سلاح الدعاء على الطغاة

سلاح الدعاء على الطغاة

بقلم د. جاسر عودة

يروي التاريخ أن الإمام المحدث الفقيه العابد سفيان الثوري كان ينكر على أمراء الدولة العباسية ظلمهم وينصحهم كلما رآهم، فأراد أبو جعفر المنصور (الخليفة) أن يسكته، فعرض عليه منصباً للقضاء في العراق. ولما رفض سفيان أصر أبو جعفر وهدد سفيان بالقتل، ففرّ سفيان هارباً إلى أن وصل إلى مكة. ولما علم أبو جعفر أنه في مكة أمر بالقبض عليه وأن يُصلب على صليب خشبي على باب الحرم الشريف في مكة حتى يأتي أبو جعفر ويقتله بيده، وكان أبو جعفر وقتها في طريقه للحرم قائداً للناس في موسم الحج. فلما سمع سفيان أصوات الجند يبحثون عنه في مكة توجه للكعبة فتعلق بها ودعا الله تعالى فقال: (اللهم إني أقسمت عليك ألا يدخل أبو جعفر مكة). فوقع أبو جعفر في نفس الساعة من صهوة فرسه على الطريق قريباً من مكة فمات فوراً. وحُمل أبو جعفر إلى مكة ميتاً وكان سفيان فيمن صلى على جنازته في الحرم! وقد علق الإمام الذهبي رحمه الله على هذه القصة بعد أن روى تفاصيلها فقال: (وهذه كرامة ثابتة).
وحين رفض سعيد بن جبير التابعي الجليل ترغيب ثم ترهيب الحجاج بن يوسف الثقفي سفاح بني أمية، أمر الحجاج بقتله بالسيف، فضحك سعيد فقال الحجاج: ما أضحكك؟ قال سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك. قال الحجاج لجنده: اقتلوه. فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. قال الحجاج: اصرفوه عن القبلة، فصرفوه عنها. فقال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله، فصرخ الحجاج: كبوه على وجهه. فقال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. فأشار الحجاج إلى جنده أن يذبحوه. فنظر سعيد إلى السماء وقال: (أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة)، ودعا على الحجاج فقال: (اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي). وقد كان. فلم يلبث الحجاج بعد دعاء سعيد عليه إلا أربعين يوماً، كان لا ينام فيها إلا ويرى سعيداً في خياله يأخذ بثوبه أو برجله ويقول: يا عدو الله! فيم قتلتني؟ فيستيقظ فزعاً، ثم مرض الحجاج بعدها فمات. ولحق القاتل بالمقتول، وعند الله تجتمع الخصوم.
وحين طغا الملك الأموي الثاني يزيد بن معاوية فقتل جنوده الحسين بن علي رضي الله عنهما شر قتلة، وقتل جنوده كثرة كاثرة من خيرة الصحابة والقرابة والتابعين في حرة المدينة، بل أباح المدينة نفسها لجنوده يعيثون فيها ثلاثة أيام، ثم أرسل جنوده لغزو مكة للظفر بعبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقد احتمى بالكعبة، أصابته دعوات الداعين ومات فجأة شاباً خلال نفس الأيام التي اعتدى جنده فيها على الحرم. وقد وصل لنا من التاريخ الذي رواه الثقات كيف خطب خلَف يزيد على الخلافة ابنه معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) فقال: (… ثم قُلد أبي الأمر وكان غير أهل له ونازع ابن بنت رسول الله فقُصف عمره وانبتر عقبه وصار في قبره رهيناً بذنوبه)، ثم بكى معاوية الثاني وقال: (إن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبئيس منقلبه وقد قتل عترة رسول الله وأباح الحرم وخرب الكعبة، ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلد مرارتها) – راجع مثلاً الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي وسير أعلام النبلاء للذهبي وغيرهما.
وقد سمعت من عدد من المصادر المباشرة أن عمي القاضي الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله حين ساقه جنود الطغاة في مصر للإعدام سنة 1954م بتهم زائفة وبعد محاكمة هزلية مشهورة، قدموا له ورقة مطبوعة إذا وقع عليها أفرجوا عنه وأوقفوا حكم الإعدام، وكان فحوى الورقة رسالة لحاكم مصر في ذلك الزمان فيها اعتذار عن آراء الأستاذ وكتاباته ومواقفه وأنه يتراجع عن الطريق (المنحرف) الذي سلكه، إلى آخره. وحين رفض الأستاذ عبد القادر عودة وساقوه إلى حبل المشنقة كان آخر ما قال: (ولست أبالي حين أقتل مسلماً – على أي جنب كان في الله مصرعي … اللهم اجعل دمي وبالاً عليهم)، وفعلاً مضت الأيام ورأينا كيف استقبلت الأمة كتب الأستاذ عبد القادر وعلمه وآراءه خير استقبال، وكيف أتت أسوأ الخواتيم وأخزاها لكل من اشترك في قتل هذا العالم الجليل ظلماً من قضاة زور وجلادين وحكام. ولحق القتلة بالمقتول، وعند الله تجتمع الخصوم.
هذه أمثلة قديمة وحديثة لها مثيلات كثيرة في ماضي الأمة وحاضرها مع الاستبداد والطغاة، مما يدل على أن سلاح الدعاء سلاح ناجع إذا ما انقطعت الأسباب ونفدت الحيل وغابت القوة إلا من قوة من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ – الحج 38)
وإننا في هذه الأيام المباركات وقد دخل العشر الأواخر من شهر رمضان، أقرب للاستجابة إن شاء الله في الدعاء على الظالمين الطغاة، والمنافقين البغاة، وقد روى البخاري أن رجالاً من أهل مكة أسلموا ففتنتهم قريش وعذبوهم فظل النبي صلى الله عليه وسلم زماناً إِذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخرة مِن صلاة العشاء قنت ودعا فقال: (اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ. اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ. اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ. اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمؤمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)
وإننا اقتداء بهذه السنة الشريفة ندعو فنقول: اللهم بحق هذه الأيام المباركات. اللهم أنج عبدك سلمان العودة. اللهم أنج عبدك علي العمري. اللهم أنج عبدك عوض القرني. اللهم أنج عبادك وإماءك الآمرين بالقسط والمعروف والعدل والحق المظلومين والمسجونين والمعذبين في كل بلد وفي كل مكان. اللهم أشدد وطأتك على من ظلمهم، وأدل دولهم، ويسر لهذه الأمة أمر رشد وخير يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. يا قوي يا عزيز. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى