تقارير وإضاءات

حول التباعد بين المصلين بسبب فيرس كورونا

حول التباعد بين المصلين بسبب فيرس كورونا

عندما انتشر «فيروس كورونا» وأُغلقت المساجد، ومُنعت صلاة الجماعة والجُمع، ثم السماح بإقامة جماعات صغيرة، في عدد قليل من المساجد، وعلى رأسها الحرمين، والأقصى. أفتى المفتون بأن تكون الصفوف متباعدة، وتساءل كثير من الناس عن حكم صلاة الجماعة مع ترك مسافة بين الشخص ومن بجواره ويحدث هذا في الحرم في هذه الأيام فهل هذا جائز؟ وهل هناك أصل لهذا التباعد المصلين في الصف في ظل الظرف الراهن؟ وهل ثبتت ذلك عن سيدنا عمر أو غيره من الصحابة مثلا؟

يقول د. صلاح الصاوي – رئيس جامعة مشكاة الإسلامية :

لا شك أن الأصل هو رص الصفوف، وسد الفرج، وإتمام الصف الأول فالأول، وقد استفاض ذلك في السنة القولية والعملية، من ذلك ما جاء في حديث أنس رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ) صححه الألباني في “صحيح أبي داود”. وما جاء عنه أيضا من قول النبي صلى الله عليه وسلم (أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ)

قال السندي رحمه الله: “قَوْله (رَاصُّوا صُفُوفكُمْ) بِانْضِمَامِ بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض عَلَى السَّوَاء (وَقَارِبُوا بَيْنَهَا) أَيْ: اِجْعَلُوا مَا بَيْن صَفَّيْنِ مِنْ الْفَصْل قَلِيلًا، بِحَيْثُ يَقْرَب بَعْض الصُّفُوف إِلَى بَعْض” انتهى.

وقال النووي رحمه الله: “والمراد بتسوية الصفوف اتمام الأول فالأول وسد الفرج ويحاذى القائمين فيها بحيث لا يتقدم صدر أحد ولا شيء منه على من هو بجنبه ولا يشرع في الصف الثاني حتى يتم الاول ولا يقف في صف حتى يتم ما قبله” انتهى من المجموع للنووي (4/123).

وجمهور أهل العلم على أن هذا الاصطفاف مستحب، وأن مخالفته تقتضي الكراهة، وخالف بعضهم فقال أن بالوجوب، وأن تركه مع عدم العذر يقتضي الإثم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله، يقول

(“فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ سُمِّيَتْ جَمَاعَةً لِاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ فِي الْفِعْلِ مَكَانًا وَزَمَانًا … بَلْ قَدْ أُمِرُوا بِالِاصْطِفَافِ بَلْ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْوِيمِ الصُّفُوفِ وَتَعْدِيلِهَا وَتَرَاصِّ الصُّفُوفِ وَسَدِّ الْخَلَلِ وَسَدِّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاصْطِفَافُ وَاجِبًا لَجَازَ أَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ خَلْفَ وَاحِدٍ وَهَلُمَّ جَرَّا. وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ عِلْمًا عَامًّا أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَوْ مَرَّةً … فَقِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاصْطِفَافِ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (23/ 394))

ولكن تركه حتى عند القائلين بالوجوب لا يقتضي بطلان الصلاة، وإن اقتضى التأثيم، لأن التسويةَ واجبةٌ للصلاةِ لا واجبة فيها، يعني أنها خارج عن هيئتها، والواجبُ للصَّلاةِ يأثمُ الإِنسانُ بتَرْكِه، ولا تبطلُ الصَّلاةُ به، كالأذان مثلاً، فإنه واجبٌ للصَّلاةِ، ولا تبطل الصَّلاةُ بتَرْكِه” راجع الشرح الممتع لابن عثيمين (3/10).

فالذي يظهر صحة صلاة الجماعة مع وجود هذا التباعد بين المصلين وجوازها إذا تعين هذا سبيلا هذا إلى الوقاية من الإصابة بالعدوى والحد من تناقل الوباء وانتشاره بإذن الله أو المساعدة في ذلك، سواء على مذهب جمهور العلماء الذين يرون استحباب الاصطفاف وسد الفرج، أو على مذهب القائلين بوجوبه، ولهذا نظائره في الشرع من التسامح في ترك بعض الواجبات للعذر، يمكن القياس عليها، ومنها:

القياس على مسألة جواز الصلاة أمام الإمام وهو قول في مذهب الإمام أحمد، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره، فالجميع قد وقف في مكان لا يجوز له الوقوف فيه حال الاختيار، فقد اختلف أهل العلم في صحة صلاة المأموم أمام الإمام على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تصح مع الكراهة، إن كان ذلك بغير عذر، أما إن كان لعذر كضيق المسجد، جاز من غير كراهة، وهذا مذهب المالكية، جاء في الشرح الكبير: (و) كرهت للجماعة (صلاة بين الأساطين) أي الأعمدة (أو) صلاة (أمام) أي قدام (الإمام) أو بمحاذاته (بلا ضرورة).

الثاني: أنها لا تصح مطلقا، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور من مذهبهما. قال الإمام السرخسي من الحنفية: وإن تقدم المقتدي على الإمام لا يصح اقتداؤه به وقال الإمام النووي من الشافعية: إذا تقدم المأموم على إمامه في الموضع، فقولان مشهوران: الجديد الأظهر، لا تنعقد. وقال الإمام ابن قدامة: السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام، فإن وقفوا قدامه لم تصح.

الثالث: أنها تصح مع العذر دون غيره مثل ما إذا كان زحمة فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا أمام الإمام، فتكون صلاته أمام الإمام خيرا من صلاته وحده، وهذا القول قول في مذهب الإمام أحمد، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره، وهذا القول هو أرجح الأقوال. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وذلك لأن التقدم على الإمام غايته أن يكون واجبا من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلها تسقط بالعذر.)

يقول شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: ” وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُفْعَلُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ لَا يُمْكِنُهُ الِائْتِمَامُ بِإِمَامِهِ إلَّا قُدَّامَهُ كَانَ غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْمَوْقِفَ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (23/406)

القياس على تجويز صلاة المنفرد خلف الصف إذا لم يجد مكانا في الصف، وكون هذا خيرا من تركه الجماعة. وهذا التباعد الذي تقتضيه ضرورة التحرز من هذا الوباء قياس أولوي

القياس على سقوط بعض واجبات الصلاة وشروطها وأركانها بالعجز عنها، كالطهارة واستقبال القبلة وستر العورة.. إلخ وهذه كلها أوجب من التراص.

القياس على ترجيح الاصطفاف على سد الفرج، فقد جاء في الاختيارات لشيخ الإسلام “لو حضر اثنان وفي الصف فرجة فأيهما أفضل: وقوفهما جميعا؟ أو سد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر؟ رجح أبو العباس الاصطفاف مع بقاء الفرجة لأن سد الفرجة مستحب والاصطفاف واجب” انتهى من “الفتاوى الكبرى” لابن تيمية (5/ 348) فإذا رخص في بقاء الفرجة لأجل الاصطفاف، مع إجازته صلاة المنفرد خلف الصف لعذر فهذا يدل على أن ترك الفرجة عنده أخف، وهذا التباعد بسبب هذه النازلة أقرب إلى ترك الفرجة فتجوز عند الحاجة.

أما هل لهذا التباعد أثر من فعل السلف فقد ورد في باب التباعد من المجذوم، روى معمر عن الزهري أن عمر قال لمعيقيب: اجلس مني قيد رمح، وكان به الداء، وكان بدريا. وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد: كان عمر إذا أتي بالطعام وعنده معيقيب قال له: كل مما يليك، وايم الله لو غيرك به ما بك ما جلس مني على أدنى من قيد رمح.

ولكن هذا في باب التباعد من مخالطة المجذومين خارج الصلاة، وليس في باب الصلاة، وقد يقاس أمر التباعد في الصلاة عليه. والله تعالى أعلى وأعلم

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى