعت واعتدلت وقالت لي:
– ايه يا رفاعي حد يقول للمُدَرِّسة كده؟.. كسفتني (أحرجتني) أمام التلاميذ يا رفاعي!
– هذا لا يصح، هذا عيب جدا.
– هل إذا أتيت إلى المدرسة بملابس طويلة تضحكون عليَّ (تهزؤون وتسخرون مني)؟”
– ولماذا نضحك عليكِ، إن ملابس أمي تصل إلى الأرض.

ثم فيما بعد أخبرت ناظرة المدرسة، ونصحتها الناظرة أن ترتدي ملابس طويلة، ثم جاءت الناظرة فحدثتني وقالت “عيب أن تقول هذا للمدرسة”، لكنه حديث تقدير أكثر من حديث لوم وعتاب. وهذه الناظرة كان زوجها مأمور مركز ادفو، وكان برتبة عقيد واسمه عبد المنعم حمودة، وكان لها بنت اسمها عزة، وكانت تمازحني أحيانا وتقول: سأزوجك من عزة!

وكان في المدرسة مدرس للغة الإنجليزية يدعى محمود عبد الرحمن، وهذا الأستاذ من أسباب تأخر اللغة الإنجليزية في المدرسة، فلقد كان يكتب الإنجليزي بالحروف العربية، فمثلا كلمة book يكتبها “بوك”، ولم أدرك فداحة هذه الطريقة إلا بعد أن كبرت. وكان هذا الأستاذ حريصا على أن يعطيني درسا خصوصيا، وكنت أقول له: إنني متميز ولا أحتاج إلى درس خاص وأنا الأول على المدرسة دائما. فنشأت بيني وبينه ما يشبه العداوة، حتى أنه جاءنا ذات يوم فأخبرنا أنه سيمتحننا غدا في حفظ قصة باللغة الإنجليزية تقع في صفحتين ونصف، وحاول الطلاب أن يعترضوا بضيق الوقت، لكنه أصرَّ، وشعرت أنه فخٌ مُعَدٌّ للانتقام مني، وتجنبا لما قد يحدث فقد بذلت جهدي فحفظتها عن ظهر قلب، لكن جاء الغد فلم يمتحنَّا ثم الذي بعده ثم الذي بعده، وكنت أطالبه بأن يختبرنا في القصة فيتجاهلني أو ينهرني بقوله “هذا ليس من شأنك”، فلما جاء اليوم الرابع، فاجأنا بالامتحان، وسأل بقية الطُّلاب قبلي وكانوا قد نسوا ما حفظوه منها، فمن لم يستطع تسميع القصة أبقاه واقفا بانتظار العقاب، حتى إذا وصل إليَّ سمَّعتُها له دون أي خطأ، فقال مغتاظا “يخرب بيت أبوك”، ولم يعاقب أحدا من الطُّلاب، ولو أني أخطأت لكان قد عاقبنا جميعا فلا يظهر أنه عاقبني منفردا.

لم أكن أستفيد من حصة هذا الأستاذ، وكان بالمدرسة أستاذة أخرى نصرانية اسمها “نادية” وكانت جيدة، فكنت أنتهز الفرص فأذهب إليها في وقت الراحة لتدرسني، وكانت تشعر أنني مجتهد، فضبطني هذا الأستاذ يوما معها وهي تشرح لي الدرس الذي كان يشرحه، فوبخني وضربني بالعصا، لكنني أمسكت بالعصا وصحت في وجهه: لن تضربني مرة أخرى، فظهر أننا نتشاجر، ولما شتمني بأبي شتمته بأبيه، ثم حضر أستاذ آخر فأخبره أني مريض بالربو، وحضرت الأستاذة فوزية ناظرة المدرسة فلامته وهدأتني فقد بدأت أزمة الربو في الظهور.

حضرتُ مرتين حفلات أوائل الطلاب على مستوى المحافظة، ومما أذكره أيضا أني حين كنت في الصف الثالث الإعدادي تلك المسابقة التي خسرناها من مسابقات المدارس، وكانت مسابقات المدارس تجري بانتخاب مجموعة من الطلاب يمثلون مدرستهم ثم تُطرح عليهم الأسئلة، فيتميز بعضهم على بعض، وقد نجحنا أن نحصل على المركز الأول على مستوى أسوان، ثم كان ينبغي أن ننافس على مستوى الجمهورية، لكنني أخطأت في الإجابة عن سؤال “27 رجب” فسارعت بالقول: “ليلة القدر”، اختلط على الأمر بين 27 رجب و27 رمضان، ثم سرعان ما استدركت قائلا: الإسراء والمعراج، لكن الممتحن كان قد سجَّل الإجابة الأولى، وبهذا خسرنا وتفوقت المدرسة المنافسة علينا، خصوصا وقد فازوا علينا في مسابقة الغناء.

وفاة عبد الناصر

أتذكر جيدا يوم وفاة جمال عبد الناصر، كان الحزن يخيم على مركز ادفو كله، حتى إن امرأة ألقت بنفسها من الطابق الثالث حين سمعت خبر موته، وخرجنا جميعا من المدارس نبكي بكاء هيستيريا، وكنت أبكي بحرقة!

لقد كان دخولي منظمة الطلائع من أسباب تعلقي الشديد بعبد الناصر، كنت أحفظ خطبه عن ظهر قلب، إذ كنتُ حينئذ قويّ الحفظ سريعه، فلذلك بكيته بكاء شديدا ومُرًّا. وكان الناس يحملون نعشا فارغا يجوبون به الشوارع، كأنهم بجنازتهم الرمزية هذه يشاطرون الجنازة الحقيقية في مصر.

مرَّ يوم ثم الثاني في حالة الحزن هذه ثم قدر الله لي أن أتحول تحولا شديدا، فعند انتهاء الجنازة في مركز ادفو، وكنت حينئذ في ادفو لكون مدرستي الثانوية هناك، صار الناس يعودون إلى بيوتهم، فشاء الله أن مرَّ بي أستاذ التربية الرياضية في المدرسة الإعدادية محمد الشاهد فرآني، وسألني:
– ما بك يا رفاعي لماذا تبكي؟
– هل هذا سؤال؟
– نعم، أسألك لماذا تبكي؟
– أبكي جمال عبد الناصر طبعا.
– لا، أنت لا تبكي جمال عبد الناصر.
– فسألت مندهشا: كيف؟! لماذا لا أبكي جمال؟
– من أين لك أن تعرف جمال عبد الناصر حتى تبكيه؟
– هل يوجد أحد لا يعرف جمال عبد الناصر؟
– إنما رأيتَ الناس تبكي فبكيت، فلا تعاند!
– فانتبهت لهذا المعنى لأول مرة وسألته: إذن ألست حزينا على جمال عبد الناصر؟
– لا لست حزينا
– كيف ذلك؟
– تعال معي وسأشرح لك: لماذا لست حزينا عليه.

مضيت مع الأستاذ محمد، وكان من حي السيدة زينب في القاهرة، فقال:
– أنت كنت معي مدة سنتين في المدرسة الاعدادية، وأنا أحبك، فأنت شاب متدين، ولهذا فإني أريد أن أُسِرَّ لك بأشياء لكن لا تخبر بها أحدا. لقد كنتُ ضابط احتياط في حرب اليمن، هل تعلم يا رفاعي أننا كنا نُحَزِّم المساجد بالديناميت ثم نفجِّرها فوق رؤوس الناس أثناء صلاة الجمعة؟! هؤلاء الذين نقتلهم ونفجرهم كانوا مسلمين، هكذا كانت تأتينا الأوامر العسكرية!
– ولماذا تطيعون هذه الأوامر التي تأمر بقتل الناس وهم يصلون الجمعة؟
– لقد أردنا أن نهزم ثورة اليمن، خرجنا من مصر وذهبنا للحرب لأجل هذا الغرض.
– وما ثورة اليمن؟

فحكى لي عن الثورة، وعن عبد الله السلال والانقلاب الذي تم على الإمام أحمد البدر وأن أحمد البدر كان ملكا صوفيا وشيعيا من الزيدية، وأن جمال عبد الناصر أراد الوقوف مع الضباط لتكون مثل “الثورة في مصر”. ثم قال:
“جمال عبد الناصر هذا مجرم، وليس زعيما كما يقال وكما تسمعون في المدارس، ولا يحب الدين. أنا من الإخوان يا رفاعي وأبي مات في السجن، مات في مذبحة طرة حيث اقتحموا على الناس الزنازين وقتلوهم”.

كان في غاية التأثر، مما أثَّر فيّ كثيرا، فسألته:
– معنى هذا أن جمال عبد الناصر سيء؟
– كلمة “سيئ” لا تكفي للتعبير عنه.
– فكيف يا أستاذ لا تخبرونا بالحقيقة كل هذه الفترة؟
– لا نستطيع أن نقول هذا، وإلا ألقينا في السجون، الآن يمكن أن نقول هذا لأنه مات، أما ما قبل ذلك فلا يمكن.

وهكذا حصلت المفارقة، اليوم الذي كنت أشد ما يكون حزنا على عبد الناصر هو اليوم الذي أمسيت أبغضه أشد ما يكون البغض، انقلب الحب بغضا بنفس الدرجة!
جزى الله هذا الأستاذ محمد الشاهد عني خير الجزاء، كان له عظيم الأثر في أن يتحول مساري كثيرا، لا أقول بأني شهدتُ تحولا جذريا إذ أنني بقيت بعد هذه الصدمة في منظمة الشباب الملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، وبقيت كذلك في الطريقة الصوفية التي كنت قد انتسبت إليها.. لقد تم تحولي الجذري بالتدريج!

لم أفكر أبدا فيما إن كان كلامه كذبا أو مبالغة، لقد سلَّمت بما قال، كنت أحبه كأستاذ وكانت علاقتي به طيبة، وكان كذلك يحبني ويحترمني ولم يكن يتعامل معي كتلميذ بل كشاب ناضج، وكنت استشعر دفء العلاقة بيننا، كما هي بيني وبين كثير من الأساتذة في المرحلة الإعدادية والثانوية، إذ كانوا يعاملونني كصديق، لذلك لم أفكر في أنه قد يكذب علي أو يخدعني، إلا أنني لكي أستوعب هذا الكلام اضطررت إلى سؤال أساتذة آخرين، ولم تكن أسئلة مباشرة إنما جاءت عفويا في سياق أحداث أخرى.

بعد هذه الجلسة مع الأستاذ محمد الشاهد ذهبت إلى بيتي ودخلت في بكاء شديد، شعرتُ أننا نُخدَع، وأنه من الضروري أن تتغير هذه الأحوال، وتذكرت ذلك الكلام القديم الذي كان بيني وبين زميل المقعد في المدرسة الإعدادية محمد عبد الرسول حين كان يقول: يجب أن نقيم دولة إسلامية، نفعل مثلما فعل جمال عبد الناصر، ندخل الكلية الحربية، وننفذ انقلابا عليه!

وقتها لم أعطِ هذا الكلام كثير اهتمام، لكن بعد الذي قاله الأستاذ محمد الشاهد صرت أهتم به وأتذكره، لا سيما وأنا في المرحلة الثانوية، أي أنه بالإمكان بعد سنتين أن أدخل الكلية الحربية ثم ننقلب على عبد الناصر ونقيم الدولة الإسلامية، وبطبيعة الحال لم يكن في ذهني شيء واضح عن طبيعة الدولة الإسلامية، إنما هي أشواق طالب متدين وإن لم يكن لديه علم شرعي.. مجرد طالب في الصف الأول الثانوي.

 

 

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى