كتابات

دلالة اللفظ المشترك

دلالة اللفظ المشترك

مقالات شرعية – د. سامح عبد السلام محمد

إذا كان الأصل في اللغة أن يختصَّ كلُّ لفظ من ألفاظها بمعنًى معين، بحيث تكون دلالةُ كلِّ لفظ على مدلوله واضحةً مستقلة محددة – فإنه قد يوجد في اللغة أن يدل اللفظُ على معنيينِ أو أكثر، وهو ما يسمى بالاشتراك اللفظي.

وقد أشار علماء اللغة إلى هذه الظاهرة بأنها: (اتفاق اللفظينِ، والمعنى مختلف) (1).

وأشار إليه الشافعيُّ بقوله: (وتُسمِّي العربُ بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة) (2).

تعريف المشترك:

قال ابن فارس: (الشركة: وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدُهما، ويقال: شاركت فلانًا في الشيء، إذا صِرْت شريكه) (3).

والاشتراك في الألفاظ قد يكون معنويًّا، بأن يشترك في الكلمة الواحدة أفراد كثيرون، بحيث ينطبق عليهم جميعًا نفسُ اللفظ، مثل كلمة: (الإنسان)؛ إذ يشتركُ فيها جميع بني آدم؛ فكلُّ واحد منهم إنسانٌ.

وقد يكون الاشتراكُ في الألفاظ اشتراكًا لفظيًّا، وهو الذي عُنِي به الأصوليون وعرَّفوه بأنه: (اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر، وضعًا أولاً من حيث هما كذلك) (4).

إذًا فالمقصود في تعريف المشترك اللفظي هو إطلاقُ اللفظ على حقيقتين، وقد تجادَل الأصوليون حول وجود اللفظ المشترك من الأساس، وهم يختلفون في وقوعِه على أربعة آراء: (أحدها: أنه واجب؛ أي: يجب بحُكم المصلحة العامة أن يكونَ بين اللغات ألفاظٌ مشتركة، والثاني: أنه مستحيل، والثالث: أنه ممكِنٌ غيرُ واقع، والرابع: أنه ممكن واقع)[5]، وإن كان أكثرهم يذهبون إلى إمكانِه ووقوعه، مستدلِّين بوقوعه فعلاً في اللغة، وفي بعض ألفاظ الشرع؛ كلفظ: (القَرء) في قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]؛ فاللفظ يتردَّد بين الطُّهر والحيض، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴾ [التكوير: 17]؛ فالفعل (عَسْعَسَ) يتردد معناه بين: أقبَل وأدبَر.

كما وُجِدت في اللغة ألفاظٌ وُضِعت لأكثرَ من حقيقة؛ أي: بالاشتراك في أشياء مختلفة؛ كلفظ: (العين) وُضِع للعين الباصرة، وموضوعة كذلك للماء المتفجِّر من الأرض، وعين الشمس، والجاسوس، وللنقد، فيقال: اشتريت بالدَّين لا بالعَين (6)..

ويرى الغزالي أن: (الألفاظ المتعددة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربع منازل…، وهي المترادفة، والمتباينة، والمتواطئة، والمشتركة.

أما المترادفةُ، فنعني بها الألفاظَ المختلفة الصيغ، المتواردة على مسمى واحد؛ كالليث والأسد.

وأما المتباينة، فنعني بها الأسامي المختلفة للمعاني المختلفة؛ كالسواد والقدرة، وهو الأكثر.

وأما المتواطئة، فهي التي تُطلَق على أشياءَ متغايرة بالعدد، ولكنها متفقة بالمعنى الذي وُضِع الاسم عليه؛ كاسم (الرجل)، فإنه يطلَق على زيدٍ وعمرو.

وأما المشتركة، فهي الأسامي التي تُطلَق على مسميات مختلفة، لا تشترك في الحدِّ والحقيقة ألبتة؛ كاسم (العين) للعضو الباصر وللميزان -… وللذهب -.. والاسم المشترك قد يدلُّ على المختلفينِ كما ذكرناه، وقد يدل على المتضادين؛ كالجلل: للحقير والخطير، والناهل: للعطشان والريَّان) (7).

أسباب وجود اللفظ المشترك:

قد يكون المشتركُ من قبيلتين تضع كلٌّ منها اللفظ لمعنى يختلف عن الآخر، ثم يشتهر الوضعان، وقد يكون من واضعٍ واحد لغرض الإبهام على السامع؛ حيث يكون التصريح سببًا للمفسدة، وقد يكون لاختلاف اللهجات، فيوضع في لهجةٍ ما لفظٌ في مدلول يختلف عن مدلوله المتعارَفِ عليه في لهجة أخرى، فيتعدد معنى اللفظ الواحد، حتى يشتهر استعمالُه في المعنيين (8).

وقد تتغير الدلالةُ بتطور اللغة، كما إذا دل اللفظ على معنى واحد، ثم استعمل مجازًا في معنى آخر، حتى اشتهر المجازُ؛ مثل كلمة (فتن)؛ فقد استُعمِلت بمعنى: وضَع المعدِن في النار، ثم صارت تُستعمل بمعنى الاضطهاد في الدِّين وغيره، ثم استُعمِلت في الوقوع في الضلال، فحصَل للَّفظ الواحد عدةُ معانٍ بسبب تطورِ الدلالة (9).

ومن ذلك ما يحصل بسبب وَضْع كلمة كمصطلح في عِلم، فيكتسب اللفظ في الاصطلاح مدلولاً آخرَ يختلف عن مدلولِه الأصلي في اللغة، وقد يصبح المدلولُ الجديد أكثرَ شيوعًا في الاستعمال.

وقرَّر الأصوليون أن الاشتراكَ قد يقعُ في الأفعال، والحروف كذلك؛ فالأول مثل: (بان)، فمعناه: انفصل وظهَر وبعُد، و(قضى) بمعنى: حكَم وأمر وحتم، وفي الحروف مثل: الواو التي تأتي للعطف، والحال، والاستئناف، والقَسَم، والباء التي تأتي للتبعيضِ وللسببية وللتأكيد (10).

حكم المشترك:

الأصل في المشترك: الدلالةُ على معنى واحد تحدِّده القرائن، ولأن الألفاظ عند الأصوليين ينبغي أن تكونَ محددة الدلالة؛ لأن الغرض من التشريع هو العملُ بما يدلُّ عليه اللفظ، والمشترك لا يتحدَّد أحدُ معانيه إلا بقرينة.

ولذلك فللوصول إلى حُكم المشترك نكون أمام حالتين:

الحالة الأولى: إذا كان الاشتراك بين معنًى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي، فيتعينُ حينئذٍ إرادةُ المعنى الاصطلاحي الشرعي، وذلك كألفاظ الصلاة، والزكاة، والصيام، ونحوها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]؛ فالمراد بالصلاة معناها الشرعي بهيئاتها وشروطها وأركانها، لا معناها اللغوي (وهو الدعاء)، وكذلك الزكاة وغيرها، مما يُعرَف بالأسماء الشرعية وما يطلق عليه: (الحقيقة الشرعية) (11).

ولا يؤخذ بالمعنى اللغوي هنا إلا بقرينة مرجِّحة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]؛ فالصلاة لفظٌ مشترك بين معناه الاصطلاحي الشرعي ومعناه اللغوي: (الدعاء)، فدلت القرينةُ على إرادة الثاني دون الأول.

الحالة الثانية: إذا كان الاشتراك بين معنيين لغويين، بحيث يدور اللفظُ المشترك الوارد في النص الشرعي بين معانٍ ليس للشارع عُرْفٌ خاص في تحديد أيها يراد؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]؛ فلفظ (القَرء) يطلق على الحَيْضة عند أهل العراق، وعلى الطُّهر في لغة أهل الحجاز، فمن رأى أن المراد به في الآية: (الطهر) استدلَّ بالقرينة اللفظية في تأنيثِ العدد (ثلاثة)، مما يدل على أن المعدودَ مذكَّر، فيكون المراد بالقروء الأطهار لا الحيضات، ومَن رأى أن المراد به الحيضُ، استدل بأن تشريعَ العدة كان لمعرفة براءة الرَّحِم من الحمل, الأمر الذي يُعرَف بالحيض لا بالطُّهر (12).

أما إذا لم تقُمْ قرينةٌ على إرادة أيٍّ من المعاني المشتركة، فقد اختلَفوا في إمكانية أن يكون المراد من المعنى المشترك أكثر من معنى في ذات الوقت: فعلى حين ذهَب بعضُ الأصوليين إلى أن المشترك في سياق الاستعمال لا يراد به إلا معنًى واحد؛ لأن اللفظ موضوعٌ بإزاء هذه المعاني على وجه التبادل، فتمتنع إرادة جميع المعاني؛ لمخالفة ذلك لأصل الوضع؛ إذ اللفظ قد وُضِع بإزاء كلِّ معنًى من معانيه وضعًا خاصًّا، ولم يوضَعْ لجميع المعاني دفعة وحدة؛ ولذلك لا بد من الاستهداء بالقرائنِ على تحديد المعنى المقصود، ويمتنع حملُه على كل المعاني؛ لأنه (الجزم بإفادته للمجموع دون كلِّ واحد من الفردين ترجيحًا من غير مرجِّح)[13] – فإن جمهورَ الأصوليين على جوازِ استعمال المشترك في كلا معنيَيْه, سواء كانا حقيقيين أم كان أحدهما حقيقة والآخر مجازًا [14], فيكون كالعام في شموله ما يدل عليه؛ ففي قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج: 18]، رأَوْا أن لكلمة (يسجد) معنيين: الخضوع القهري لحكمةِ الله تعالى؛ حيث إن جميعَ المخلوقات خاضعةٌ بلسان حالها كذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ [الرعد: 15]، والمعنى الآخر هو وَضْع الجبهة على الأرض, وهو السجودُ المعروف في الصلاة شرعًا.

فإذا كان الأول متصوَّرًا في حقِّ جميع هؤلاء المذكورين في نص الآية، فالمعنى الثاني هو ما يمكن حملُ الآية عليه بالنسبة للناس، بدليل (تخصيص كثيرٍ من الناس بالسجود، دون مَن عداهم ممن حقَّ عليهم العذاب، مع استوائهم في السجود بمعنى الخشوع)[15]؛ أي الخضوع؛ فكلا المعنيينِ مقصودٌ في الآية عند هؤلاء؛ لأنه لو أريد الخضوع وحده، لكان تخصيص كثيرٍ من الناس دون عامَّتهم لا معنى له؛ لأن جميعَ الناس خاضعون للقدرة الإلهية (16).

وكذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 56]؛ إذ رأَوْا فيها أن (الصلاة) لفظ مشترك بين المغفرةِ والاستغفار، وقد استُعمِلت فيهما معًا؛ حيث أُسنِدت في النصِّ القرآني إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الملائكة، فإذا كان معنى الصلاةِ المسنَدة إلى الله تعالى هي المغفرة قطعًا، ومن الملائكة هي الاستغفار، فإن اللفظَ المشترك مستعمَل هنا في معنييه، وكذلك يُحمَل عليهما معًا (17).

واشترط البعضُ ألا يمتنعَ الجمع بين المعاني المشتركة، فإنِ امتنع، لا يصحُّ كما في (القَرء)، فلا يصح أن يكونَ المراد ثلاث حيضات وثلاثة أطهار (18).

———————————————————————————————–

[1] كتاب سيبويه (1/24)

[2] الرسالة ص (52).

[3] معجم مقاييس اللغة (3/265).

[4] المحصول؛ للرازي (1/261).

[5] شرح الإسنوي (1/224).

[6] لسان العرب (4/3195).

[7] المستصفى (3/43)

[8] كشف الأسرار؛ للبخاري (1/39).

[9] أصول الفقه؛ لأبي زهرة ص (198).

[10] شرح البدخشي (1/227)

[11] شرح الإسنوي (1/228).

[12] الإحكام؛ للآمدي (2/352)، شرح الإسنوي (1/234 – 235).

[13] كشف الأسرار (1/40).

[14] كشف الأسرار (1/202)، إرشاد الفحول (1/91).

[15] كشف الأسرار؛ للبخاري (1/40).

[16] شرح الإسنوي (1/234 – 235).

[17] الخطاب الشرعي (ص 95).

[18] الإحكام؛ للآمدي (2/352).

المصدر: موقع شبكة “الألوكة نت”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى