كتاباتكتابات المنتدى

معالم في طريق التمكين (6) الأخذ بالأسباب من شروط التمكين

معالم في طريق التمكين (6) الأخذ بالأسباب من شروط التمكين

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

إنّ كل  سببٍ من الأسباب التي رتب الله عليها مسببّات موقوفٌ على وجود الشروط، وانتفاءِ الموانع، ولا بدّ من تمام الشروط، وزوال الموانع ـ أي في إنتاج الأسبابِ ـ وكلُّ ذلك بقضاءِ الله وقدره، وليس شيءٌ من الأسباب مستقلاً بمطلوبه، بل لا بدّ من انضمام أسباب أخرى إليه، ولا بدّ أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصلَ المقصود، فالمطر وحدَه لا ينبِتُ النبات، إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرعُ لا يتمُّ حتّى تُصْرَفَ عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذِّي إلا بما جعل الله في البدن من الأعضاء والقوى قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ*﴾[الواقعة: 63‑64] أي: إذا كانت منكم الحراثة والبذر مع إعانتنا لكم على ذلك، فإنّ إتمامَ الزرع والإثمار، وتوفير الشروط، وإزالة الموانع، من شأننا نحن، ويؤكّد ذلك قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خلق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ *﴾[النمل: 60]. فقد ذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلق الله، ولقطع شبهة أن يقولوا: إنّ المنبِتَ للشجر الذي فيه رزقُنا هو الماء، اغتراراً بالسبب، بودر بالتأكيد بأنّ الله خلق الأسباب، وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب، وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراطٍ، فيجرف الزرعَ والشجر، أو يقتلهما، ولذلك جمع بين وقوله: تنبيهاً على إزالة الشبهة. ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا﴾ (تفسير التحرير والتنوير، 20/11).

ترك الأسباب مخالف لحقائق القرآن الكرم:

لقد ثبت بنصّ القرآن الكريم أنّ الأسباب الشرعية هي محلّ حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي في اقتضائها لمسبّباتها قدراً، فهذا شرعُ الربِّ، وذلك قدرُه، وهما خلقُه وأمرُه، والله له الخَلْقُ والأمر، ولا تبديل لخلق الله، ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالِفُ سبحانه الأسبابَ القدرية وأحكامَها، بل يجريها على أسبابها، وما خُلقتْ له، فهكذا الأسباب الشرعية لا يخرِجُها عن سببها وما شُرِعت له، بل هذه سنّـتُه شرعاً وأمراً، وتلك سنّته قضاءً وقدراً، قال تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً *﴾[فاطر: 43].

فالمسبّبات مرتبطةٌ بأسبابها شرعاً وقدراً، ولذلك فطلبُها من غير أسبابها مذمومٌ، كما أنَّ إنكار الأسباب لأن تكون موصلةً لها بأنّها أمرٌ مردودٌ، بل إنّ النتائجَ المترتبة على إنكار قانون النسبية كافية لهدم حقائق العلوم كلها، فإنّ العلوم جميعُها تستند إلى هذا القانون. (السنن الإلهية ، د. مجدي عاشور ص 158)

ونفي الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، وهو طعنٌ في الشرع أيضاً، فالله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: 164]، وقال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾[المائدة: 16]. (السنن الإلهية، د. مجدي عاشور ص 158)

والحاصل أنّه قد ثبت بالقطع أنّه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة، قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *﴾[القمر: 49]، وقال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا *﴾[الفرقان: 2] وقال تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *﴾[النساء: 19]، وقال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *﴾[البقرة: 216].

والأسبابُ التي تعارف عليها الناسُ قد تتبعها اثارُها، وقد لا تتبعها، والمقدّمات التي يراها الناس حتميةً قد تعقبها نتائجُها، وقد لا تعقبُها، ذلك أنه ليست الأسبابُ والمقدّماتُ هي التي تنشئ الاثار والنتائج، وإنّما إرادة الله هي التي تنشئ الاثار والنتائج، تهيِّءُ الظروف لتحققها، كما تنشئ الأسبابَ والمقدّماتِ ﴿لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا*﴾[الطلاق: 1]، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾[الإنسان: 30].

والمؤمن يأخذُ بالأسباب لأنّه مأمورٌ بالأخذ بها، والله هو الذي يُقدر اثارها ونتائجها، والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله، وإلى حكمته وعلمه، هو وحده الملاذ الأمين، والنجاة من الوسواس والهواجس: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾[البقرة: 268].

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” سنة الله في الأخذ بالأسباب، د. علي محمد الصلابي، واعتمد في كثير من مادته على كتاب: ” السنن الإلهية، مجدي عاشور.

 

_______________________________________________________

المراجع:

  • السنن الإلهية، مجدي عاشور
  • سنة الله في الأخذ بالأسباب، د. علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى