كتاباتكتابات مختارة

نظرية التكامل في مناهج العلوم الإسلامية

نظرية التكامل في مناهج العلوم الإسلامية

بقلم مسعود صبري

مما يلاحظ في مخرجات التعليم في العلوم الإسلامية أن خريجيه يغلب عليهم أحادية التفكير، حتى قسم المقسم، فمن درس العقيدة لا يعرف شيئا في الفقه غالبا، ومن درس الفقه ندر أن يحيط بأصول علوم الحديث، ومن درس الحديث لا علاقة له بتفسير القرآن وعلومه على الغالب الأعم، ناهيك عن أن يكون ذا دربة وخبرة باللغة العربية وعلومها المتعددة، وذلك فضلا عن عدم اطلاع أبناء التعليم الشرعي على العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو ما يعرف بنظرية ( أسلمة المعرفة)، بل وجدنا أن كثيرا من طلاب العلم إن اجتهدوا في معرفة المسائل القديمة في العلوم الإسلامية، فلا يستطيعون ولوج المسائل المعاصرة في العلم الذي تخصصوا فيه.

وهذا الخلل الحاصل اليوم في مخرجات التعليم المبنية على التقسيم الموضوعي للتخصصات لم يكن معلوما لدى السلف والخلف، بل اعتمدوا أهم استراتيجيات التعليم وهي( تكامل المعرفة والعلوم)، ومن أهم المنهجيات والمعايير التي توصل إلى تكامل المعرفة في العلوم الإسلامية ما يلي:

تكامل العلوم في المحتوى:

بين العلوم تكامل وتقارب، فموسوعية العلم لها تأثير في فهم العلوم كلها، لأن كثيرا من العلوم ينبني بعضها على بعض، ويترتب بعضها على بعض، ويحسن بالمعلم حين يشرح في علم أن يستدعي بعض المباحث من العلوم الأخرى التي تتعلق بها تعلقا أصيلا دون استطراد مخل، فإن هذا من باب مدارسة العلم، وتكامل العلوم، وأنها كالوحدة الواحدة.

وتكامل العلوم له أكثر من وجه:

الوجه الأول: التكامل بين فروع العلم الواحد، فعلم اللغة مثلا له فروع كثيرة، والتميز في اللغة لا يتحصل إلا بتحصيل تلك الفروع من النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والشعر والنثر والنقد وعلم اللغة وغيرها من فنون العربية.

الوجه الثاني: التكامل بين علوم الآلات والغايات، كما هو الشأن بالنسبة للغة والأصول لغيرها من علوم الفقه والتوحيد والتفسير.

الوجه الثالث: التكامل بين العلوم خارج الدائرة الواحدة، كالتكامل بين العلوم الشرعية  والعلوم الإنسانية من ناحية، وبين العلوم الإسلامية والعلوم التجريبية من ناحية أخرى. ولعل هذا المزيج المتمثل في تكامل العلوم هو الذي أخرج لنا بعض مظاهر عبقرية العقل المسلم، فكلما كان العالم موسوعيا كلما كان اجتهاده الفقهي والفكري أنضح وأقرب للصواب، وهذا هو المشهود له في القرون السابقة واللاحقة.

ولعلنا هنا مراعاة للعصر لا نقصد الإحاطة بالعلوم كلها، بل نقصد به معرفة الوصول إلى المعلومات في تلك العلوم في المسألة المجتهد فيها باعتبارها نوعا من الاجتهاد الجزئي، مع معرفة الأصول العامة لأساسيات العلم.

وقد أدرك الأقدمون ذلك، فقد كتب عمر إلى أبي موسى: أما بعد، فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية “. وقال الشعبي: «النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغنى عنه»  وقال شعبة: «مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم اللحن مثل برنس لا رأس له»[1].

ويحكى عن الفراء النحوي؛ أنه قال: من برع في علم واحد سهل عليه كل علم. فقال له محمد بن الحسن القاضي, وكان حاضرا في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفراء: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته, ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا؟

قال الفراء: لا شيء عليه. قال: وكيف؟ قال: لأن التصغير عندنا لا يصغر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر. فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك.

و كمسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي بحضرة الرشيد.

روي أن أبا يوسف دخل على الرشيد، والكسائي يداعبه ويمازحه؛ فقال له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك. فقال: يا أبا يوسف! إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي. فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف! هل لك في مسألة؟ فقال: نحو أم فقه؟ قال: بل فقه. فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تلقي على أبي يوسف فقها؟ قال: نعم. قال: يا أبا يوسف! ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، وفتح أن؟ قال: إذا دخلت طلقت. قال: أخطأت يا أبا يوسف. فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ قال: إذا قال “أن”؛ فقد وجب الفعل ووقع الطلاق، وإن قال: “إن”؛ فلم يجب ولم يقع الطلاق. قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي [2].

العناية بعلوم المناهج:

إن الملاحظ للتصنيف الشرعي يجد غلبة بعض العلوم دون بعض، ولا نتحدث هنا عن الفروق بين  النسب في تدريس العلوم فهو أمر لا بأس به، ولكن إغفال بعض المعارف ذات الأهمية في الدروس الشرعية، مثل حقول الحضارة والتاريخ، والتي إن درست فإنما تدرس في سياق منفصل عن بعضها، بحيث تدرس كحوادث تاريخية أو من خلال دراسة بعض الشخصيات، ولكن الأهم من ذلك هو دراستها باعتبارها من علوم المناهج، وهذا هو الشأن الذي يقدم ابتداء في كل العلوم، فيكون الاهتمام أكثر فيما يتعلق بمناهج التفكير والتصنيف في تلك العلوم، لأن هذا يعطي تصورا عن كليات العلوم، مما يسهم في صياغة العقلية الإسلامية القادرة على مواجهة التحديات المعاصرة في شتى مجالات الحياة.

فمن المقترح قبل أن يدرس الطلاب مباحث أي علم من العلوم الشرعية، أن يدرسوا قبلها مدخلا منهجيا، يعرف بالعلم ومبادئه، ومناهج التصنيف فيه، ومقاصده التي تتوخى من دراسته، وأهم أعلامه المشاهير الذين صنفوا فيه، أو أسهموا في تكوينه، وأشهر الكتب المعتمدة، فإن هذا مما يعطي تصورا عاما للعلم، يمهد للطالب قبل دراسة المباحث التفصيلية.

التفرقة بين علوم الآلات وعلوم الغايات:

ومن معايير الجودة في المحتوى التفرقة بين علوم الآلات والغايات، فالأولى خادمة للثانية التي هي مقصودة بالدرس والعلم، والأصل الاقتصار في علوم الآلات كعلوم العربية نحوا وتصريفا ومعانيا وبيانا وبديعا، وعلم المنطق، وعلم الأصول وغيرها مما تدعو الحاجة إليه ويوفي بالمقصود، بخلاف علوم الغايات، فلا بأس بالتوسع فيها، لأنه كلما توسع فيها الإنسان زادت ملكته فيها.[3]

فمن الملاحظ أن دراسة الفروع في الكليات الشرعية تأخذ حيزا كبيرا من الدراسة، بخلاف دراسة الكليات والمقاصد، ولو نظر إلى مردود دراسة الفروع مع كثرته وقلة دراسة المقاصد والكليات مع أهميتها؛ لأدركنا النقص في صياغة العقل المسلم، الواعي لدينه، والمدرك لدوره، الفاهم لمتطلبات عصره.

الجمع بين الطريقة القديمة والحديثة:

ومما ينبغي مراعاته في التصنيف والتأليف الجمع بين الطريقة القديمة والطريقة الحديثة، فلكل منهما مزاياه، وقد قال الفقهاء في قواعدهم:” الجمع أولى من الإهمال”، وفي ذلك يقول الدكتور وهبة الزحيلي – رحمه الله-:”وينبغي لدارسي العلوم الشرعية المتخصصة الجمع في التأليف بين الطريقة الحديثة في التأليف، باتباع المنهج العلمي في كل موضوع فقهي، ومراعاة الأسلوب السهل غير المعقد…كما ينبغي ربط الطالب الشرعي بالمصادر القديمة للتعرف على أساليبها وطرقها في معالجة الموضوع” [4]

دراسة العلوم المساعدة:

إن ارتباط العلوم الشرعية بالواقع يوجب في التكوين العلمي دراسة علوم ليست من صميما، ولكنها خادمة للاجتهاد فيها، ، فالفقيه الاقتصادي يجب عليه مع دراسة علوم الشريعة أن يدرس علوم الاقتصاد والمالية حتى يكون اجتهاده عن فهم وإدراك، وأن الفقيه السياسي يجب عليه بجوار دراسة علوم الشريعة أن يدرس علوم السياسة وكذلك في الطب والفلك وغيرها من العلوم.

ونؤكد أن ذلك في مرحلة التخصصات العليا بعد أن يدرس الطالب علوم الشريعة في سنوات التكوين، ثم عند التخصص الدقيق يدرس علوما تتعلق بالعلم الذي يريد التخصص فيه؛ ليكون قويا في علمه، قادرا على الاجتهاد فيه، ولعل الأخطاء التي تقع في الاجتهاد في مجال الفتيا في غير العبادات مردها إلى عدم التكوين في مرحلة التصور والتصديق.

وكذلك الشأن في دراسة الدعوة، فلابد من دراسة علم السنن، وعلم الحضارات، وغيرها من العلوم.

وفي مجال الفتيا يحتاج المفتي إلى دراسة علم النفس وعلم الاجتماع، وعلم الإحصاء وغيرها من العلوم التي تسهم في فهم النفس البشرية من ناحية، وفي امتلاك أدوات التفكير الصحيح من ناحية أخرى.

إن الاجتهاد ليس مجرد امتلاك أدوات لاستظهار حكم شرعي، بل هو معالجة واقعية لآفات النفس البشرية، والخلل الحاصل في المجتمعات، والاجتهاد – في هذا المقام- له دور إصلاحي، وليس مجرد بيان.

التصنيف الموسوعي للعلوم الإسلامية:

ولعل من المفيد أن يجتمع علماء كل فن من فنون العلوم الإسلامية ليكتبوا لنا موسوعة تقرب العلم من خلال إعادة صياغة ما كتب في كل علم من كتب، فيجمعون شتات ما تفرق، ويحذفون كثرة ما تكرر.

ففي الفقه مثلا، يعاد صياغة الفقه المذهبي في المذاهب الأربعة، بحيث يكون هناك مصنف واحد لكل مذهب، مأخوذ من جميع ما كتب في المذهب، بحيث يكون لكل مذهب مصنف واحد يمكن الرجوع إليه.

وكذلك الشأن في كثير في الأصول، والأشباه والنظائر، وتخريج الفروع على الأصول، والمقاصد، والقواعد، ومصطلح الحديث، والجرح والتعديل، والعلل، وعلوم القرآن، وغيرها.

ويبقى التدريب على التعامل مع الكتب التراثية في المراحل المتقدمة من التخصص الدقيق.

الإضافات العلمية المعاصرة:

يلحق بتقريب التراث أن يضاف إلى المناهج التعليمية المسائل المعاصرة والنوازل والمستجدات التي لم تكن موجودة في العصور السابقة، بحيث تسكن تلك المسائل في أبوابها العلمية، كما يضاف إلى ذلك أنه قد جدت أبواب كاملة في بعض العلوم فتضاف تلك الأبواب الكاملة أيضا، كما هو الحال في الفقه، فنحن بحاجة إلى إفراد الفقه السياسي والفقه الاقتصادي وفقه الطب، وفقه الفنون والآداب، وفقه التكنولوجيا وفقه البيئة وغيرها من الأبواب التي يمكن أن تستقل.

وفي صياغة تلك العلوم يمكن تنقية الكتب من المسائل القديمة التي لم تعد مناسبة لعصرنا، والإبقاء على الأمثلة القديمة المناسبة، فيكون التصنيف جامعا للقديم النافع والجديد الصالح وينقي المسائل القديمة مع إبقاء الصالحة ويضيف إليها أمثلة معاصرة تعبر عن روح العصر، بلغة العصر.


[1] – جامع بيان العلم وفضله (2/ 1133-1134)
[2] –  الموافقات (1/ 116-119)
[3] – كتاب التعليم والإرشاد، محمد بدر الدين النعساني، ص: 83
[4] – الكتاب الفقهي الجامعي- الواقع والطموح ، وهبة الزحيلي، ص242. ، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى