كتاباتكتابات مختارة

غزة المحاصرة .. عوامل الصمود والثبات

غزة المحاصرة .. عوامل الصمود والثبات

بقلم أحمد قنيطة

تمر الأيام وتمضي السنين ويستمر الحصار الظالم على غزة في عقده الثاني على التوالي، غارساً خنجره المسموم في ظهور الفلسطينيين وخواصرهم، سعياً في كسر إرادتهم وأملاً في تهشيم صمودهم، ورغبةً في عزل المقاومة الفلسطينية عن حاضنتها الشعبية التي ما كلّت ولا ملّت من بذل الغالي والنفيس في سبيل تحرير المسرى وتحطيم قيد الأسرى، وصبرت وصمدت في الدفاع عن فكرة الجهاد ومشروع المقاومة، الذي يعتبر السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق والمحافظة على الثوابت واسترداد المقدسات وطرد الغزاة المحتلين.

فقد أيقن الشعب الفلسطيني تمام اليقين بعد 25 عاماً من المفاوضات العبثية، أن الحلول السلمية المزعومة التي انتهجتها سلطة أوسلو لن تجدي نفعاً مع الاحتلال الذي لا يفهم إلا لغة القوة، وأنها لم تقدّم له سوى مزيدٍ من الذل والهوان، بعد أن تنازلت فتح وسلطتها عن 78% من فلسطين أملاً في الوصول إلى سلام مع الكيان الغاصب، في المقابل ضرب الاحتلال الصهيوني بكل القرارات الدولية “المجحفة” عرض الحائط، ومضى في مشاريع التهويد للمقدسات وابتلاع الأراضي بالمستوطنات، وليس انتهاءً بما يسمى “صفقة القرن” التي كانت بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقتها الإدارة الأمريكية على ما يُسمى بمشروع “حل الدولتين” الذي ما زال يحلم به محمود عباس رئيس سلطة أوسلو.

في المقابل، حققت المقاومة الفلسطينية في تلك الحقبة من الزمن العديد من الإنجازات التي دفعت بالشعب الفلسطيني لاحتضانها والالتفاف حولها والمراهنة عليها، حتى أمدّها بالأبناء وفلذات الأكباد، وجعل من دعمه اللامحدود لرجالها ومجاهديها سياجاً يحميها من كيد المعتدين وخيانة الخائنين وعبث العابثين، أولئك الذين أرادوا أن يمسخوا وعي الشعب المجاهد بأساليبهم الخبيثة وطرائقهم الحقيرة وعلى رأسها “الحصار الصهيوني” و”العقوبات الفتحاوية” التي استهدفت الحاضنة الشعبية للمقاومة، وتركت آثاراً كارثية على تفاصيل الحياة للمواطن الغزي من مأكل وملبس ومسكن ومصاريف الأبناء وحليب الأطفال ودواء المرضى.

 المقاومة الفلسطينية في غزة استطاعت الصمود على مدى عقود أمام محاولات العدو كسر شوكتها وتشويه صورتها، حتى تمكّنت بفضل الله من تحرير غزة وطرد جيش الاحتلال ومغتصبيه منها عام 2005 م، واستمرت بالقتال وتنفيذ العمليات النوعية ضد جيش العدو ومعسكراته المحيطة بغزة لسنوات، حتى تمكنت من عقد صفقة وفاء الأحرار التي استطاعت المقاومة من خلالها تحرير 1027 أسير وأسيرة من الفلسطينيين مقابل الجندي الصهيوني “شاليط” عام 2011م، ناهيك عن مراكمة القوة العسكرية وتطويرها لتحقيق نوع من توازن الرعب مع العدو، ما انعكس على الأداء العسكري للمقاومة التي استطاعت قصف “تل أبيب” وحيفا والقدس المحتلة معظمها بصواريخ محلية الصنع، وتسيير الطائرات المسيرة فوق مبنى وزارة الدفاع الصهيونية، وخطف المزيد من الجنود الصهاينة بانتظار عملية تبادل أسرى جديدة، والأهم من ذلك هو تقديم نموذج مميز قابل للصمود والثبات لشعوب الأمة، يبعث فيها الأمل والإرادة أنها قادرة أخذ زمام المبادرة والعمل على التحرر من الاحتلال والأنظمة القمعية العميلة.

فكيف استطاعت غزة المحاصرة الصمود في وجه الحصار الصهيوني الخانق المستمر منذ 12 عام، والذي تخلله وقوع ثلاث حروب طاحنة دون أن يستطيع العدو السيطرة على شبرٍ واحدٍ منها؟!

دأبت الحركة الإسلامية في فلسطين – وبالتحديد في قطاع غزة – منذ مهدها على بناء قاعدة جماهيرية صلبة، يمكن الاعتماد عليها والثقة بها لاحتضان مشروع الجهاد وفكرة المقاومة، فبدأت بالعمل من أجل بناء جيل إسلاميٍ فريدٍ، مؤمنٌ بعدالة قضيته، مستعدٌ للتضحية في سبيلها، جيلٌ يرفض الذل والهوان، ويأبى الخضوع والخنوع، ويبذل الغالي والنفيس مهما عظمت التضحيات وتكاثرت الجراح وادلهمّت الخطوب، لذلك كان لا بد من تهيئة المجتمع وتبصيره بعظيم الأمانة الملقاة على عاتقه، قبل الانتقال به إلى غمار العمل العسكري الذي لم تكن الظروف قد نضجت بعد لانطلاقه إلا بعد عام 1987م حين أعلنت الحركة الإسلامية في بيانها الأول عن انطلاقة حركة حماس، التي عمل جناحها العسكري تحت مسميات مختلفة حتى عام 1991م حين تم الإعلان بشكل رسمي عن الجناح العسكري لحماس تحت اسم “كتائب الشهيد عز الدين القسام”، ايذاناً بانطلاق العمل العسكري للحركة ضد العدو الصهيوني بهدف تحرير كامل التراب الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني، أما قبل ذلك فقد كان التركيز منصباً على العمل الدعوي والاجتماعي والثقافي والتوعوي.

 فكانت عوامل الصمود والثبات التي عملت الحركة الإسلامية على زرعها وترسيخها في نفوس وعقول المؤمنين بفكرتها والسائرين على نهجها ترتكز على عدة محاور:

المحور الإجتماعي:

أولت الحركة الإسلامية في بدايات عملها التنظيمي اهتماماً منقطع النظير تجاه العمل الاجتماعي بهدف تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي للناس، فكان الإعلان عن تأسيس جمعية المجمع الإسلامي عام 1973م بقيادة الشيخ أحمد ياسين – تقبله الله – وثلة من إخوانه المجاهدين، ثم تأسيس الجمعية الإسلامية عام 1976م حيث اهتمت الجمعيتان بغرس المبادئ الإسلامية في نفوس الشباب الفلسطيني، وتقديم العون والمساعدة للعائلات الفقيرة من خلال لجان الزكاة المنتشرة في مختلف مناطق قطاع غزة، وكذلك ركّزت الجمعيتان على الاهتمام بالجوانب الثقافية والفنية والرياضية لملء فراغ الشباب الفلسطيني بالأنشطة النافعة المفيدة، فافتتحت مراكز تعليم القرآن الكريم ومحو الأمية والمكتبات العامة والنوادي الرياضية والثقافية وغيرها.

تطورت الأساليب والأدوات مع مرور الوقت وأبدعت الحركة الإسلامية في العمل على تقوية أواصر المحبة والتفاهم بينها وعموم أبناء الشعب الفلسطيني على مختلف توجهاتهم، وتجد الإشارة هنا إلى أن حركة حماس قامت بحملة زيارات لكل بيت في قطاع غزة على اختلاف أفكارهم وانتماءاتهم السياسية بما فيهم العائلات المسيحية عام 2009م تحت عنوان “حملة مودة” استمعت خلالها الحركة لهموم الناس ومشاكلهم وانطباعاتهم، واستمع الناس لها وسمعوا منها، ما أزال الكثير من الغبش والشبهات والتصورات الخاطئة عند الناس عن نظرة الحركة الإسلامية للمجتمع والحياة، وكذلك قامت الحركة بحملة مشابهة خلال شهر أغسطس الماضي حملت اسم “حملة تواصل” استهدفت فيها زيارة تجمعات ودواوين العائلات والعشائر في قطاع غزة في إطار مد جسور التواصل وتعزيز التلاحم والتكاتف مع التجمعات العائلية والمخاتير والأعيان.

المحور العسكري:

بدأ نشاط الجناح العسكري لحماس بوسائل المقاومة البدائية “الحجر والسكين والمولوتوف” ثم المسدس والبندقية، فالعبوات الناسفة والمتفجرات، مروراً بالعمليات الاستشهادية، وليس انتهاءً بتصنيع وتطوير الصواريخ وقذائف الهاون والطائرات المسيّرة والصواريخ المضادة للدروع وبنادق القنص والعبوات الناسفة، ناهيك عن الإبداع في الحرب التقنية والهجمات الإلكترونية التي كان أحد أهم ملامحها هو اختراق “سايبر القسام” لحسابات جنود وضباط العدو، والحصول على معلومات أمنية وعسكرية مهمة، كذلك الاهتمام باستحداث قوة بحرية قادرة على إدخال البحر – الذي كان محرماً على المقاومة الفلسطينية-  في دائرة الصراع مع العدو الصهيوني الذي يمتلك تفوّق عسكري رهيب في هذا المجال، ومع ذلك استطاعت قوات “الكوماندوز البحري القسامية” تنفيذ عملية نوعية لأول مرة في تاريخ المقاومة الفلسطينية على ساحل عسقلان المحتل بمهاجمة قاعدة “زيكيم العسكرية البحرية”.

وعلى صعيد التنسيق العسكري مع الفصائل الفلسطينية، حرصت حركة حماس على تنفيذ عمليات مشتركة مع مختلف الفصائل الفلسطينية، للتأكيد على أن التنافس والاختلاف بين الفصائل على صعيد المواجهة مع الاحتلال هو تنافس شريف واختلاف تنوّع لا اختلاف تضاد، فكانت العمليات المشتركة بين كتائب القسام وسرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى وألوية الناصر صلاح الدين وغيرهم، ولقد كانت عملية “الوهم المتبدد” التي نفذتها “كتائب القسام وألوية الناصر صلاح الدين وجيش الإسلام” وأسرت خلالها المقاومة الجندي “شاليط” الذي كان الورقة الرابحة في صفقة “وفاء الأحرار” هي صورة من أروع الصور التي رسمتها المقاومة للتأكيد على أهمية التوحّد والتفاهم والانسجام بين الفصائل الفلسطينية، وهو ما نتج عنه تشكيل غرفة عمليات مشتركة عام 2017م لمتابعة أحداث المسجد الأقصى، والتي تطوّر التنسيق بينها إلى أعلى المستويات خلال جولات التصعيد المصاحبة لمسيرات العودة وكسر الحصار خلال العامين الماضيين، حيث أصبحت العمليات العسكرية للمقاومة الفلسطينية بتنسيق تام يستند إلى اتفاقية دفاع مشترك لأول مرة، بعد أن كان العدو في السابق يستفرد بكل فصيل على حدة.

المحور السياسي:

دخلت حركة حماس معترك العمل السياسي منذ الإعلان عن انطلاقتها، وسعت لمد جسور التواصل بينها وبين القوى المختلفة داخلياً وخارجياً لتشكيل جبهة سياسية قوية، قائمة على دعم فكرة الجهاد ومشروع المقاومة ونبذ الأفكار الانهزامية التي تدعو للحلول السلمية للقضية الفلسطينية، وقد نجحت في محطات وفشلت في أخرى تبعاً لتطور الفكر السياسي ولطبيعة المراحل المختلفة لدى حركة حماس وقادتها، ولكن الحدث الأبرز في النشاط السياسي للحركة هو قرارها خوض الانتخابات البرلمانية عام 2006م والفوز بأغلبية أصوات الناخبين الفلسطينيين، وهو ما أعطاها الحق في تشكيل الحكومة الفلسطينية، وما تبع ذلك من فرض الحصار الدولي الصهيوني على قطاع غزة، وحدوث حالة الانقسام والاقتتال الفلسطيني بين حركتي “حماس وفتح”، والحروب الصهيونية الثلاث التي شنها العدو الصهيوني على قطاع غزة، كل ذلك بسبب رفض المجتمع الدولي والعربي وحركة فتح القبول بنتائج الانتخابات، ودعوتهم حركة حماس للاعتراف بـ “إسرائيل” وقبول الاتفاقات الدولية المرتبطة بالقضية الفلسطينية ونبذ العنف “المقاومة”، وهو ما رفضته حماس جملةً وتفصيلا.

حاولت حماس بالتشاور مع الفصائل الفلسطينية تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد فوزها في الانتخابات لكنها لم تنجح في مساعيها، إما بسبب تعنّت الفصائل ورفضها المشاركة لتوريط حماس، أو بسبب تمترس حماس خلف بعض القضايا؛ كما يرى بعض المراقبين، فقررت تشكيل الحكومة منفردة ظناً منها أنها تسطيع تأدية واجباتها معتمدة على الكفاءات العلمية والشخصيات السياسية المنتمية لها، وهو ما أشار إليه الأستاذ خالد مشعل إبان الإعلان عن الوثيقة السياسية لحركة حماس مؤخراً حيث قال “أخطأت حماس عندما استسهلت حكم القطاع بمفردها بعد أحداث الانقسام الفلسطيني … وظنت بأنه أمرًا ميسورًا ثم اكتشفت بأنه صعب”، وشدّد مشعل على أنه لا يمكن التفرد بالقرار السياسي والنضالي، والتحدي الذي يُواجه الإسلاميين الآن هو تفعيل مبدأ الشراكة مع الغير.” ، ولكن تعقيدات المشهد الفلسطيني وتشابك القوى الفاعلة فيه عربياً ودولياً، كان يتطلب من حماس المزيد من الجهد والكثير من العقلانية لإقناع الفصائل بضرورة المشاركة الفاعلة في تحمّل المسؤولية للخروج من حالة العزلة التي فرضتها القوى الدولية والعربية على الحكومة الفلسطينية التي شكلتها حماس، ناهيك عن أن الفصائل أيضاً لم تكن متشجعة للمشاركة مع حركة مصنفة على لوائح الإرهاب الدولي.

ومع دخول القضية الفلسطينية في مرحلة خطيرة وغير مسبوقة؛ يعمل العدو فيها على تصفية ثوابت القضية الفلسطينية من خلال ما سُميّ بـ “صفقة القرن” استشعرت حماس والفصائل مجتمعة خطورة الموقف وسعت لإيجاد أرضية مشتركة للحوار والتفاهم والعمل المشترك، ونجحت الفصائل بتشكيل جبهة سياسية موحدة مكونة من جميع القوى الفلسطينية -باستثناء حركة فتح- لمواجهة النزيف المستمر للقضية بسبب عنجهية الاحتلال من جهة، وتفريط سلطة أوسلو من جهة أخرى، وهو ما انعكس بشكل إيجابي كبير على الأداء العسكري والسياسي والإعلامي والجماهيري لفصائل المقاومة.

كانت هذه إضاءات سريعة على أهم المحاور التي خاضت غمارها المقاومة الفلسطينية في مختلف مراحل الصراع مع الكيان الصهيوني، والتي ساعدتها بعد توفيق الله في الصمود والثبات أمام جبروت العدو الصهيوني وتآمر المجتمع العربي “الرسمي” والدولي، علماً أن هناك محاور أخرى لا تقل أهمية كالعمل الأمني والإعلامي والجماهيري ولكن المقام لا يتسع للحديث فيها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى