تقارير وإضاءات

محمد إلهامي: نصرة الرسول واجب الأمة و”الهيئة” استثمار للحراك الشعبي

محمد إلهامي: نصرة الرسول واجب الأمة و”الهيئة” استثمار للحراك الشعبي

خلال السنوات الأخيرة تصاعدت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب وتأجيج كراهية المسلمين، وربط الإسلام زورا بالإرهاب والتطرف، ومن مظاهر هذا كانت جرائم الإساءة للرسول الكريم ﷺ بعدة وسائل كالرسوم المسيئة، قوبل ذلك بحملات شعبية إسلامية تبنت خيار المقاطعة للمنتجات الفرنسية، وهي تتم عامها الأول، واستثمارا لهذا الدور الشعبي جرى مؤخرا تدشين الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام، لكن كان لابد من استعراض الأمر تاريخيا وكيف تعامل الرسول مع من أساء إليه؟ ثم ما هو سر العداء الفرنسي الحالي، وكذلك الدور الذي يمكن أن تقوم به الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام؟

ولهذا كان الحوار التالي مع الباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية محمد إلهامي وهو أيضا عضو الأمانة العامة للهيئة.

من السيرة.. ما أبرز مواقف الإساءة للرسول وكيف تعامل معها النبي الكريم؟

– إن أشد الناس بلاء الأنبياء، فسير الأنبياء عامة هي سير الرجال الذين تحملوا الإساءة والعذاب والأذى في سبيل الرسالة، ومثلهم في هذا الصالحون، فهم قد ورثوا طريق الأنبياء بما فيه من تكاليف ومشاق وصعوبات، ونحن إذا راجعنا السيرة فسنجد أن النبي ﷺ سمع الأذى لأول مرة في قومه منذ بلغ الرجولة يوم أعلن الرسالة، فقيل له “تبا لك، ألهذا جمعتنا؟”، وسرعان ما تحول النبي ﷺ في يوم واحد فقط، هو يوم إعلانه الرسالة، من “الصادق الأمين” إلى “ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكذاب… إلخ”..  وهذه من أشد الأمور على من عاش شريفا نسيبا معظما في قومه.

ثم استمر العنت والأذى، فكان ﷺ كما قال عن نفسه أول من أوذي وأول من أخيف وأول من جُوِّع، كما في الحديث الشريف “لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أُخِفْتُ في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد، إلا ما وارى إبط بلال”.

وقد تعامل النبي مع الأذى بما تتطلبه الحكمة، فبالصبر والتحمل أحيانا في بداية الدعوة، وبالصفح والعفو أحيانا بعد أن صار قائد أمة. ولكن المهم هنا أن العلماء فرقوا بين أمرين: بين موقف النبي ممن سبه وآذاه، وبين موقف الأمة ممن سب النبي أو آذاه، فالنبي ﷺ له أن يعفو عمن سبه، بينما من واجب الأمة أن تقوم لمن سبه، فلا مجال لأن تصفح الأمة عمن سب نبيها بحال من الأحوال، وهذا الأمر مبسوط مفصل في الكتب الفقهية التي تناولت هذا الموضوع.

لو تستعرض لنا محطات تاريخية شهدت إساءات للرسول وكيف تعامل معها المسلمون؟

– حين كانت الأمة قوية لم يكن شأن سب الرسول مباحا أو متاحا من الأصل، ولا كان يستطيع أحد أن يتجرأ على اقترافه، بل تروي بعض المصادر الغربية في الأندلس أن رجلا سب النبي أمام القاضي المسلم فتعامل معه على أنه مجنون، وصار يسأله ليتأكد من سلامة عقله، فأصر الرجل على موقفه، فحبسه ليتأكد ما إن كان ذلك موقفه فعلا أم هي من نوبات الجنون، فلما تيقن من أنه اقترف هذا واعيا أمر بقتله. هذا الرجل تعرفه التواريخ المسيحية باسم الفارو القرطبي، ويعد في تواريخهم طليعة الشهداء المسيحيين في مقاومة ما يسمونه الاحتلال الإسلامي.

ما يهمنا الآن أن المسلمين كانوا حساسين جدا تجاه التعرض لمقام النبي حتى أن الإساءة إليه بالسب لم تكن متصورة، بل كانت عملا يدل على حالة مرضية، ويؤكد هذا ما جاء في أخبار القضاة المسلمين الذين حكموا بقتل من صدرت عنه الإساءة للنبي أو التعريض به.

طبعا نحن الآن في زمن صارت فيه الأمة مستضعفة، وهذا بنفسه يتحكم في معنى المقدسات، فحتى حرية الرأي والتعبير التي صارت قيمة مقدسة في الزمن المعاصر، تتوقف تماما عند مقدسات الأقوياء، فلا يمكن لأحد التشكيك في المحرقة النازية، أو سب الدولة أو احتقار الدستور أو إهانة العلَم الوطني.. فالواقع أن القوي لا يسمح بانتهاك مقدساته، حتى لو أن حضارته تقوم على أصل “حرية الرأي والتعبير”!!

كيف ينظر الغرب لمقام ومكانة الرسول الكريم؟ وهل هنا تختلف نظرة المفكرين والعلماء عن تلك الصورة التي يتم ترويجها للعوام في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي؟

– هذا سؤال غاية في الأهمية لأنه يضعنا أمام ثلاثة أمور مختلفة؛ الأمر الأول: أن الغرب كدولة ونظام وثقافة اجتماعية موروثة وسائدة وشائعة ينظر إلى النبي ﷺ نظرته إلى العدو الخطير الذي أخرج أمة تهدد وجوده، ويتحدث كثير من الغربيين أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي هدد وجود الحضارة الغربية لمرتين على الأقل، كما حصل في الموجة الأولى للفتوحات الإسلامية في صدر الإسلام والتي وصلت إلى باريس، أو في الموجة الثانية التي كانت على يد الدولة العثمانية ووصلت إلى فيينا.

والأمر الثاني: هو موقف المثقفين والباحثين والدارسين الذين استطاعوا أن يقرأوا المصادر الأصيلة عن النبي، وأن يبحثوها، وهؤلاء تختلف مواقفهم من النبي ﷺ كما تختلف مواقف أي إنسان عرف الحق، فمنهم من آمن بالنبي وأسلم، ومنهم من ظل مقيما على عداوته وحقده، ومنهم من أنصف النبي وهو إنصاف تتفاوت فيه الدرجات والأحوال.

والأمر الثالث: أن هؤلاء الباحثين والمثقفين استطاعوا تكوين موقف مستقل عن الثقافة الجمعية الموروثة والسائدة، وهي الثقافة التي تكونت جذورها في أزمنة الحروب الصليبية -كما يتفق على ذلك المؤرخون والباحثون في العلاقات الإسلامية الغربية-  ولكنهم رغم استقلالهم في تكوين مواقفهم، إلا أنهم نادرا ما يستطيعون اتخاذ موقف مضاد  ضد مجتمعهم، لأن شبكة القوى والعلاقات داخل المجتمعات الغربية لا تسمح بإنصاف الإسلام ونبيه، ومن يتخذ منهم هذا الموقف فإنه يحكم على نفسه بالمعاناة ومواجهة الصعوبات، فتكون الثمرة النهائية لجهد الباحثين والمثقفين والمؤسسات الأكاديمية هي ما يخدم السياسة الغربية المهيمنة، ويمكن في هذه المسألة مراجعة تجربة المستشرق الفرنسي المعاصر فرنسوا بورجا.

خلال العقدين الأخيرين ظهرت موجة الرسوم المسيئة للرسول الكريم في عدة دول غربية كالدنمارك وفرنسا قوبلت بهبة شعبية إسلامية.. هل ترى أنه تم استثمار الدور الشعبي بشكل صحيح في هذه الأزمة؟

– السؤال المهم هو: من يستثمر؟.. المشكلة أن هذه الأزمة الأخيرة مع فرنسا لم تتفاعل معها إيجابيا إلا عدد محدود جدا من المؤسسات الرسمية، بينما ظلت الحكومات تتعامل مع فرنسا أو حتى تدعم موقفها بشكل فجّ لم يكن يحدث في الماضي. إن الحالة السياسية العامة في الدول العربية والإسلامية تقف من الهبات الشعبية موقف التجاهل أو حتى موقف العداء، مع أنها بالمقياس المادي والاقتصادي البحت فرصة مهمة لتنمية الصناعات المحلية وتنشيط المنتجات البديلة وتنويع مصادر الاعتماد الاقتصادي.

ومما يؤكد ما نقول أن الهبات الشعبية نفسها إنما تظهر قوتها في مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تستطيع أن تتحول إلى فعاليات حقيقية في الواقع، بمعنى أنه إن لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة لظننا جميعا أن الأمة خانت حب النبي ﷺ وانصرفت عن التفاعل مع الإساءة إليه. وهكذا نرى أن المشهد الحالي لا يعبر عن حقيقة مشاعر الأمة ومواقفها.

مؤخراً، تبنت فرنسا بشكل رسمي الرسوم المسيئة للرسول بحجة حرية التعبير، وسنت عدة قوانين للتضييق على المسلمين.. برأيك، لماذا تبنت فرنسا هذا الموقف؟

– الشيء من معدنه لا يُستغرب، فالافتراس من طبائع الوحوش، والتحليق من طبائع الطيور، وفرنسا عريقة في معاداة الإسلام، منذ 1300 عام، عندما توقفت الفتوحات قبل باريس في معركة بواتيه، منذ ذلك الوقت ترى فرنسا أنها قلعة المسيحية الكاثوليكية، حتى بعد أن تعلمنت في خضم الثورة الفرنسية، فإنها لم تتخل عن روحها الصليبية، حتى قيل بحق: “صليبيون بالنهار، علمانيون بالليل”، ويتسم السلوك الفرنسي تجاه الإسلام بعدائية عميقة ومكشوفة، فحتى الإنجليز والأمريكان -مع كل عدائيتهم- لم يكونوا بهذه الفجاجة الفرنسية في التعامل مع المسلمين سواء في داخل بلادهم أو في البلاد التي احتلوها. ويجب ألا ننسى أن الحروب الصليبية إنما كان نصيب الأسد فيها هو لفرنسا. فمنها انطلقت، وأغلب المقاتلين فيها من الجنود والأمراء كانوا فرنسيين، ولذلك غلب عليها في التواريخ العربية اسم “الفرنجة”.

فالسؤال عن سر العداء الفرنسي يشبه السؤال عن سر افتراس الوحش أو عن سر تحليق الطير، ثم نضيف إلى ذلك أن فرنسا الآن تشعر بالتهديد وتضاؤل الدور، فلم تعد فرنسا دولة مؤثرة في السياسة العالمية، بل حتى تراجع دورها في أوروبا، ومن المتوقع ممن يشعر بالهزيمة أن يبدأ في إثارة المعارك وافتعال الأزمات ليحصل على الدعم وليحقق التحشيد، والمسلمون هم الطرف الأضعف الذي يمكن خوض معركة مأمونة العواقب معهم، إذ ليس لهم من يدافع عنهم أو من يهدد مصالح فرنسا إذا استهدفتهم.

رداً على موقفها.. ظهرت حملة شعبية تدعو لمقاطعة المنتجات الفرنسية، فما تقييمك لهذه لحملة؟

– لا شك أن حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية كانت أقوى مما تخيل الجميع، واستطاع الناشطون على مواقع التواصل ابتكار العداد اليومي للمقاطعة، وظل وسم المقاطعة وسما متصدرا طوال أيام السنة، التي كانت حافلة بالأحداث الكبيرة والخطيرة، وحتى لو اختلف بعض الناس حول التأثير الحقيقي للمقاطعة، فمن المؤكد أنه كان تأثيرا مهما، ومن أجل ذلك تحركت الخارجية الفرنسية كثيرا لمحاولة حصار هذه الحملة.

ولكن النجاح الأهم هو المعنى التربوي والنفسي والإيماني لهذه المقاطعة، فحتى لو لم تكن المقاطعة مؤثرة بأي شكل، فإن استعادة المسلم لكرامته وحميته وغيرته، وتعبيره عن ذلك ولو بمجرد الامتناع عن الشراء، إن مجرد ذلك هو نجاح عظيم ومهم نحتاجه بشدة، ففي اللحظة التي نفقد فيها غيرتنا وحبنا لنبينا أو استهانتنا بالإساءة إليه نكون قد انتهينا وسقطنا في اختبار الإيمان أولا، قبل أن نسقط في التبعية الكاملة لأعدائنا! وهي تبعية اقتصادية وثقافية ونفسية شاملة.

هل يمكن تكرار هذا النموذج من الحملات مع الدول التي تسيء للإسلام أو تضطهد المسلمين لديها كالهند؟

– أكرر على نفس المعنى: تظل المقاطعة سلاحا تربويا ونفسيا وإيمانيا، وهو مهم جدا جدا، ويمكن استعماله في كل موقف، ولكن الحديث عن التأثير الاقتصادي للمقاطعة تجاه الدول التي تضطهد المسلمين، يحتاج إلى قياس كل حالة بمفردها، لاختلاف الظروف والتفاصيل والمنتجات والقدرة على التخلي عنها وغير ذلك من العوامل.

مؤخراً، دشنتم الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام، من أين جاءت الفكرة؟ وماذا ينتظر من أدوار يمكن أن تقوم بها الهيئة؟

– يعود الفضل في هذه الفكرة للشيخ محمد الصغير، عضو الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقد كان من أهم وأنشط المتبنين لحملة المقاطعة على مواقع التواصل، وهو لشهرته وكثرة متابعيه مثَّل ضلعا مهما في هذه الحملة. ثم طرح الفكرة على بعض من المشايخ الذين شاركوه هذا الهمّ بحملة المقاطعة، فانتهى الأمر إلى هذه الفكرة.

وإذا أردنا اختصار دور الهيئة، فهي أنها تحاول أن تكون تجميعا لمجهودات نصرة النبي ﷺ بحيث تصل في النهاية إلى تجريم الإساءة إليه في أي مكان، وهو ما يستدعي في الوقت نفسه القيام بحملات للتعريف بالنبي واستنهاض الهمم في نصرته، وإتاحة المجال للطاقات المغمورة والكامنة لتنشط في نصرة النبي، وتوجيه الأنظار والأبصار إلى هذا الموضوع، ربما يمكن أن نصف مهمة الهيئة بأنها “الدبلوماسية المحمدية”، فلو كان ثمة دولة إسلامية واحدة تعبر عن الأمة لكانت من أوائل مهماتها التعريف بالنبي ونصرته وتحشيد الطاقات في سبيله.

المصدر: مجلة المجتمع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى