تقارير وإضاءات

لقاء مع الشيخ الدكتور أحمد معاذ بن علوان حقي حفظه الله

لقاء مع الشيخ الدكتور أحمد معاذ بن علوان حقي حفظه الله

أجرى الحوار الشيخ محمد خير رمضان يوسف في شهر رجب 1442 هـ

هذا اللقاء أجريته مع شيخي الوقور البروفيسور (أحمد معاذ) سلمه الله، ووضعته في آخر كتابي (رسائلهم إليّ) يعني رسائل مشايخي من آل حقي، وقد سللته من الكتاب لنشره مستقلًّا لمناسبة تسلمه مشيخة التكية بعد وفاة ابن عمه الشيخ الجليل (كلال) رحمه الله تعالى، للتعريف بشيء من أحواله، ومسيرة حياته العلمية، ووجهات نظر له.

أما الكتاب نفسه فسأنشره قريبًا بإذن الله.

 الشيخ معاذ حقي

هو أخي وحِبِّي الشيخ أحمد معاذ ابن شيخي علوان حقي، حفظه الله ودام علاه، نشأ في حضن أب عالم تقيّ حريص على تربية أبنائه، وفي أسرة علم ونسب. فكان نعم الابن البارّ، حِلمه من حلم أبيه، وأدبه أدب الأسرة، وتواضعه من دوحة أخلاقه العالية، وابتسامته وحديثه الأخويّ وتودده لا تفارق مُجالسه، وكلٌّ يحسبه أخًا وصديقًا قديمًا له.

تآخينا وتحاببنا سنوات طويلة، وزيارات بعضنا لبعض ومجالسنا معًا لم تنقطع، مع رحلات وتنزهات وحج، ونقاشات علمية واجتماعات دعوية وأنشطة خيرية، وما اختلفنا قط، فكانت من أفضل الأيام وأهنئها في أعمارنا. وقد ساعدني كثيرًا في حياة الغربة، وساندني في عواصف مرت بي. وهو الذي عمل على قبولي طالب منحة في الدراسات العليا بجامعة الإمام في الرياض، وتابع أوراقي ومعاملتي حتى حضوري. وما رأيته ذكر هذا لأحد، هذا وغيره من أعمال الخير والبرّ! فهو من الذين يعملون بصمت، ولا يريدون من أحد جزاء ولا شكورًا. جزاه الله عني خير ما يجزي به عباده المؤمنين.

وقد حصل حفظه الله على الإجازة والماجستير والدكتوراه عام 1413 هـ في العقيدة والمذاهب المعاصرة من جامعة الإمام بالرياض، ودرَّس في جامعات الإمام وأم القرى والشارقة وأخيرًا الزهراء في غازي عينتاب بتركيا، وقام بأعمال عميد كلية الشريعة بالشارقة، وعمل هناك أستاذًا ربع قرن من الزمان، درَّس العقيدة والأخلاق والمذاهب المعاصرة وفقه السيرة ونظام الإسلام وحاضر العالم الإسلامي والدعوة والأديان…

وله (17) كتابًا مطبوعًا، ومقالاته ودراساته تزيد على (40) بحثًا. مع حلقات بحث، ومشاركة في مؤتمرات وندوات ودورات كثيرة، قدم فيها أوراقًا أو شارك في فعالياتها، مع عضوية في جمعيات علمية وهيئات تحرير، وحكَّم عشرات الأبحاث لجامعات ومراكز علمية، كما أشرف على رسائل جامعية، وشارك في أنشطة إدارية جامعية عديدة، وحصل على جائزة التميز في جامعة الشارقة.

ومن عناوين مؤلفاته: الأربعون حديثًا في الأخلاق مع شرحها، أثر الإيمان في بناء الحضارة الإنسانية، منهج الراسخين في تدبر وحي رب العالمين، المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، الثقافة الإسلامية… وغيرها.

***     ***     ***

 

هذا اللقاء المبارك مع شيخي الحبيب أحمد معاذ جاء ليسدّ فراغًا عن أحوال له ولآل الشيخ لا يعرفها الناس، وخاصة ما يتصل بشأنه، فهو كثير الصمت عن هذا، وأرجو أن يكون هذا إضافة ثقافية وعلمية ودينية للخاص والعام. والله الموفق.

س: بارك الله في شيخنا (أحمد معاذ) وأسرته وآل حقي جميعًا.

لا يعرف محبوكم نشأتكم وحياتكم الطفولية، فهل لنا أن نعرف أين كانت، وكيف؟

 

ج: سيدي فضيلة الشيخ المفضال أشكركم على أن تفضلتم عليَّ بهذه المقابلة، وإن كنت والله يعلم لست أهلاً لذلك، ولكن نزولًا عند رغبتكم الكريمة كتبت هذه الإجابات عن أسئلتكم، لأن لكم في قلبي معزة خاصة.

ولدت في قرية حلوة التابعة لناحية القحطانية (قبور البيض، تربا سبي) سابقًا، محافظة الحسكة، ونشأت في هذا القرية مثلي مثل أترابي من الأطفال.

س: ونريد أن نعرف المراحل الدراسية الأولى لكم، أين كانت؟ وما أسماء تلك المدارس، وكيف كان مستواها وظروفها، وأبرز المعلمين فيها، وبعض ذكرياتكم فيها التي لاتنسونها.

 

ج: درست في المراحل الأولى من الابتدائية في مدرسة قرية حلوة، وللظروف المادية القاسية التي كانت تمر بها العائلة، اضطر سيدي الوالد رحمه الله للتعاقد مع المعاهد العلمية في المملكة العربية السعودية، درستُ الصف الرابع والخامس في مدينة بلجرشي، والسادس وأول متوسط في مدينة الباحة.

ثم رجع سيدي الوالد إلى سوريا، فدرست في المرحلة المتوسطة (ثاني وثالث) في مدرسة زكي الأرسوزي بالقامشلي، وأول ثانوي (العاشر) في مدرسة عربستان، ثم انتقلت إلى مدرسة العروبة فدرست الصف الثاني والثالث الثانوي (الحادي عشر والثاني) 1977م.

س: تغربتم مبكرًا لأجل الدراسة الجامعية والعليا.. متى كانت وكيف؟

 

ج: بعد حصولي على شهادة الثانوية سافرت إلى المملكة العربية السعودية، فالتحقت بعد سنة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية أصول الدين، وتخرجت سنة 1402هـ/ 1982م، ثم أكملت مرحة الماجستير تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة، وتخرجت 1407هــ/ 1987م، ثم قبلت في مرحلة الدكتوراه، ونلت شهادة الدكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة سنة 1412هـ.

س: أرجو أن تصفوا لنا أبرز ذكرياتكم في المرحلة الجامعية والعليا، من نوع الدراسة، ومستواها، وأبرز الأساتذة الذين استفدتم منهم، والذكريات والمواقف المفضلة فيها.

 

ج: المرحلة الجامعية كنت أسكن السكن الجامعي (يرموك ب) بالرياض، وكانت الجامعة لها أنشطة طلابية رائعة، فقد انتسبت إلى الكشافة، وكنا نذهب إلى رحلات خارج مدينة الرياض، ونقيم معسكرات كبيرة، وكانت تقام أنشطة علمية ورياضة كثيرة.

كما كنت عضوا في اللجنة الثقافية في الكلية، وكنا نصدر مجلة، وكنت أحتفظ بنسخ منها في مكتبتي الخاصة.

بالإضافة إلى الرحلات الطلابية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ونلتقي بالعلماء في المدينتين.

وكنا نشارك في المؤتمرات التي كانت تقام في الجامعة، والندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض، والتقينا من خلال هذه المؤتمرات العلمية بعلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي.

كما كان للمحاضرات العامة التي كانت تقيمها جامعة محمد بن سعود الإسلامية أثرها في تكون شخصية الطالب العلمية، ومن خلال هذه المحاضرات العامة تعرفنا على قامات علمية مرموقة في العالم الإسلامي، مثل الأستاذ الدكتور رشدي فكار، وكان عضوًا في مجمع الخالدين في فرنسا، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهما.

وبرفقتكم مولانا تعرفنا على أعلام في ندوة الرفاعي، مثل محمد أسد رحمه الله وغيره.

وكانت الجامعة تدرّسنا أمهات الكتب، وكانت تبيع الكتب للطلاب بأسعار رمزية، ولذلك تكونت مكتبي من أول يوم التحقت بالجامعة، وإن كانت لدي مكتبة صغيرة في سورية.

س: رسالتكم في الماجستير كانت في الفلسفة، وكان هذا شيئًا فريدًا وغير متوقع في كلية أصول الدين بجامعة الإمام في الرياض آنذاك.. كيف اخترتم هذا الموضوع، وكيف قبل؟

 

ج: عندما أنهيت السنة الدراسية بحثت عن موضوع للماجستير، ولم أوفَّق في تسجل موضوع بسب تشديد القسم، فاقترح عليَّ أستاذي الدكتور عبدالوهاب جعفر جزاه الله خيرًا بحثًا بعنوان (نظرية الواجب الأخلاقي عند كانط: دراسة ونقد)، وأظن القسم وافق عليه لأن فيه نقدًا للفلسفة الغربية، وكانت أول رسالة في نقد الفكر الغربي.

وأنتم فضيلة الشيخ أعلم الناس بما عانيت، لأنكم من ألصق الناس بي وأقربهم، وكنتم تشاركوني في مباحثه أولًا بأول، فقد كان موضوعًا صعبًا عليَّ، ولقد عانيت منه الأمرّين، وكانط مشهور بغموضه وصعوبة فهم فلسفته، ولفهم مقصده كنتُ أضطر أحيانًا أن أقرأ الكتاب عشر مرات حتى أفهمه، وكان نقد فلسفته الأخلاقية أصعب من ذلك، وأكثر من مرة حدثتني نفسي أن لا أكمل البحث، وبعد الاطلاع على كتب الإمام الغزالي، وكتب الدكتور محمد عبدالله دراز – رحمهما الله – تبين لي مواضع الضعف فيها، فيسَّر الله نقد فلسفته. وكان الأمر يحتاج إلى كثير من التأمل الفكري، وقراءة كتب مختلفة في الفلسفة وغيرها، والحمد لله الذي أعانني، فالفضل أولا وأخيرًا له سبحانه وتعالى.

س: رسالتكم في الدكتوراه كانت في تحقيق جزء من كتاب “بيان تلبيس الجهمية” لابن تيمية، كم بقيتم معها، وهل من صعوبات صادفتكم فيها، وهل استفدتم منها عمليًّا؟

 

ج: هذا الكتاب قد أسند لأستاذنا الدكتور محمد رشاد سالم – رحمه الله – لتحقيقه توفي رحمه الله وهو يجمع النسخ المخطوطة للكتاب، ورأت الجامعة أن تسند تحقيقه ودراسته إلى مجموعة من طلاب مرحلة الدكتوراه، واختُرت من بينهم، وكان ترتيبي الثالث من بينهم.

حقيقة لم أجد صعوبة في تحقيقه، وأنهيته في فترة زمنية قصيرة قبل زملائي؛ لكوني كنت متفرغًا، ولكن المشرف لم يقرأ لي لانشغاله، غفر الله لي وله.

أما الفائدة فقد استفدت منه كثيرًا، فشيخ الإسلام ابن تيمية علم من أعلام الأمة، لا ينكر فضله وعلمه إلا جاهل، ووجوه الاستفادة من هذا الكتاب كثيرة، ومنها فهم عبارات المناطقة وردودهم، وأساليبهم في النقد.

 

س: أطلتم البقاء في بلاد الحرمين حتى بعد التخرج، فأين تعينتم، وماذا درَّستم، وهل من ذكريات حول هذا؟

 

ج: قبل مناقشة أطروحة الدكتوراه اشتغلت بوظيفة أمين قسم العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين، وبعد حصولي على الدكتوراه، حاضرت فيها على نظام الساعات سنة.

وبعد ذلك تعاقدت مع جامعة أم القرى كلية التربية في الطائف، فدرَّستُ فيها أربع سنوات، ولعلها من أجمل أيام عمري، حيث كنت قريبًا من مكة المكرمة والمدينة المنورة. وكنت أذهب أسبوعيًّا إلى مكة لجلب ماء زمزم للشرب، وأذكر عندما كنت أطوف بالبيت أحدِّث نفسي بأن الله تعالى أكرمني حيث خصَّني من بين أكثر من مليار مسلم لأطوف ببيته الحرام، وكنت أشعر بالعجز عن شكره سبحانه، وفي رمضان كنت أصلي التراويح في الحرم وأرجع إلى الطائف.

 

س: انتقلتم إلى التدريس في كلية الشريعة بالشارقة، وترقيتم حتى تسلمتم عمادتها. نرجو أن تحدثونا عن أحوالكم وأنشطتكم هناك، وما تميزت به فترة تسلمكم العمادة وإنجازاتكم في ذلك.

 

ج: انتقلت إلى جامعة الشارقة عند تأسيسها 1997م، وقد أخبرني أستاذنا الدكتور مصطفى مسلم عن تأسيس جامعة الشارقة، وطلب مني أن أرسل له صورة الشهادات للتعاقد مع الجامعة، وأرسلت له فتم التعاقد.

وفي تلك الفترة كانت فترة تأسيس الجامعة، وكانت كلية الشريعة فيها أربعة أساتذة: الأستاذ الدكتور محمد عجاج الخطيب عميدًا (تخصص الحديث)، والأستاذ الدكتور مصطفى مسلم (تخصص التفسير)، والدكتور عبد الحق حميش (تخصص التفسير)، وأنا تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة، وفي السنة التالية تم التعاقد مع نخبة مميزة من الأساتذة.

وكانت الجامعة تطلب من الأساتذة أن يقدّموا في نهاية كل سنة تقريرًا عن كل ما قاموا به، وكان التقييم له أكبر الأثر في تجديد العقود، وكان البحث العلمي له درجات مرتفعة في التقييم، كما كانوا يطلبون منا أيضًا المشاركة في المؤتمرات، وإذا لم يرتق إلى الدرجة العلمية في وقت محدد يلغى عقد الدكتور، وكانت الترقية حقيقة مفازة تقطع فيها أعناق الإبل للشروط القاسية التي وضعتها الجامعة، ولذلك كان يتطلب من الدكتور أن يعمل ليل نهار، كما كان الاعتماد الأكاديمي للكلية يتطلب من أعضاء هيئة التدريس تقديم مزيد من الجهود، وكانت شروط التصنيف العالمي تتطلب من أعضاء هيئة التدريس بذل مزيد من جهود مضاعفة.

 

س: ونرجو أن يكون أكثر حظنا في هذا اللقاء من حديثكم عن الوالد الشيخ علوان رحمه الله: نشأتكم عنده، وتربيتكم على يديه، وأهم ما كان ينصحكم به، وما تذكرون من بعض أقواله وأفعاله ونشاطه الديني، ونهجه في الإصلاح والدعوة.

ج: لا شك أن الابن يحب والده خاصة إذا تمتع الوالد بصفات وأخلاق عالية، وكان من أهل العلم والتزكية سيزداد بلا شك حبًّا له، فقد كان رحمه الله أبًا حنونًا، رحيمًا، عطوفًا، ولم يكن هذا خلقه معنا فقط، بل مع الجميع، فكل شخص مهما علت مكانته أو صغرت يحسسه بأنه قريب منه، يكرم ضيوفه، يحب خدمة الناس حتى كان يقول: “من شدة فرحي بخدمة الناس أخشى أن لا أثاب عليها، وأن يكون حظي منها هذه السعادة التي أجدها في نفسي”.

يعامل الناس باللطف والحلم، فاكتسب ودّهم؛ ويكره الإطراء والمديح في وجهه، ويقول: ذو الوجهين لا يكون وجيهًا عند الله تعالى. وإذا ما مدحه أحدهم قال: “اللهمَّ اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون”.

وكان جمَّ التواضع في كل أحواله، حتى أضحى ذلك سجية له، يكثر من ترديد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» . ويقول في التصوف: “ينحصر التصوف في هذه الكلمات: أنصف الناس من نفسك ولا تتطلب منهم الإنصاف، وابدِ لهم شيأك، وكن من شيئهم آيساً”.

كان – رحمه الله – شديد الورع من جهة الحلال والحرام، كريماً سخياً يحب الإنفاق في سبيل الله، يكرم الناس ويهتم بهم، ناصحًا لإخوانه أمينًا لهم، كما يقال: ما في قلبه على فمه، يهتم بأمر المسلمين ويتابع أخبارهم، كثير الدعاء لهم، لا ينام حتى يسمع أخبار العالم الإسلامي من خلال المذياع، دخلت عليه ذات ليلة فوجدته حزينًا، وبادرني فعزاني بوفاة العالم الكبير أبو الأعلى المودودي رحمه الله.

روى لي أخي عبدالملك خلع الطبيب أحد أسنانه، خاطبه قال: اشهد لي يوم القيامة أني كنت أقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم طلب منه أن يدفنه.

كان دائمًا يذكر هادم اللذات، ويقول: متى جاء فأهلًا به. وكنتُ في خوف مستمر عليه، وذُكر لي أنه قبل وفاته بسنوات كثيرة أجريت له عملية، فكأن الأطباء أحسوا بخطورة العملية وأنه شارف على الموت، ففي هذه اللحظة كان يحرك أصبعه كأنه يدق شيئًا، وعندما قام من العملية سئل فقال: لم أكن مستعدًا للقاء الله تعالى، ولذلك كنت أطرق بابه وأقول في نفسي: من دق باب كريم فُتح.

وكان رحمه الله كتلة من الوفاء، فكل من خدم جدنا الشيخ إبراهيم حقي يوصلهم ويتودد إليهم، ويعطيهم، ويبر بأبنائهم.

 أذكر هذه الرؤيا ولا أنساها، أني رأيت في الرؤيا وأنا في مدينة الطائف أني سافرت مع رجل إلى المدينة المنورة وكان مشربه غير مشربي، وكأني استأذنت من خادم الحجرة النبوية في الدخول إلى الحجرة لأخبر صاحبي لنرجع إلى الطائف، قال لي: أتركه واذهب وحدك، وظهر من كلامه كأنه لا يحبه، قلت له: لا يليق ذلك بي، وهذا ليس من المروءة، فقال: ادخل، فدخلت الحجرة، ورأيت ثلاثة أشخاص نائمين تحت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقلت في نفسي: والله إنه لشرف عظيم أن ينام الرجل في غرفة فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أخشى من إساءة الأدب معه صلى الله عليه وسلم فربما يتحرك النائم ويعطي ظهره له صلى الله عليه وسلم وفيها إساءة الأدب معه، أما صاحبي الذي جاء معي فكان يدعو وظهره لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمته بصوت خافت قلت له: حان وقت الرجوع، فقام وأراد أن يقبل رأس سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه صلى الله عليه وسلم ما رغب أن يقبل رأسه، وكان نائمًا على شقه الأيمن، فرفع الغطاء وغطى رأسه، ثم مال على شقة الأيسر، فانكشفت قدماه صلى الله عليه وسلم الشريفتين، فقلت في نفسي هذا يكفيني، فقبلت قدمه الأيمن ووضعته على جبهتي، فرأيت أن قدم سيدي الوالد يشبه قدم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو موضع الشاهد، ففسرت الرؤية أن سيدي الوالد على قدم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هديه، فقد ضبط – رحمه الله – مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، فكان مصونًا من العقائد الذميمة، محمي الأساس من شُبه الغلاة، سالماً من كل ما يوجب اعتراض الشرع، وكان العهد الذي بينه وبين أحبابه: الطاعة تجمعنا والمعصية تفرقنا.

وقد وجدت وريقة بخطه تحت وسادته بعد وفاته كتب فيها: “اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة، وهب لنا تصحيح المعاملة فيما بيننا وبينك على السنة، وارزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك، وامنن علينا بكل ما يقربنا إليك، مقروناً بعوافي الدارين برحمتك يا أرحم الراحمين”.

س: نبأ وفاة والدكم رحمه الله كان عظيمًا علينا جميعًا، وكنتم في الغربة، فلم تشاركوا في تشييع جنازته. وأذكر أنكم ذهبتم إلى الحرم وتصدقتم عنه كثيرًا لفقراء الحرم، وكنت معكم، أرى كرمكم، وتأثركم وحبكم للوالد رحمه الله.. هل من فضائل عامة وخاصة له تسردونها علينا؟ وخاصة تأثره بالأحوال العصيبة في بلدنا.

ج: كان أعز شخص على قلبي رحمه الله، وبموته أحسست أني فقدت السند والعون، ومرت بي أيام عصيبة لا يعلمها إلا الله تعالى حتى كنت أظن أن الحزن سيلازمني، بل أحيانًا كنت ربما أضحك مع أصحابي وأحس بجرح في قلبي لا يندمل، هذه هي سنة الحياة، أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويرزقه مرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجمعنا به في مستقر رحمته تحت لواء سيد المرسلين.

س: أعمامكم، وأولادهم من آل حقي، ما نصيبكم من التآلف والتراحم معهم، ومن تذكرون منهم أكثر، مع مواقف لبعضهم، وأخبار وقصص.

كما تعلمون فضيلة الشيخ قضيت حياتي كلها في الغربة.

عمي الشيخ عدنان رحمه الله له تصانيف نافعه في الحديث والتصوف والعروض، وله كتاب في سيرة جدنا الشيخ إبراهيم حقي رحمه الله وبلغت كتبه تسعة كتب.

أما عمي الشيخ خاشع فله تصانيف في التصوف والعقيدة والرد على الشبهات، وله (تعدد الزوجات أم تعدد العشيقات)، وكتاب (أحكام الحج والعمرة وحكمهما في الفقه الإسلامي)، وبلغت كتبه ستة كتب، بالإضافة إلى عدد من المقالات العلمية والدينية والاجتماعية يزيد على أربعين مقالاً، نشر الكثير منها على صفحات المجلات والجرائد في أوقات مختلفة، وعلمت أن كتبًا له لم تطبع بعد، ومن ذلك تحقيق كتاب جدنا الشيخ علوان الحموي علي بن عطية رحمه الله، (الشرح المسبوك في نظم السلوك للجوهر المحبوك).

وممن كان معي في الغربة عمي الشيخ مصطفى رحمه الله، وعمي الدكتور محمد صفاء، وعمي الدكتور سهيل حفظهما الله.

عمي الشيخ مصطفى – رحمه الله – ألف في الرقائق كتبًا كثيرة كما لا يخفى على شريف علمكم.

وعمي الدكتور محمد صفاء أستاذ في التفسير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد طبع كتابه الذي حققه في علوم القرآن الكريم مع جماعة من زملائه.

والعم الدكتور سهيل له مصنفات قيمة وكثيرة عن الإرشيف العثماني، وطبع رسالة الماجستير والدكتوراه.

 

س: انتقلتم إلى تركيا، وحصلتم على جنسيتها، وتعرفتم على بيئة جديدة، وأساتذة جدد. هل لأسرتكم تاريخ في هذا البلد؟ وما هو نوع عملكم ونشاطكم فيه؟

 

ج: لكوني لا أتقن التركية كان ينبغي عليّ أن أسكن في مدينة أجد من يساعدني، ولذلك سكنت مدينة عنتاب، فقد كان يسكن فيها الأخ المهندس فواز، وهو شاب شهم، خدمني كثيرًا، ولا أنسى فضله، وبعد فترة بدأت بالتدريس في جامعة الزهراء على نظام الساعات، كما ألقي بعض المحاضرات في جامعات أخرى عبر الشبكة العنكبوتية.

أما تاريخ العائلة فما زال إخوتنا الكورد في منطقة جزرة وشرنخ وسعرد يذكرون العائلة، ويذكرون سيدي الجد والوالد والأعمام رحمهم الله تعالى، ولنا أبناء عمومة في جزيرة ابن عمر (قسرك)، وسعرد، وقرية باسرت تُعدُّ من مراكز التزكية والعلم قديمًا ولسنوات، ولكن مع الأسف الآن أصبحت خالية، بسبب ما مرت به المنطقة، وما آلت إليه الأمور في تلك الديار، وتوجد قرية أخرى للعائلة تسمى الخالدية، وقد دفن فيها سيدي الجد الشيخ حسين العلواني رحمه الله، وقد زرتها، وهي قرية جميلة تقع في سهل بين الجبال كلها مزارع، وهي جنة من جنان الله في أرضه.

س: التقيتم بأعلام وعلماء وأدباء وأساتذة ووجهاء، من بلدان ومناطق مختلفة، فمن أبرزهم، ومن من منهم تكنُّ له التقدير أكثر، ولماذا؟ وهل من مواقف لهم تذكّرونا بها للعبرة؟

 

ج: تعرفت خلال حياتي على علماء كبار ولهم قدم صدق، منهم من تعرفت عليهم في السعودية، ومنهم من أكرمني الله بملازمتهم في التدريس.

ومن بين من التقيت بهم في ندوة الرفاعي محمد أسد، ورئيس الوزراء السوري الأسبق معروف الدواليبي، وممن حضرت محاضراته العامة في الجامعة الشيخ محمد الغزالي رائد الدعوة في العصر الحديث، والشيخ محمد قطب حضرت محاضراته العامة في جامعتي الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة الملك سعود، وقلَّ له نظير في المذاهب المعاصرة ونقد الفكر الغربي، ورشدي فكار – رحمه الله – فيلسوف، وعضو مجلس الخالدين في فرنسا، لم ترَ عيني مثله، يُسهل الفلسفة وكأنه يسرد لك قصة، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة – رحمه الله – المحدث الكبير، وممن درسني أيضا الأستاذ الدكتور محمد صالح مصطفى رحمه الله وجزاه الله عني كل خير، وهو الذي سعى في تسجيلي في الجامعة، والشيخ محمد الراوي رحمه الله، والشيخ غزالي خليل عيد، وكان دائمًا يراجع حفظه للقرآن الكريم، والأستاذ الدكتور خليل ملاخاطر المحدِّث، نزيل المدينة المنورة. ومجموعة من خيار العلماء، والمقام لا يسع لذكرهم.

وممن أكرمني الله تعالى بالعمل معهم، الأستاذ الدكتور محمد عجاج الخطيب أستاذ الحديث، والأستاذ الدكتور مصطفى مسلم أستاذ التفسير وقد بارك الله في مؤلفاته، والأستاذ محمد الزحيلي، وهو متميز في علمه وطاعته وأخلاقه وتعامله، مع حرصه على أوقاته، وما زلت أتواصل معه، وله معزة خاصة في قلبي، وله مؤلفات نافعة، وقد وضع الله فيها البركة، والأستاذ الدكتور عثمان جمعة ضميرية -رحمه الله رحمة واسعة- وكان موسوعيًّا وصديقًا وفيًّا، والأستاذ الدكتور عيادة كبيسي – رحمه الله – أستاذ التفسير، من أهل العلم والصلاح، والأستاذ الدكتور ماجد أبو رخية – رحمه الله – الفقيه الأصولي، والأستاذ الدكتور هاشم جميل أستاذ الفقه، فهو آية في العلم والتقوى، وله أخبار عجيبة، والأستاذ الدكتور صالح رضا أستاذ الحديث، والأستاذ الدكتور محمود السرطاوي أستاذ الفقه، عالم جليل من فلسطين، والأستاذ الدكتور شويش هزاع المحاميد أستاذ الفقه من الأردن، عالم ويتحلى بأخلاق عالية، والدكتور سعيد القزقي – رحمه الله – من علماء فلسطين في الخليل، والأستاذ الدكتور أحمد البدوي – رحمه الله – من أهل القرآن من السودان، والأستاذ الدكتور أحمد شليبك من علماء ليبيا، والدكتور عمر صالح بنعمر رئيس قسم الفقه في جامعة الزيتونة، والأستاذ الدكتور عبدالمجيد السوسوة العالم الأصولي من اليمن، وجماعة من العلماء الأفذاذ.

س: ما نظرتكم إلى الأخوَّة والصداقة، وما هي الصفات التي تجذبكم إليها أكثر، وتودون لو أن الناس تحلَّوا بها؛ لفائدتها العلمية أو الاجتماعية؟

 

ج: أعتقد أن الصداقة الدنيوية ليست أخوة بل منفعة دنيوية، وإنما الأخوة المقصودة بها هي الحب في الله، وأعظم نعم الدنيا أن يرزق الله العبد إخوة يحبهم في الله تعالى، قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ما أعطي بعد الإسلام نعمة خيرًا من أخ صالح، فإذا وجد أحدكم ودًا من أخيه فليتمسك به”، لأن الحب في الله علاقة معقودة بحبل الله تعالى، فيذكّرون إخوانهم بالآخرة، كما قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: “إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يذكّرونا بالدنيا، وإخواننا يذكّروننا بالآخرة، ومن صفاتهم الإيثار”.

فكلما تواصلت معهم ازددت تعلقًا بالله، تفيء إليهم من هجير الدنيا، ويظلونك بظلال الإيمان، فهذه الأخوة فيها براءة الإخلاص، وسلامة القلب، وأحياناً نتساءل عن سر هذه المحبة الكبيرة لأخ لك! فتجد إجابته في هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}، ومن هنا أقول: من أفضل ما يكسبه المرء في حياته إخوة وأصدقاء عزيزين على القلب يحبهم في الله، وتكتشف يومًا بعد يوم أنهم كنوز تبقيهم في رصيد حياتك، فتأنس بهم، وتسأل الله صادقاً أن يسعدهم ويحفظهم، فالرصيد ليس فقط في المال تودعه في البنوك لوقت الحاجة، وإنما قلوب طاهرة تدعو لك في ظهر الغيب في حلِّك وترحالك، في حالة عوزك وحاجتك تجدهم عندك، وتستمر صداقتهم في الآخرة، حيث يظل الله تعالى المتحابين بجلاله تحت ظل عرشه، ويدخلون الجنة سوية، قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}. وهذا الحب أوثق عرى الإيمان، وفي الحديث: “أوثق عرى الإيمان الحب في الله”.

جعلني الله وإياكم فضيلة الشيخ المفضال محمد خير ممن يتحابون بجلال الله تعالى.

 

س: لكم نظرة فسيحة في الإصلاح التعليمي، منذ المرحلة الأولى، وحتى الجامعية وما بعدها، فما هي، وكيف يتخرج الطلبة علماء؟

ج: أظن لا بد من إصلاح التعليم، والإمام الغزالي رحمه الله ألف كتابه (إحياء علوم الدين) هو كتاب جدد فيه العلوم الإسلامية، ونحن بحاجة إلى التجديد وفق متطلبات العصر، وما يلزم الطالب من علوم حتى يفهم عصره، ويكون بمعزل عن الغزو الفكري، ونحتاج أن نحدد العلوم التي ينبغي لطالب العلم أن يتقنها وهو بحاجة إليها، ونحتاج إلى منهجية جديدة.

فمثلًا عند وضع برامج الكلية كنت ألاحظ حرص بعض الدكاترة أن يجعل تخصصه هو السائد في الكلية، والذي أراه أن تكون المواد التي تدرس وفق حاجة الطالب إليها في تكوين شخصيته العلمية، وحاجة المجتمع، فمثلًا بعض كليات الشريعة تركز فقط على الفقه والأصول، النتيجة أن الطالب يتخرج وليس لديه أدنى معرفة بالفرق الأخرى، ولذلك تجدهم ربما يراهم من أهل السنة، بل سمعت عن أحدهم يعتبر الفرق التي خرجت عن الإسلام حتى باعترافهم يجعلهم من المسلمين!

ولا بد من تجديد العلوم وفق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ يبعثُ لهذهِ الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يُجدِّدُ أمرَ دينِها”، فعلم العقيدة مثلًا ألف فيه السلف – رحمهم الله – للرد على المخالفين، ومن هنا ينبغي أن يكون التأليف في هذا العلم وفق متطلبات العصر، ولذلك نجد المؤلفات في هذا العلم تختلف من عصر إلى عصر من حيث المحتوى، وأسلوب ومنهجية العرض، فدراسة الكتب القديمة في هذه المرحلة لا تجدي نفعًا كثيرًا، نعم يدرسها الطالب في مرحلة الماجستير والدكتوراه، وبعض مباحث هذا العلم تطرق السلف إليها لحاجة عصرهم، وهذه الحاجة ليست موجودة الآن، فالموضوعات التي أظن أننا بحاجة إليها: مثل بيان نشأة الإلحاد، ومواجهته، لأنه انتقل من النخبة إلى الشعبوية. ولا بد من بيان فوائد أركان الإيمان، وبيان صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة الإسلام للعلم والعقل، والإعجاز العلمي، أما استحضار المعارك القديمة فهو هدر لطاقات الأمة.

 

س: تكية آل شيخ إبراهيم حقي لها تاريخها المشرّف في الدعوة والإرشاد، ما ظروف إنشائها، ومن تسلَّم مشيختها أولًا، وما مدى نشاطها، وما هي المناطق التي سادت فيها، وما المعوقات التي صادفتها، ومن يتولى مشيختها وإدارتها في يومنا (1442 هـ)؟

 

ج: تولى المشيخة بعد وفاة عمنا الشيخ خاشع حقي العلواني، الشيخ عبدالله حقي حفظه الله، ولديه بعض طلبة العلم في المسجد، ويشرف على الثانوية الشرعية في القامشلي، وهو بصدد إنشاء معهد علمي في القرية، وهو يسعى للحصول على الموافقة من وزارة الأوقاف السورية، أسأل الله أن يكلل جهوده بالنجاح والتوفيق.

س: ما أخبار مكتبتكم الخاصة؟ تاريخها، ووصفها، ومصيرها؟

هذه المكتبة تكونت منذ بداية المرحلة الجامعية، وأتألم لحالها، وقد كلفتني حتى الآن الكثير، وقد طلبت من أخي ياسر في الشارقة أن يهديها لإحدى المكتبات العامة، وقد تعهد أحد الإخوة بتوصيلها إلى سورية، فلو تحقق ذلك فهذا غاية أمنيتي، والحمد لله.

س: آثاركم العلمية، ونشاطكم العلمي والدعوي خارج الجامعات، لو تكرمتم. مع الشكر لكم.

 أما الكتب فهي قليلة، ولدي كتابان أسأل الله أن يسهل طباعتهما، “اللطائف المستنبطة من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}”، وكتاب “دراسة حديث الافتراق: دراسة تحليلية”.

والشكر كل الشكر لكم فضيلة الشيخ المفضال على ما تقدمونه من إنتاج علمي، وجعله في ميزان حسناتكم، وبارك في علمكم وصحتكم وحياتكم، وجعلكم من ملوك الدنيا والآخرة.

(المصدر: موقع الشيخ محمد خير رمضان يوسف)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى