تقارير وإضاءات

هل الحداثة التفكيكية مدرسة صوفية؟

لم يكن أمراً مفاجئاً أن تجري مقاربة بين التصوف الفلسفي ونظريات النقد الحديث. وكل من هو مهتم بمعالجة هذا المحور يعي المشتركات الباطنية في تأويل النص أو (الآخر)، لكن المفاجئ أن يضطلع باحث بكتابة تفصيلية عن هذا المتماثلات، بين تصوّف يُدرج في جملة الخرافات التي تقاومها الحداثة وما بعدها، في الخانة ذاتها التي تنشط فيها أدوات لتفكير ما بعد الحداثي، وأعني المدرسة التفكيكية وقطبها الرائد جاك دريدا التي تناكف كل تعليب جاهز للحقيقة، بل تكاد ترفض الحق والحقيقة ذاتها عبر تقنيات ثائرة على الحسم، حيث تتخذ من اللاحسم حسماً يفكك الفرضيات أو المسلمات اليقينية في النص الصغير والكبير.

كتاب (التصوف والتفكيك – درس مقارن بين ابن عربي ودريدا) للمؤلف الفرنسي أيان ألموند، يستبشر بفرضية تفيد بأن كتاب (فصوص الحكم) و(الفتوحات المكية) للصوفي الفيلسوف ابن عربي درسٌ ما بعد بنيوي (تفكيكي)، يقارب بينه وجاك دريدا ومعالجاته للنص المقروء والظاهرة الغيبية عند ابن عربي، بوصفها نصاً مستقلاً بذاته.

يستجلي الكتاب الاعتراض الصوفي والتفكيكي على الفكر العقلاني والمشروع الأكبر لنقد المفاهيم المركزية التي استندت عليها الحداثة في تمحورها على العقل؛ لكونه معطّلاً للانفتاح على اللامطلق والميتافيزيقا المتمركزة في (اللوغس) أو الحقيقة المطلقة، غير أنهما حملا الثائرة الفنية ذاتها، دون التماثل في روحانيات أداتهما المتصادمة مع (الآخر) المعنيّ بالتأويل، حيث إن التحرير الدلالي المشترك ينطلق من مرجعية عليا متباينة، ذلك أنّ (تحرير دريدا دلالي محض، أما ابن عربي فلديه هدف روحي أكبر يحرص عليه)، وجاء الكتاب ليوضح العلاقة بينهما تشابهاً واختلافاً؛ فرهان حالة ابن عربي الاستبطانية اتخذت موقفها الحاسم من العقل؛ فاعتمدت الحس والكشف والذوق والوجد والشوق والتأمل المستشف رقائق الغيب، ثم ها هو ذا يقرّ بالنتيجة ذاتها عند دريدا بأن التكثر وإرجاء الحسم هو الإيمان الحقيقي بالمبدع عنده، والإبداع عند دريدا، وهذا ما حدا ابن عربي إلى الاعتراض الحادّ على الفرق الكلامية العقلانية كالأشاعرة والمعتزلة، حيث (يصر على أن الله محايث (مشبَّه) ومتعالٍ (منزّه) في آن معاً)، وابن عربي لا يستشعر أي تناقض أو التباس في أن يعتقد الشيء ونقيضه، ممثلَين حقيقة واحدةً لذات واحدة لا تتبعّض؛ لأنه ينتج نظريته وليدة اللحظة بنفسه في نشاط دائب متجدد، يراه ذوو الألباب غريباً ومنحرفاً ومضطرباً.

(عدم تناهي الإمكانات) كان منطلقاً مشتركاً بين التفكيكي والصوفي الفلسفي، ونواة لمدارات (فصوص الحكم) و(الفتوحات المكية)، وكذلك كتابات دريدا، إلا أن ابن عربي يصرّح بحتمية تعدد الممكنات الإلهية، ويخوض خوضاً مغامراً، حيث يقوم بثورة على كل إحالة حرفيةمتبادَرة، ليلوي عنقها باتجاه مختلف أو مغاير، فيجعل المؤمن كافراً والكافر مؤمناً، كما في كثير من تفسيراته لآيات القرآن، وسورة نوح نموذج حي لذلك، وفي المقابل (يبذل دريدا جهداً مماثلاً في استكشاف عدم تناهي النص دلالياً)، وتخلص المقاربة إلى أن (النص والإله) هما مادة معالجة متطرفة تخضع لتقنية صوفية تكفكيكة وتفكيكية صوفية، وهذا ما يستدعي الاشتباه فيهما كنزعتين متصادمتين مع اليقين الفطري باتجاه الله والنص، ما يرسخ الاعتقاد بالقول بأن التفكيكية ليست إلا صدًى لخرافة باطنية أعلنت عن نفسها في القرن السابع الهجري.

ابن عربي يرفض أن يتكلم الله عن نفسه؛ لأنه سيحدد ذاته بأسماء وصفات، ودريدا يرفض أن ينطق النص بنفسه عن نفسه؛ لأن ذلك يعني رسم حدّ، كما أن بين دريدا وابن عربي تقاطعات في عدم قابلية العلامة/ الحق التكرار والاستقرار الدلالي.

(الحيرة) هدف لذاتها عند الرجلين، بل هي علم بحد ذاته؛ لأن رفض اليقين يقين والاعتراض على العلم علم، كما يبدو من هرولتهما في المجهول؛ فابن عربي يسأل الله أن يزيده حيرةً فيه، محاولاً إغراء قارئه، يقول في (الفصوص):

(الهدى أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة والحيرة قلق وحركة والحركة حياة)، وكذا هو الشأن لدى النص عند دريدا، يقول : (منذ اللحظة التي يوجد فيها معنى لا يوجد سوى علامات)، فكلاهما كما ينقل ويقول المؤلف إيان ألموند: (يرفضان طريقة التفكير بمنطق الثنائية؛ بحجة أنها طريقة تفكير وهمية خادعة) ماضية باتجاه تحرير الحرف من أغلال الروح، وهي نزعة مصادمة للبنيوية وكل المدارس الفكرية والنقدية المركزية، وما ينشأ عنها من تشابه (الحق) عند ابن عربي و(الاختلاف المرجئ) عند دريدا، الذي حاول أن ينفي عن نفسه التأثر باللاهوت أو (فخ الميتافيزيقيا).

الكشف عند كلا الرجلين هو الحجاب المتكرر، وإرجاء انجلاء الحق والمعنى، وأسبقية ابن عربي على دريدا تثير تعليقات جدّ مهمة حول ابن عربي الصوفي الروحاني والوسيط الأوروبي إيكهارت، الذي تبنى مشروعاً مماثلاً لابن عربي في المسيحية.

تأثر دريدا بتأويلات ابن عربي الصوفي ليس أمراً حاسماً؛ لكن ما جمعهما هو تكرار تجربة تفسير الآخر بأدوات متقاربة، بين صوفي موصوم بالخرافة والابتذال، وتفكيكي بعد حداثي يورط الحداثة بالخرافة.

 

 

(المصدر: موقع المثقف الجديد)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى