كتب وبحوث

مصر ‘‘القبطيَّة’’ بين الفتح الإسلامي ومجيء الرَّبّ المرتقَب 7 من 8

مصر ‘‘القبطيَّة’’ بين الفتح الإسلامي ومجيء الرَّبّ المرتقَب 7 من 8

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

تمزُّق في جسد الكنيسة بسبب الخلاف على طبيعة المسيحيَّة

يوضح المؤرّخ المسيحي المعاصر أنَّ المجامع المسكونيَّة الثَّلاثة الأولى، نيقيَّة (325م) والقسطنطينيَّة (381م) وأفسس (431م)، عنيت بالتَّصدّي للهرطقة والخلافات كانت تظهر لتُدخل على العقيدة المسيحيَّة ما ليس فيها؛ وقد استقرَّ الأساقفة من شتَّى بقاء الأرض حينها على تعميم عقيدة تساوي الآب مع الابن في الصّفات الإلهيَّة، والَّتي نصَّ عليها مجمع نيقيَّة. ومع ذلك، ظهر في القرن الخامس الميلاد خلاف جديد، بعد خلاف آريوس واثناسيوس الَّذي حسمه مجمع نيقيَّة عام 325م، وكان حول درجة اتّحاد اللاهوت والنَّاسوت في المسيح، بمعنى أوضح، هل طبيعة المسيح البشريَّة تغلب على الإلهيَّة أم العكس. أثير ذلك الخلاف بعد زعْم أحد كبار رهبان القسطنطينيَّة، يُدعى أوطاخيا (378-454م)، أنَّ للمسيح طبيعتين مستمدّتين من وَحدة إلهيَّة واحدة. سارع فلافيان، أسقف القسطنطينيَّة، حينها بإنزال عقوبة العزل والحرمان الكنسي على أوطاخيا، الَّذي استغلَّ الوساطة في إقناع الإمبراطور ثيودوسيوس الثَّاني بعقد مجمع مسكوني لمناقشة الخلاف. رضخ أوطاخيا في النّهاية للضُّغوط، وتراجَع عن رأيه الخاص باتّحاد الطَّبيعتين، الإلهيَّة والبشريَّة، في شخص المسيح، معلنًا تمسُّكه بما يُعرف بـ “الإيمان النّيقي”، نسبةً إلى إقرار مجمع نيقية عام 325م بشأن تعادُل الآب والابن في صفات الألوهيَّة. وبرغم إفلات أوطاخيا من العقاب بفضل استغلاله لوساطة من بعض أفراد البلاط الإمبراطوري، فقد أصرَّ الإمبراطور الجديد، ويُدعى مارقيان، على محاكمة ديوستوروس، بابا الإسكندريَّة، الَّذي بدأ نفوذه يتنامى، وأراد الإمبراطور البيزنطي تقليم أظافرة. لذلك، عُقد مجمع مسكوني جديد في مدينة خلقيدونية، المقابلة للقسطنطينيَّة على مضيق البسفور، لا لإعادة النّقاش حول طبيعة المسيح، إنَّما لمعاقبة ديوستوروس لاتّخاذه موقفًا مؤيّدًا للرَّاهب أوطاخيا، الَّذي تراجَع عن موقفه في المجمع السَّابق.

وبالفعل، عُقد المجمع المسكوني في خلقيدونية عام 451م، لأسباب “سياسيَّة بالدَّرجة الأولى”، كما يشير عطيَّة، حيث واجه بابا الإسكندريَّة عقوبتي العزل والنَّفي؛ لكنَّ الخسارة الأكبر كانت بفقدان كنيسة الإسكندريَّة مكانتها العريقة، على اعتبار أنَّ مؤسّسها هو القدّيس مرقس ذاته، تلميذ المسيح وكاتب أوَّل الأناجيل (صـ73). أمَّا عن موقف الكنيسة القبطيَّة من ذلك، فكان عدم الرُّضوخ لإملاءات روما والقسطنطينيَّة، واتَّخذ الكهنة موقفًا مؤيّدًا للبابا ديوستوروس، بعد أن فطن الجميع إلى أنَّ الإمبراطور مارقيان أراد أن يسحب مكانة كنيسة الإسكندريَّة لصالح كنيسة القسطنطينيَّة، بعد انفصال الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة إلى إمبراطوريَّة غربيَّة عاصمتها روما، وأخرى شرقيَّة، عُرفت بالإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، عاصمتها القسطنطينيَّة. وفق رأي المؤرّخ المعاصر، أراد مارقيان أن يكون لكنيسة القسطنطينيَّة حديثة التَّأسيس “المقام الثَّاني بعد كنيسة روما في السُّلَّم الكهنوتي”؛ ولذلك أراد إذلال بابا الإسكندريَّة ليخلع عنه مكانته ويضعف شأن كنيسته الَّتي سبقت كنيسة القسطنطينيَّة بـ 3 قرون وأكثر. ويصف عطيَّة موقف الكنيسة القبطيَّة من مجمع خلقيدونية وقراراته كالتَّالي (صـ74-75):

حتَّى يومنا هذا لم ينسَ الأقباط مأساة مجمع خلقيدونية والمرارة الَّتي خلَّفها في نفوسهم، كما أنَّهم يحتجُّون ضدَّ الرَّأي القائل بأنَّهم من أشياع أوطاخيا بالدَّرجة نفسها الَّتي يستهجنون بها نظريَّة نسطور. ولم ينكر الأقباط أبدًا وجود طبيعتين في شخص المسيح، لكنَّهم يصرُّون على وَحدة الطَّبيعة النَّاسوتيَّة واللاهوتيَّة. ومن ثمَّ فإنَّ الأقباط ينكرون على مجمع خلقيدونية صفة المسكونيَّة، ويصفون قراراته بأنَّها توصف بالقرارات الَّتي كان الآباء قد اتَّفقوا عليه في مجمع نيقيَّة المسكوني ثمَّ في مجمع أفسس فيما بعد. ولا يقبل الأقباط أن يصفهم أحدٌ بالمنافزة (أصحاب الطَّبيعة الواحدة)، لأنَّ هذا المذهب يخصُّ أتباع أوطاخيا فقط. والواضح أنَّ البيزنطيين والرُّومان قد حكوا هذا المصطلح من أجل إذلال كنيسة الإسكندريَّة وحلفائها من يعاقبة وإثيوبيين وأرمن. ولكن العجيب في الأمر أنَّ الأقباط قد أحجموا عن نفي هذا الاتّهام الَّذي أُلصق بكنيستهم، ولكأنَّهم بهذا الموقف السَّلبي قد قبلوا بعلامة تميّزهم عن أصحاب مذهب الطَّبيعتين في القسطنطينيَّة وروما.

ويستطرد المؤرّخ المسيحي بقوله إنَّ قرارات مجمع خلقيدونية أحدث صدعًا في كنيسة الرَّبّ لا يمكن رأبه إلى يومنا هذا، حيث أنَّ الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، بشقَّيها الشَّرقي والغربي، فقط أرادت بإلصاق تهمة الانفصال والانشقاق بالكنيسة القبطيَّة محو هيبة الكنيسة وإنهاء ريادتها للعالم المسيحي؛ باعتبارها سبقت كنيستي روما والقسطنطينيَّة بقرون. لم يُعترف بالمسيحيَّة في روما إلَّا عام 313م بموجب مرسوم ميلانو الَّذي أعطى للمسيحيين حقوقهم المدنيَّة، كما لم تدخل المسيحيَّة القسطنطينيَّة إلَّا بعد اعتراف الإمبراطور قسطنطين العظيم بها عام 321م تقريبًا. أمَّا عن أهمّ نتائج مجمع خلقيدونية هو انقسام كنائس العالم حينها إلى قسمين: كنائس غير خلقيدونية، أي تؤمن بأنَّ للمسيح طبيعة واحدة اتَّحد فيها اللاهوت بالنَّاسوت دون امتزاج أو تغيير، وهي كنائس مصر والحبشة وسوريا وأرمينيا؛ وكنائس خلقيدونية، أي تؤمن بأنَّ للمسيح طبيعتين ومشيئتين، بشريَّة وإلهيَّة، ولم يتَّخذ ذلك النَّهج إلَّا كنيستا روما والقسطنطينيَّة حديثتا التَّأسيس. تعرَّضت مصر من جرَّاء ذلك الخلاف المذهبي لغضب الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، وظلَّ ذلك الخلاف السَّبب الظَّاهري لتوتُّر علاقة مصر بالقسطنطينيَّة، وكأنَّه كان هناك تعمُّد لإبراز ذلك الخلاف لإخفاء أنَّ حالة النُّفور المصري من القسطنطينيَّة كانت بسبب الهيمنة البيزنطيَّة على البلاد واستنزاف ثرواتها لصالح الإمبراطور والطَّبقة الحاكمة من أعوانه. ووصل الأمر إلى حدوث انشقاق داخل الكنيسة القبطيَّة نفسها، بعد تعيين الإمبراطور البيزنطي بطريركًا مواليًا له بعد عزْل ديوستوروس تحت تهديد السّلاح، أُطلق عليه البطريرك الملكاني، أي الموالي للطَّبقة المالكة. وقد أصرَّ المصريون حينها على انتخاب بطريرك معارض للهيمنة البيزنطيَّة ولقرارات مجمع خلقيدونية.

لم تنجح محاولات رأب الصَّدع بين فريقي الملكانيين، أتباع الإمبراطور، والمنافزة، رافضي قرارات مجمع خلقيدونية، حتَّى وصل الإمبراطور جستنيان (527-565م) إلى الحُكم، ليبدأ الإمبراطور الجديد حينها محاولات لإرضاء المنافزة، تفاديًا لثورتهم، في فترة كان المنافزة قد كوَّنوا قوَّة من الرُّهبان كان بإمكانها مواجهة جيوش الإمبراطوريَّة وأعوانها من أتباع المذهب الملكاني. وقد اضطرَّ جستنيان نتيجة لذلك إلى تقسيم البلاد إلى قسمين، على كلّ منهما حاكم بيزنطي، تخفيفًا عن أيّ حاكم واحد قد يواجه تمرُّدًا شعبيًّا. غير أنَّ قرار جستنيان أسفر عن مزيد من الفوضى بسبب تنافُس حاكمي الشَّمال والجنوب على الثَّروات والمزايا. وبرغم تلك الفوضى، نجح جستنيان في إيفاد بعثات تبشيريَّة إلى النُّوبة، ضمن خطَّته للقضاء على الوثنيَّة جنوبي مصر، وقد أمر كذلك بإغلاق معبد إيزيس في جزيرة فيلة بأسوان ومعبد آمون في واحة سيوة، لتُبنى في هذين الموقعين كنائس جديدة. ولعلَّ من أهمّ منجزات الإمبراطور جستنيان في تلك الفترة تشييد دير سانت كاترين في شبه جزيرة سيناء، لكنَّ الاهتمام ببناء الكنائس والأديرة لم يصد الاعتداءات الخارجيَّة أو ينهِ التَّناحر الطَّائفي بين المختلفين حول طبيعة المسيح.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى