تقارير وإضاءات

“إخوان من أطاع الله”.. تاريخ التلاعب السعودي برجال الدين

“إخوان من أطاع الله”.. تاريخ التلاعب السعودي برجال الدين

 

إعداد عز الدين عمر

 

“إن ورائي أربعمئة ألف مقاتل، إن بكيتُ بكوا، وإن فرحتُ فرحوا، وإن أمرتُ نزلوا على إرادتي وأمري، وإن نهيتُ انتهوا، وهؤلاء هم جنود التوحيد؛ إخوان من أطاع الله”

عبد العزيز آل سعود مفتخرا بحركة الإخوان

 

لا تبدو حالة الغدر التي لحقت بالصحفي المقرب من الأسرة السعودية الحاكمة جمال خاشقجي، ولا بالعلماء وكبار المشايخ الذين امتلأت بهم السجون السعودية، ولا تقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل والتفكير في إلغائها بالكلية فضلا عن إنشاء هيئة الترفيه في الدولة “المحافظة”، لا يبدو كل ذلك مجرد حالات انقلابية عابرة في السياسة السعودية، ففي زمن مؤسّس المملكة السعودية الحديثة عبد العزيز آل سعود نرى جذورا من الحكاية، وفصولا تشبه ما يقوم به ولي العهد وحفيد الملك عبد العزيز؛ الأمير محمد بن سلمان؛ كأنما يسير على حذو جده الملك المؤسس في الانقلاب والغدر!

فصول ارتبطت بالقتل تارة، والانقلاب على حركة دينية كان لإنشائها والاعتماد عليها أبرز الأثر في توحيد الجزيرة العربية لتكون لقمة سائغة للملك عبد العزيز، تلك هي حركة “إخوان من أطاع الله”، فما هذه الحركة أو بالأصح التنظيم الجهادي المسلح؟ ولماذا أنشأها عبد العزيز آل سعود؟ ثم لماذا انقلب عليها وحارب زعماءها وقتلهم بالإهمال والتعذيب في سجونه وعلى رأسهم من وصفه البريطانيون بملك العرب، وزعيم الإخوان والصحراء، وشيخ قبائل مُطير الأمير فيصل الدويش؟!

من البداوة إلى التنظيم

كان عبد العزيز ابن سعود في صدامه المتكرر مع آل الرشيد للسيطرة على نجد يعتمد على البدو الموالين له في هذا التوسع، لكنه كان يلحظ أن البدوي سرعان ما ينكص على عقبه، أو يهاجر في ترحاله فلا يعثر له على أثر عند الطلب، لذا استغل ابن سعود ظهور فكرة دينية كانت الحل الأمثل في التغلب على عاملي العصبية القبلية والترحال الذي لازم البدو، وهي فكرة “الإخوان”، أو “حركة إخوان من أطاع الله”، فقد كان مؤسسوها الأوائل قاضي الرياض عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، وقاضي الأحساء الشيخ عيسى وآخرون، ومن ورائهم ابن سعود.

فالإخوان من هذا الجانب كانوا انبثاقا من حركة “المطاوعة” وكبار مشايخ الوهابية، فهم بالمعنى العملي تنظيم ديني تحوّل إلى تنظيم عسكري مسلح، وكان تجنيدهم يتم من خلال قبائل الجزيرة العربية المؤمنين بالفكرة الدينية التي كان يغذيها فيهم ابن سعود، وفي البداية كانوا يستقبلون “المطاوعة” في مخيماتهم البدوية، ولكن بعض القبائل وافقت على التوطن في الهجر، وهي فكرة ابن سعود الأولى، وفي القرى التي انبثقت حول الآبار حيث كان العمل الزراعي ممكنا، وتستوحي كلمة “هجر”، بحسب مضاوي الرشيد، هجرة النبي الأولى من مكة إلى المدينة[1].

ومن الملاحظ أن حلقات ودروس “المطاوعة” كانت تتطلب نمط حياة حضريا حيث يستطيع الدعاة والقضاة السير على نهج النبي حين انتقل إلى المدينة المنورة، لذا كان المطلوب من القبائل أن تتخلى عن حياتها البدوية والتوطن في الهجر وممارسة الإسلام كما يدعو إليه المطاوعة من أبناء الحركة الوهابية، مع ممارسة العمل الزراعي، وعلى الجانب العسكري والسياسي شجّع عبد العزيز آل سعود على توطين القبائل بغية التجنيد والخدمة العسكرية وسهولة السيطرة عليهم وقت الجد، وأصبح من وافقوا على التوطن والتأسي بالمطاوعة يُعرفون باسم “الإخوان”، وقد جرى تعليمهم طاعة الإمام الشرعي وتلبية دعوته إلى الجهاد[2]، فقد كانت الفكرة في أصلها لعبا على وتر الإسلام لتوحيد الجزيرة العربية، والقضاء على مظاهر “الشرك” فيها كما سردت الرواية السلفية الوهابية التي وقف وراءها ابن سعود.

إخوان من أطاع الله يتدربون على السلاح (مواقع التواصل)

وكانت أولى المناطق التي بدأ استيطانها منطقة تُسمى “الأرطاوية” في الشمال الشرقي من وسط نجد، وفي خلال سنتين من استيطانها منذ 1912م أصبحت الأرطاوية تحت سيطرة فيصل الدويش الزعيم الأعلى لقبيلة مطير الذي كان في وقت سابق من الأوقات عدوا شرسا وقويا ضد ابن سعود، بيد أنه أصبح أخيرا أخا في “حركة الإخوان، الحركة الجهادية المسلحة”، وكرّس سيفه ونفوذه لنصرة الإسلام كما ظن بقيادة “الإمام” ابن سعود، وأما رجل الدين الأبرز في المستوطنة آنذاك فكان حسن آل الشيخ، العضو البارز في عائلة آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبحسب الكونيل هملتون الممثل السياسي البريطاني في الكويت الذي مرّ قرب الأرطاوية في أكتوبر/تشرين الأول 1917م فقد ذكر أن المدينة قد نمت سكانيا بشكل كبير، حيث بلغ عدد سكانها 35.000 (خمسة وثلاثون ألف نسمة) بحلول ذلك العام.

كانت الأرطاوية قاعدة مدنية وعسكرية في الوقت ذاته، فقد بُنيت على خطة أساسية بحيث تكون دائرية ويكون الجامع وميدان القرية مركز المدينة، ويحيط بالمدينة سور من الطين بارتفاع 12 قدما تقريبا مع التحكُّم في الدخول والخروج من خلال أربع بوابات في الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولملائمة المتطلبات العسكرية فإن مرابط الخيول والعلف أوجدت عمدا قرب ميدان المدينة، ففي هذا الميدان كان الإخوان يرفعون لواء الحرب (البيرق) كعلامة على صدور الأمر بالغزو[3].

ومما لاحظه المقيم السياسي البريطاني في الكويت حين مر على الأرطاوية، ومن خلال مخابرته أن المدينة كانت تخضع لنظام ديني صارم، يقول هملتون: “كل من أتى من الخارج يوضع في الحجر لفترة محددة للتحقق من عقيدته”[4]، وحتى الذين كانوا يخرجون من أهل المدينة للذهاب إلى الكويت عند عودتهم كان يُحجزون للتأكد من أنهم لم ينحرفوا في زيارتهم لتلك المدينة التي كانت تُعد “مارقة” في أعينهم!

أطلال الأمير سلطان بن بجاد قائد عتيبة والإخوان في الغطغط (مواقع التواصل)

بجانب الأرطاوية اكتسبت مستوطنة جديدة للإخوان عُرفت بـ”الغطغط” سمعتها كمركز من أكثر مراكز الإخوان ولاء للوهابية والجهاد في الجزيرة العربية تحت قيادة عبد العزيز آل سعود، وعُرفت بالمراس والشدة في القتال، وهناك كان أول تحرك عسكري توجّه إلى منطقة نفوذ الشريف حسين في الحجاز، وكان سلطان بن بجاد حاكم الغطغط وزعيم قبيلة عتيبة هو الرجل الذي قاد الغزوة نحو الطائف وأدت إلى احتلالها وأوجد سمعة الرعب التي لازمت حركة الإخوان في الحجاز وأدت في نهاية المطاف إلى خضوعها لابن سعود منذ سنة 1926م.

كان تأسيس الأرطاوية في الطريق الشمالي الشرقي لوسط نجد ووجود الغطغط في جنوب غرب الرياض من العناصر المهمة لتأطير القبيلتين الأكثر قوة وتأثيرا في نجد آنذاك؛ مطير وعتيبة، وهاتان القبيلتان قبلتا تماما وبطيب خاطر الجهاد بالنفس والمال والروح من أجل ما اعتبروه “جهادا مقدسا” في الجزيرة العربية، وبحسب بعض المؤرخين المتخصصين في تاريخ حركة الإخوان التي أسسها ابن سعود، فإن تحوّل فيصل الدويش زعيم قبائل مُطير، والعدو التقليدي الأبرز لآل رشيد في حائل، قد حدّ بشدّة من قدرة ابن رشيد، وهو الأمر الذي ينطبق بشدة على زعيم قبائل عتيبة سلطان بن بجاد الذي استوطن الغطغط في الغرب، والذي اعتُبر هو الآخر حائط الصد لحماية نجد من عدوان الأشراف في الحجاز[5]. كما سكن زعيم قبيلة حرب في مستوطنة دخنة، وسكن ابن جبريل وابن ثنيان زعيما شمّر في مستوطنة الأجفر[6].

وحذوا لعتبية ومطير، احتشدت قبيلة تلو أخرى تحت لواء ابن سعود وفق معياره الذي كان يُعلنه باسم الدين وتحت عباءته، وأرسلوا زعماءهم إلى الرياض يطلبون منه دعمه لإنشاء الهجرة لقبائلهم، وخلال عقد ونصف من تاريخ إنشاء أول مستوطنتين من الهجر، أقيمت أكثر من مئتي هجرة، وكان معظمها في نجد، ووجدت بعضها في أطراف الحجاز، وبعضها في شمال البلاد المأهول بقبائل الرولة وشمر قرب الحدود الأردنية السورية، وكذلك سكن البعض في أطراف الربع الخالي غرب شبه جزيرة قطر، وهما السكك والنبّاك[7].

وخلافا للبدو ولأهل المدن القديمة كالعارض وغيرها في نجد فقد ألزم إخوان من أطاع الله أنفسهم بالجهوزية التامة، والاستعداد الدائم للحاق بالركب العسكري لابن سعود، وعند إعلان “الجهاد” كان الإخوان يُلزمون أنفسهم على حمل السلاح ولا يتخلّف إلا المريض أو من كان لديه سبب شرعي آخر، وبالرغم من أن الرجال كانوا يلتحقون في الغالب في سن الخامسة عشرة بالجيش والغزو، فقد سُجلت أعمار أقل مثل الثامنة والتاسعة للمشاركة في الغزو من داخل الإخوان، بل والشيوخ الذين قاربوا السبعين من عُمرهم[8].

عبد العزيز يدعم الإخوان!

كان الإخوان بقيادة الدويش زعيم مطير، الرجل الذي آمن بالفكرة الوهابية والجهادية إيمانا مخلصا، كانوا يد ابن سعود الباطشة، وبسبب نجاحهم شجع عبد العزيز عملية استقرار البدو، كما ساعد حركة “إخوان من أطاع الله” بالنقود والحبوب والأدوات الزراعية، ومواد بناء المساجد والمدارس والهجر، وزوّد المحاربين بالسلاح والذخيرة للدفاع عن “الدين” من أعدائه “العثمانيين” والموالين لهم من آل رشيد في حائل، كما كانت تروج دعايته، وكان أمراء تلك الهجر يستلمون من عبد العزيز معونة نقدية، ويتمتعون بحُسن ضيافته، وكانت أسماء الأمراء تُسجّل في سجلات خاصّة، وكان مقدار المعونة يُحدّد تبعا لخدماتهم وعدد أتباعهم، وكان الإخوان المحاربون يتلقون مكافأة سنوية بعد أن تُسجّل أسماؤهم في سجلات ديوان ابن سعود، وكان الشرط الأساسي للحصول على هذه المكافآت هو التخلي عن عادادت والتزامات نمط الحياة العشائري[9].

إخوان من طاع الله في إحدى “غزواتهم” (مواقع التواصل)

وهكذا بالنظام الجديد “حركة الإخوان” استطاع عبد العزيز آل سعود إخضاع كل القبائل التي استمرت تقاتل بالأسلوب البدوي القديم، كما استطاع هزيمة جيوش العثمانيين الأتراك، وجيش الشريف حسين، الذي أعلن أنه “ملك العرب” في ثورته على العثمانيين سنة 1916م أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان الإخوان قوة عبد العزيز الباطشة التي جعلته يقول مفتخرا:

“إن ورائي أربعمئة ألف مقاتل، إن بكيتُ بكوا، وإن فرحتُ فرحوا، وإن أمرت نزلوا على إرادتي وأمري، وإن نهيتُ انتهوا، وهؤلاء هم جنود التوحيد إخوان من أطاع الله”[10].

 

في المقابل كانت بعض أخبار ابن سعود تصل إلى كبار رجال الإخوان مثل فيصل الدويش قائد مطير والأرطاوية، وسلطان بن بجاد قائد عتيبة، فحين عرفوا أن عبد العزيز بن سعود بدأ يتسلم راتبا شهريا من الإنجليز بدءا من سنة 1915م بعد اتفاقية دارين الشهيرة مع البريطانيين، والتي فرضوا فيها الحماية على آل سعود، فقد استطاع عبد العزيز أن يقنع الإخوان بأن ذلك “مجرد جزية كالتي كان المسيحيون يدفعونها للخلفاء الأوائل”[11]!!

الإخوان يد آل سعود الباطشة

ومن خلال الإخوان وقوتهم العسكرية وحماستهم الدينية المتقدة أوقف ابن سعود الكويتيين وأراق دماءهم في معركة الجهراء، بل وصل القائد العسكري القوي فيصل الدويش إلى مدينة الكويت ذاتها لولا التدخل الإنجليزي جوا وبحرا طبقا لاتفاقية الحماية الموقّعة بين الجانبين، فقد كان صعود سالم آل الصباح إلى منصب المشيخة، وكراهيته لآل سعود، فضلا عن الخلافات الحدودية بينهم، ثم امتعاض الإخوان على الكويت باعتبارها مدينة “الخطايا والآثام”، المدينة المنحلة في مسائل الدين كما كان الخطاب الوهابي والسياسي لابن سعود يُشيع بينهم، قد تسبب في الصدام بين الجانبين في أكتوبر/تشرين الأول 1920م، وفي نهاية المطاف استيلاء السعوديين بفضل الإخوان والدويش على مزيد من الأراضي التي كانت موضع تنازع بين الجانبين، وكان من نتائج تلك المعركة عقد اتفاق العقير في ديسمبر/كانون الأول 1922م الذي أنهى المشكلة الحدودية بين الجانبين بفضل حركة الإخوان، وجعل عبد العزيز آل سعود يتطلع للقضاء على آل رشيد[12].

وهو ما تم بالفعل، فبالإخوان أيضا قضى ابن سعود على إمارة جبل شمر آل رشيد سنة 1921م بعد محاولة سابقة فاشلة، وبهم كانت المواجهة الأخيرة أمام الشريف حسين الذي كان ولداه فيصل وعبد الله قد ارتقيا إلى عرش العراق وشرق الأردن وهو في الحجاز بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى سنة 1918م، بفضل تحالفهم مع الإنجليز، فكان ابن سعود بينهم محاصرا، لكن بالإخوان قوته الباطشة، وأيديولوجيتهم الجهادية الوهابية، لم يكن أبدا في موضع الضعف أو القلّة.

قضى آل سعود على إمارة آل رشيد في حائل سنة 1921 بفضل كتائب “إخوان من أطاع الله” العسكرية

وبحلول سنة 1922م وبعد عشر سنوات على إنشاء هذه الجماعة، ونجاحاتها الباهرة في الجزيرة العربية، كانت “حركة إخوان من أطاع الله” بقيادة الدويش وابن بجاد وابن حثلين قوة باتت تُقلق بريطانيا ذاتها، فهي كانت في حليفها ابن سعود، لكن كانت عيونها ومخابراتها ترى حركة دينية متحمسة لعودة الإسلام حاكما في الجزيرة العربية، وفي ذلك يقول غلوب باشا:

“في خريف عام 1922م كان وضع عبد العزيز كالآتي، استطاع هزيمة منافسه ابن رشيد، وذلك أساسا بفضل الحماس الديني الذي استطاع ابن سعود شخصيا إثارته، وأصبح الحاكم الأوحد لوسط الجزيرة العربية، وقد أعلن أتباعه المتعصّبون (يقصد الإخوان) أن واجبهم الديني هو إخضاع العالم كله للوهابية، ولم يكن لديهم أي استعداد للوقوف عند حدود سياسية رسمها شخص ما على الخريطة، أما عبد العزيز نفسه فكان رجلا ألمعيا ويعي إلى حد ما قوة وموارد الدول الأوروبية، ولذا كان حريصا على تجنّب أي صدام مع بريطانيا، ولكنه كان غير قادر على إقناع أتباعه بذلك، فقد ظل عشر سنوات يُغذّي حماستهم، وأصبح عاجزا عن أكل كلماته”[13].

غلوب باشا (مواقع التواصل)

وبحسب تقرير غلوب باشا فإن الإخوان كانوا يرون أن الإسلام هو حاكمهم الأول، ورويدا رويدا كانوا يفهمون بعض تحركات عبد العزيز، فقد كانت غاراتهم لإخضاع العراق والأردن والتي كانت تسبب خسائر فادحة للقبائل التي كانت تقطن تلك المناطق، فضلا عن التزام الإنجليز بعدم دخول طائراتهم إلى نجد مخترقين الحدود، جعل قوة الإخوان تبلغ مدى كبيرا من التغلغل كما تُشير بعض التقارير البريطانية إلى قرب عاصمة الأردن عمّان بعشرة أميال فقط، وكان ذلك سببا كافيا لكفّ يدي الملك فيصل بن الحسين عن شن أي هجوم من الخلف على قوات ابن سعود والإخوان وهو يستعد لضرب والده الشريف حسين في الحجاز.

وبذكاء الدبلوماسية والمخابرات البريطانية التي كانت تلعب على الحبلين، حبل الشريف حسين في غرب الجزيرة العربية، وحبل ابن سعود في وسط الجزيرة العربية وشرقها، ومراقبتها الدقيقة لمدى صعود القوتين وإلى من تميل الكفة، فقد كانت ترى المستقبل في جانب قوة الإخوان الصاعدة، سيف ابن سعود الحاسم، ورويدا رويدا كانت تنبذ دعمها للشريف حسين، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 1922م، وفي اجتماع الجمعية الآسيوية، أعلن الكولونيل فيكري، وهو من أعمدة الإستراتيجية البريطانية آنذاك، عن ظهور قوة الإخوان وما أحدثوه في الجزيرة العربية، ومستقبل الجزيرة في ظل وجودهم، قائلا:

“لقد شاهدتُ قوة جديدة نامية في الجزيرة العربية، قوة ليست من تلفيقاتنا، قوة ستزيل تلك البيوتات التي أيدناها علنا وبإفراط، إن الوصاية على الحرمين اليوم يتولاها الشريف حسين، ولكنني أعتقد أن السلام لن يحل على الإسلام إلا إذا أصبحت مكة مرة أخرى تحت سيطرة أمة تجمع بين الروح والقوة”[14].

 

وفي عيد الأضحى من سنة 1924م عرض عبد العزيز على الإخوان ضم الحجاز والقضاء على مملكة الشريف حسين، فوافقه الجميع، وعلى رأسهم الزعيم فيصل الدويش بحماس شديد، وبالفعل انطلقت قوات الإخوان بقيادة زعيم الغطغط وعتيبة سلطان بن بجاد وقائد الخرمة خالد بن لؤي حتى وصلت إلى الطائف وتمكنت من الاستيلاء عليها بسهولة تامة، وقد حاول علي ابن الشريف حسين تجميع قواته في منطقة الهدّة لإيقاف زحف الإخوان على مكة المكرمة لكنه مُني بهزيمة ثقيلة، كان من نتائج هذه الهزيمة خلع الشريف حسين وتولية ابنه عليًّا بدلا منه وخروجه منفيا إلى قبرص، في محاولة لترضية ابن سعود، والكف عن الاستمرار في التمدد في الحجاز وذلك في أكتوبر/تشرين الأول 1924م [15].

الأمير سلطان بن بجاد قائد عتيبة والغطغط، وأهم قادة إخوان من أطاع الله (مواقع التواصل)

لم يُرض نفي الشريف حسين العدو الأكبر لابن سعود طمعه، فبعد فترة قصيرة تمكنت قوات الإخوان من الدخول إلى مكة دون قتال بعد انسحاب الأمير علي بن الحسين إلى جدة، وكانت نية عبد العزيز أن يتريث في الرياض وعدم الإسراع في دخول مكة حتى يتبين من موقف الإنجليز، ولكي يُحمّل الدويش وابن بجاد وقادة الإخوان الآخرين المسؤولية الكاملة في حالة تدخل البريطانيين لمساندة حليفها الشريف حسين، ولكن حين أعلنت القوى الأوروبية الحياد، فهم عبد العزيز الرسالة، وتوغّل بقواته في الحجاز وبدأ حصارا على واحدة من أهم مدنها، جدّة، استمر عاما كاملا لم تتدخل فيه بريطانيا مطلقا.

بل بحسب التقارير البريطانية تقابل عبد العزيز والمبعوث البريطاني الكولونيل كلايتون في مقر إقامته بالحجاز عُقيب ذلك، ووافق على إعطاء بعض التنازلات في الحدود الشمالية مقابل اعتراف بريطانيا بضمه الحجاز، وبالفعل وُقّعت اتفاقيتا بحرة وحدّة في 1 و2 نوفمبر/تشرين الثاني 1925م لترسيم الحدود بين نجد والكويت والعراق وشرقي الأردن، وحينها رفض كلايتون مقابلة الأمير علي بن الحسين المحاصر في جدّة، والذي أيقن أنه لا خيار له سوى الاستسلام وهو ما تم بالفعل في 22 ديسمبر/كانون الأول 1925م، وحينها كانت مكة قد بايعت عبد العزيز ملكا على الحجاز[16].

هذه الهزائم التي لقّنها الإخوان بقيادة فيصل الدويش وابن بجاد وغيرهم لخصوم ابن سعود في الجزيرة العربية، والتي جعلته ملك الحجاز ونجد بحلول عام 1926م، جعلت جون فيلبي مستشار ابن سعود، وضابط المخابرات البريطاني يقول:

“إنجازات الإخوان في الحرب تبدو على أي حال باهتة في أهميتها مقارنة مع إنجازاتها القياسية في السلام، وبطول وعرض العربية السعودية يوجد الآن جو من السلام والأمن لم يكن مسبوقا في تاريخ هذا البلد، ويمكن للمرء الآن أن يتجول في أي جزء منه بواسطة فرس أو بعير دون الخوف من قطع الطريق”[17]. فكانت شهادة ناصعة من أعدائهم.

جون فيلبي “الحاج عبد الله فيلبي” ضابط المخابرات البريطاني ومستشار عبد العزيز آل سعود (مواقع التواصل)
انكشاف الحقيقة لقادة الإخوان!

بحلول عام 1926م سقطت الحجاز كلية في يد عبد العزيز آل سعود، لكن بسبب الفارق الفكري والحضاري بين الحجاز التي كانت تتمتع بالتكنولوجيا المستخدمة آنذاك من التلغراف والسيارات وغيرها بفضل العثمانيين، وبين نجد التي كانت متأخرة في هذا الجانب، فقد حصل خلاف فكري بين الإخوان وبين علماء مكة، رغم عقد مشاورات بين الفريقين في تلك المسائل من المنظور الفقهي، وراح الإخوان يهدمون القباب المقامة فوق قبور الصحابة، ويهجمون على الحجاج المخالفين لهم مذهبيا، وهاجموا المحمل المصري الذي كانت تتقدمه الفرقة الموسيقية المصرية، فأمر القائد المصري بإطلاق نيرانه على الإخوان فقتل منهم 25 شخصا، وكانت تلك الحادثة بداية النقمة والخلاف بين ابن سعود والإخوان بقيادة الدويش وابن بجاد[18].

ثلاثة من قادة إخوان من أطاع الله، من اليمين، جاسر بن لامي، فيصل الدويش، نايف بن حثلين (مواقع التواصل)

وفي مطلع عام 1926م اجتمع فيصل الدويش وابن حثلين وابن بجاد في الغطغط وأعدّوا قائمة بمآخذهم على عبد العزيز طوال السنوات الماضية، وسرعان ما تلقّفتها قبائل مطير وعتيبة والعجمان، فمنها: سفر ابنه سعود إلى مصر بعد حادثة مقتل الإخوان على يد المصريين، ومنها سفر ابن فيصل إلى لندن في أغسطس/آب 1926م للتفاوض مع الإنجليز، بما يعني التعاون مع المشركين، ومنها فرض رسوم جمركية على مسلمي نجد، ومنها حق قبائل الأردن والعراق في الرعي في أراضي “المسلمين” يعني الوهابيين، ومنها الاعتراض على المتاجرة مع الكويت التي كانت في نظر الإخوان مشيخة مارقة كما كانت تبث دعاية ابن سعود[19].

لكن الأمر لم يكن تعنتا من قِبل قادة الإخوان تجاه التكنولوجيا واستخداماتها في الحروب والاتصالات، وإنما التعنت في حقيقته تمثّل في أن قادة الإخوان عرفوا حقيقة ابن سعود في تلك السنوات الأخيرة بعد أكثر من 12 عاما من القتال والغزو ولعب عبد العزيز آل سعود بالدين، عرفوا مقاصده، وكانت الأدلة قد أضحت واضحة وضوح الشمس لديهم، وأيقنوا أنه كان يلعب بهم باسم الدين، وبثّ في عقولهم حب الجهاد لرفع راية الإسلام، وهو من خلفهم يتحالف مع الإنجليز ويأتمر بأمرهم، ويسعى بكل السبل للاستيلاء على الجزيرة العربية، هذه الحقيقة يؤكدها المقيم السياسي البريطاني في الكويت آنذاك الضابط والمؤرخ هارولد ديكسون، وأحد الشاهدين على لجوء الإخوان حين هزيمتهم إلى الكويت وتسليمهم لابن سعود بعد ذلك، قائلا:

“لقد فهم عامةُ الإخوان أن ابن سعود أطلق صرخة الدين سنة 1914م لأغراضه الخاصّة، ولذلك شعروا بالألم والندم لأنهم استُخدموا كمطية، فلم تعد لديهم رغبة في الولاء أو في الاندفاع، ولم يعد الملك (عبد العزيز) بالنسبة لهم بطلا أو أبا لشعبه”[20].

ولكي يخرج ابن سعود من أزمته تلك، استدعى عددا من كبار علماء الرياض ونجد للرد على اتهامات الإخوان، وللحفاظ على شرعيته وصورته البراقة كزعيم، بل بالأحرى كـ”إمام” لامع الصورة، جميل المحيّا، وهذه الثلة من العلماء وافقت رأي عبد العزيز في أغلبه، وقبلت اتهامات الإخوان في اعتراضاتهم مثل فرض الضرائب وغيرها، وهو ما وافق بالتنازل عليه ابن سعود بغية تهدئة الأوضاع.

في العام التالي أعاد “إخوان من أطاع الله” الكرّة إلى الغزوات في الأراضي العراقية وعلى الحدود مع الكويت، الأمر الذي اعترضت عليه حكومتا البلدين ومن ورائهما الحاكم الحقيقي آنذاك بريطانيا، فأرسل ابن سعود مؤكدا ومتوسّلا أن هذه الغزوات لم تحدث بموافقته، وكان الإخوان أصحاب قوة عسكرية شديدة لم يكن ليقدر عليها ابن سعود، وفي المقابل كان عبد العزيز يستخدم الحرب الدعائية لتهدئة أتباعه من الإخوان في البادية، حيث كان يهاجم إعلاميا العراق، لكنه في السر كان يعمل بكل ما أوتي للتخلص منهم.

فطوال عام 1928م كان يتحصّل على صفقات أسلحة متطورة من حلفائه البريطانيين، وحاول ابن سعود أن يلتقي قادة الإخوان لكن لم يرض ابن بجاد وفيصل الدويش بذلك اللقاء، وأيقنوا أنه كان طوال السنوات الماضية يلعب بهم مستخدما ورقة الدين، في حين كان يُفاوض الإنجليز ويرتمي في أحضانهم، لذا اتفق كبار قادة الإخوان على الإطاحة بابن سعود واقتسام مُلكه فيما بينهم، واستقر الرأي على أن يكون فيصل الدويش حاكما لنجد، وسلطان بن بجاد حاكما للحجاز، والأحساء تكون لنايف بن حثلين، ونداء بن نهير الشمري حاكما لحائل، لكن هذا الأخير رفض الانضمام لهم، وظل وفيا لابن سعود[21].

معركة السّبلة وهزيمة الإخوان

إزاء هذا التحالف الخطير بين كبار قادة الإخوان، أعلن عبد العزيز عن مؤتمر جماهيري يحضره كبار العلماء وشيوخ القبائل، وفيهم اصطنع عبد العزيز حركة مسرحية ذكية للغاية، حيث أعلن تنازله عن العرش شريطة أن يختاروا بديلا عنه من آل سعود، لكن الجميع رفضوا، وأعلنوا دعمهم له، لا سيما قبائل نجد والمناطق القريبة من الرياض، ونتيجة لهجوم ابن بجاد على بعض مناطق الحدود مع العراق، فقد كان الصدام لا محالة واقعا بين الفريقين.

وفي مطلع مارس/آذار 1929م وقعت معركة السِّبلة بين الإخوان بقيادة فيصل الدويش وابن بجاد، وبين عبد العزيز آل سعود ومعظم القبائل المؤيدة له، ومنهم بعض بطون عتيبة التي أقنعها بالانفضاض عن ابن بجاد، وبمساعدة من الطيران الحربي البريطاني، والتسليح البريطاني، والاستخبارات البريطانية التي كانت تقدم المدد لابن سعود، فقد هُزم الإخوان، وسُحق ابن بجاد.

أما الدويش فرغم إصابته وعفو ابن سعود عنه في البداية وتعافيه فإنه عاد إلى الانتفاضة مرة أخرى مستعينا بقبائل العجمان، وتوالت المعارك بين الجانبين، حتى اضطر الدويش إلى اللجوء إلى الكويت التي سلمته إلى بريطانيا، والتي بدورها سلمته إلى ابن سعود الذي تعهد بالإبقاء على حياته، لكنه ألقاه في سجن المصمك بالرياض، وظل الدويش حتى الرمق الأخير من حياته ثابت الرأي، ناقما على عبد العزيز آل سعود الذي كان قد اتخذ الإخوان حركة دينية جهادية يخفي من ورائها أطماعه في التوسع والحكم، وبحلول يناير/كانون الثاني 1930م كانت قد انتهت انتفاضة الإخوان، وبعدها بعام توفي الدويش في سجنه!

انتصار ابن سعود ونهاية الزعيم فيصل الدويش!

بل تشير بعض الروايات إلى أن قادة الإخوان مثل فيصل الدويش شيخ المطير ونايف بن حثلين شيخ العجمان وسلطان بن حميد شيخ عتيبة عوملوا بقساوة شديدة، وبحسب ناصر السعيد في كتابه “تاريخ آل سعود” فإن المشرفين على سجن المصمك “أخذوا يعذبون كل واحد منهم (من قادة الإخوان) على انفراد، يربطون رجليه ويديه ويتركون أحد العبيد يضغط بيديه على حلقه حتى يُغمى عليه، وكانوا لا يُقدمون لهم طعاما ولا ماء إلا مرة في اليوم وشيئا لا يُذكر من هذا الماء والطعام الملوث لإبقائهم بين الموت والحياة أطول مدة، وكانوا يُعطون فيصل الدويش ضمن الماء أو الطعام أحيانا قليلا من السم البطيء ليتعذب ولا يموت، ويقول أحد المشرفين على السجن: إن الدويش قد تقيأ دما مرارا، وإنه طلب معالجته فرفضوا، وطلب مقابلة الملك عبد العزيز فرفض الملك، وكان الملك يأتي إلى السجن بنفسه يوميا ليتأكد من تطبيق تعليماته في تعذيبهم”.

ويضيف أن فيصل الدويش أرسل إلى عبد العزيز آل سعود قرب وفاته يقول له:

“إنك يا عبد العزيز ترفض مقابلتي وأنا مُقيّد اليدين والقدمين، فهل تخافُ مني حتى وأنا في هذه الحالة المزرية بينما لا تخاف من الله الذي لا بدّ أن نتقابل لديه”[22]!

فيصل الدويش، أمير قبيلة مطير، وقائد إخوان من أطاع الله (مواقع التواصل)

لقد تعامل عبد العزيز مع رفاقه الأقدمين، أصحاب الفضل عليه في توحيد الجزيرة العربية بقسوة بالغة، تسببت في القضاء عليهم ومقتلهم في نهاية المطاف، وهي القسوة التي لاحظها هارولد ديكسون الوكيل السياسي البريطاني في الكويت آنذاك قائلا: “كان الشعور السائد أن ابن سعود لم يلعب لعبته بواسطة الإخوان ولم يقف إلى جانبهم كما كان مفروضا له أن يفعل، فهم على كل حال الذين رفعوه إلى المكانة التي احتلها وكانوا أيضا مسلمين صالحين، وقد طلب ابن سعود مساعدة البريطانيين، وبمساعدتهم تمكن من سحق رعاياه المسلمين، لقد عامل فيصل الدويش ونايف بن حثلين وسلطان بن حميد العتيبة وهم ثلاثة من أعظم زعماء الجزيرة العربية بقساوة لا داعي لها في الوقت الذي كانت طرق الشهامة كافية لمواجهة القضية”[23].

وهكذا لعب عبد العزيز آل سعود بحركة إخوان من أطاع الله، أقوى المجاهدين -باعتراف الإنجليز وغيرهم- في الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، هؤلاء الذين وحّدوا القبائل المتصارعة، وقضوا على الإمارات المنافسة كالأشراف في الحجاز وآل رشيد في حائل وأعطوها لقمة سهلة لآل سعود، واقتطعوا ثلثي الكويت، وأرهبوا العراق، ووصلوا إلى مقربة من عاصمة الأردن عمّان، كل ذلك لخدمة الدين -كما أوهمهم ابن سعود-، لكن حين انتهى دورهم المرسوم، كان الإخوان قد عرفوا حقيقة زعيمهم متأخرا، كان السحق والقتل والسجن مصيرهم!

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى