كتب وبحوث

بين الإسلام والمدنية الأوربية تاريخ العلاقات في المجتمعات الإسلامية الجزء الثاني

بين الإسلام والمدنية الأوربية تاريخ العلاقات في المجتمعات الإسلامية الجزء الثاني

إعداد معاذ السراج

  • مقدمة:

في مقدمة كتابه “مجالي إسلام” المترجم عن الفرنسية, ينوّه الأستاذ حيدر بامّات إلى فكرة جديرة بالتمعن, وهي أن الإسلام بقي صامدا في جميع البلاد التي وصل إليها, ولايزال يستعيد روحه وحيويته وقدرته على الانتشار, على الرغم مما يتعرض له من حصار وهجمات شديدة ومتواصلة هو وأتباعه, لاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين.

ويستعرض حيدر بامّات التأثيرات العميقة التي أحدثها الإسلام في مختلف جوانب الحياة ومعالم الحضارة الإنسانية, بما في ذلك الفنون والموسيقا وأنماط الحياة في الطعام والشراب واللباس والنظافة وغيرها, ويخلص إلى القول بأن السمات التي يتمتع بها الإسلام, من السماحة والمرونة والانفتاح, هي من القوة والثبات, بحيث لا يمكن حصارها أو إيقافها مهما كلف الأمر.

في كتابه “الدعوة إلى الإسلام” يتحدث السير توماس ارنولد بالتفصيل عن الجهود الكبيرة التي بذلها الفاتحون والدعاة, والصفات الأخلاقية التي تمتعوا بها, والتي ساعدت على انتشار الإسلام في بقاع الأرض حتى بلغ في مدة يسيرة لا تتجاوز ربع قرن جهات الأرض الأربعة.. ويشير أرنولد إلى أن المساواة التي قررها الإسلام بين المؤمنين على اختلاف أجناسهم, لا تسمح بوجود فوارق بين عربي وأعجمي, أو بين حر وعبد ممن اعتنقوا هذا الدين, حتى أصبحت الأخوة الإيمانية مثلا أعلى “إنما المؤمنون إخوة”, وخلال عقود قليلة كان الأعاجم يحملون راية الإسلام مع العرب جنبا إلى جنب, علماء وفقهاء وأدباء, وقادة سياسيين وعسكريين, ليثبت أولئك الفاتحون وبصورة عملية, أن الحياة الإسلامية التي نشروها, ليس فيها مجال للسخرة, ولا مكان لاستثمار الفرد, فإن اضطر المسلمون أن يستعينوا بأحد, كان له أجره في هذه المعونة, كما كانت تفرض تعاليم الدين وأحكامه.

وتفيد الصلات الودية التي نشأت بين المسيحيين والمسلمين من العرب, ومن ثم الأقوام الأخرى التي وصلها الإسلام, بأن المعاملة وحدها كانت العامل الحاسم في التحول نحو الإسلام والتمسك بأهدابه, ولعل ثبات أهل هذه البلاد على الإسلام رغم ما يواجهونه من حروب وتهجير وملاحقة من أكبر الشواهد على ذلك كما أشار الأستاذ حيدر بامّات, كما أن بقاء فئات من العرب المسيحيين على مسيحيتهم إلى اليوم, خاصة في الشام والعراق شاهد ماثل على مرّ العصور.

  • نماذج من المجتمعات الإسلامية

تمثل الأطر الكبرى التي حددت علاقة المسلمين بأهالي البلاد التي دخلوها, لونا من تحديد العلائق وإحكام الصلات يستشعر فيها السكان ذاتهم ويأمنون على عقائدهم وأموالهم وأرضهم, فلا يُحسون أنهم مغلوبون على شيء من ذلك. ويُدركون أن هذه العلائق إنما تقوم على أساس من تبادل الحقوق والواجبات فلا يطغى فيها طرف على طرف هذا الطغيان الذي كان شأن الحروب من قبل, حيث كان أيسر ما يفعله الغزاة أنهم ينكلون بسكان المدن التي يغلبون عليها ويستعبدونهم ويشردونهم “ويلهون بهم كما يلهو صبي صغير بكرات كثيرة بين يديه” كما يقول الأستاذ محمد الغزالي.. وكان أدنى ذلك ما فعله كسرى أنو شروان العادل سنة 540 ميلادية, حين استولى على أنطاكية وسلوقيا على نهر العاصي ونقل أهالي سلوقية إلى عاصمة المدائن وأسكنهم في ضاحية على الجانب الشرقي من دجلة مقابل موقع سلوقية التي في الجزيرة وكانت هذه الضاحية لاتزال قائمة عندما فتح العرب البلاد في القرن التالي وتُعرف حينئذ باسم الرومية.

الأمير شكيب أرسلان المفكر والأديب والشاعر والرحالة العربي المعروف, يعرض في كتابه حاضر العالم الإسلامي, صورة عن أكثر البقاع المسلمين التي انتشر فيها الإسلام, من آسيا إلى إفريقيا وشرق أوربا, حتى بلاد الأندلس, وقد زار أغلبها, ونقل مشاهداته عن حاضر المسلمين فيها, وتمسكهم بدينهم وتراثهم وتاريخهم..  يتحدث شكيب أرسلان عن المسلمين في جاوى (إندونيسيا) وعن الحضارمة الذين نشروا الإسلام هناك, وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من أهل تلك البلاد, وكان منهم سياسيون ومسؤولون كبار من أبرزهم رئيس الوزراء حيدر أبو بكر العطاس.

ويتحدث كذلك عن مسلمي الفليبين وجزائر الهند الشرقية التي استعمرها هولندا والبرتغال, وعن مسلمي أفغانستان وكشمير وطاجكستان وأوزبكستان وهكذا..

وينقل تفاصيل كثيرة عن الأستاذ محمد مكين الذي زار القاهرة في أوائل القرن العشرين, وهو أول من نقل معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية, حول واقع المسلمين في الصين وأعدادهم وأماكن انتشارهم, وذكر حينها أنهم يمثلون 50 مليونا من أصل 400 مليون هم تعداد الصينيين في تلك الفترة.

ويعرج على مسلمي إفريقيا والحركات الصوفية التي يعود إليها الفضل في نشر الإسلام في أكثر نواحي القارة, مثل مملكة مالي والسنغال والكاميرون وممالك وسط إفريقيا وجنوبها كالحبشة ومدغشقر وجزائر الكومور وأنجوان وغيرها من التسميات التي تغير أكثرها في وقتنا الحاضر.

ويمر الأستاذ شكيب أرسلان في كتابه ذاك, الفريد من نوعه, على مسلمي قفقاسيا وروسيا وحوض بحر قزوين, وبلاد البلقان وغيرها.

في تطوافه الفكري والجغرافي على مدى قرابة نصف قرن,  كان الأمير شكيب أرسلان حريصا على نقل صورة حية عن شعوب تلك البلاد وتمسكهم بشعائر الإسلام ومبادئه وأخلاقه, على الرغم من الظروف القاسية التي واجهوها, وحملات الإبادة والتغيير السكاني التي طالت الملايين منهم على يد روسيا القيصرية والممالك الأوربية في ذلك الحين. وليس هذا وحسب بل كان حريصا كل الحرص على بيان الأسباب والعوامل التي دفعت مسلمي تلك البلاد للصمود بوجه الحملات التي استهدفت وجودهم, وتحدث في أبحاث مطولة تضمنها كتابه ذاك, عن التعصب المسيحي بالمقارنة مع سماحة الإسلام وروحه المنفتحة..

السير توماس أرنولد, المؤرخ الإنكليزي المعروف, وفي سيرة مشابهة, يتحدث في كتابه “الدعوة إلى الإسلام”, عن تاريخ انتشار الإسلام في أصقاع الأرض منذ عهد النبوة وحتى عصرنا الحاضر, والعوامل التي ساعدت على رسوخ الإسلام في البلاد التي دخلها, والعلاقات الودية التي كان المسلمون ينشئونها حيثما حلوا.  وفي سياق حديثه عن الإسلام في روسيا وبلاد القرم وليتوانيا وسيبيريا وقيرغيزيا وغيرها, ويسوق أمثلة كثيرة من أنماط الحياة الإسلامية التي باتت جزءا لا يتجزأ من تراث تلك البلاد, ويذكر الأغاني الشعبية التي يتغناها القيرغيز كمظهر من مظاهر الاعتزاز الديني, والتي تحتل مكانة كبيرة في وسائل الدعاية الإسلامية في القوت الحاضر. “وتتضمن هذه الأغاني حقائق الإسلام الأساسية مصوغة في أسلوب قصصي أسطوري, مما جعل هذه الحقائق تصل إلى قلوب عامة الشعب في سهولة ويسر” كما يقول أرنولد.

برنارد لويس, واعتمادا على مشاهدات الرحالة الغربيين لأوضاع الفلاحين في البلقان في القرن التاسع عشر. يقول: “كان الأوربيون الذين يزورون البلقان يعلقون على اوضاع فلاحي البلقان الحسنة وعلى رضاهم على هذه الأوضاع كانوا يجدونها أفضل من الأوضاع السابقة في بعض أنحاء أوربا المسيحية, وكان الفرق أوضح بكثير من القرنين الخامس عشر والسادس عشر, في عصر حركات التمرد الكبيرة التي كان يقوم بها الفلاحون في أوربا..”

ويضيف: “كانت الإمبراطورية العثمانية بالإضافة إلى كونها عدوا خطرا ذات سحر قوي: فقد كان المستاؤون والطموحون ينجذبون إليها بالفرص التي تتاح لهم في ظل التسامح العثماني, وكان الفلاحون المسحوقون يتطلعون بأمل إلى أعداء أسيادهم. وحتى مارتن لوثر في كتابه المسمى “النصح بالصلاة ضد الأتراك”, الذي نشر عام 1541 قد حذر بأن الفقراء المضطهدين على يد الأمراء وأصحاب الأملاك والمواطنين الجشعين يفضلون على الأرجح العيش في ظل الأتراك بدلا من المسيحيين أمثال هؤلاء”.

وفي سياق حديثه عن علاقة العثمانيين بالغرب الأوربي يعدد السير أرنولد مظاهر التسامح في معاملة المسيحيين, ورحابة الصدر وكرم الأخلاق الذي تمتع به السلاطين العثمانيون, لاسيما السلطان محمد الفاتح, والسلطان بيازيد الصارم, الذي جعل الأهالي يألفونه ألفة تامة, بعد أن سمح لهم بالتردد على مجلسه بحرية تامة. والسلطان مراد الثاني الذي اشتهر بعنايته في تحقيق العدالة, وإصلاحه للمفاسد التي سادت في عهد الأباطرة الإغريقيين, وعاقب في غير هوادة أي موظف من موظفيه استبد بأي فرد من رعاياه. ولهذا ففي غضون قرن من فتح القسطنطينية, “تمكنت طائفة من الحكام الصالحين, بفضل الإدارة الحازمة, أن ينشروا الأمن والنظام في المقاطعات كلها, ووجدنا تنظيما رائعا في الشؤون المدنية والقضائية”.

  • وبضدها تتميز الأشياء:

في الحكم على الأفراد والجماعات وسياسات الدول, من الإنصاف أن تراعى في ذلك روح العصر والظروف المحيطة وما يرافق ذلك عادة من اختلاف الذهنيات والأفكار والتقاليد والأدوات التي تناسب كل عصر على حدة. وإذا كنا اليوم نتحدث عن الرابطة الوطنية على سبيل المثال, فإن هذا الأمر من حيث المبدأ ليس طفرة في الحياة الإنسانية, بل هو ناجم عن تراكم تجارب المجتمعات عبر العصور, ومع ذلك فإن التجارب المعاصرة ليست في مستوى يسمح بأن يحكم عليها بالنجاح.

وقبل أن نتحدث عن تجارب الوقت الراهن نعرج قليلا على تجارب الأوربيين في عصر التنوير وفي حقبة الاستعمار الحديث, والتي لم تتخل فيها عن روح العصبية وازدراء الآخرين, ولم تحذ حذو الفاتحين العرب أو العثمانيين في معاملة الشعوب المغلوبة وإظهار شيء من روح المدنية التي تدعي أنها تتمتع بها.

وحسبنا الإشارة إلى مظالم إسبانيا وحكامها المتخلفين تجاه المسلمين الموريسيكيين, وسومهم صنوف الذل والهوان, واستئصالهم عن بكرة أبيهم, وإكراه القلة الذين تبقوا منهم على التنصر. لا, بل إن مجالس التفتيش شملت الأوربيين فيما بينهم, ومذابح البروتستانت والكاثوليك فيما بينهم, وهجرة البيورتان الإنكليز في القرن السابع عشر إلى مستعمرة إنكلترا الجديدة هربا من الاضطهاد الديني من مخالفيهم في المذهب من أكبر الشواهد الماثلة, ولا تزال بعض الممارسات قائمة إلى اليوم.

على أن انحطاط أوربا وقتئذ لم يقتصر على معاملة المخالفين لمذهب الدولة فحسب, بل بلغ من انحطاطها الاجتماعي حتى وقت قريب, أنها كانت في أريستوقراطيتها المطلقة تميز في أحكامها ومراتبها بين طبقات رعيتها.. ويروي بعض المؤرخين أن أكثر الوظائف كانت وراثية أو تُشترى بالرشوة, وفي بروسيا مثلا, في سنة 1807, كان كثير من الوظائف فيها مخصصا قانونا لطبقة معينة. وفي فرنسا, حتى عام 1781 كان محظورا على غير الأشراف دخول المدرسة الحربية في مازييه.

ينقل جميل بيهم في كتابه “فلسفة الحضارة العثمانية” عن رامزي ميور في كتابه “سر التوسع الأوربي الدولي” قوله: “ومن الملاحظ أن البرتغاليين كانوا في كل مكان يحتلونه مثالا للعنف وعدم التسامح. فإن روح هؤلاء الصليبيين لم تكن مما يساعد على إيجاد روابط حسنة ودية بينهم وبين أقوام غير مسيحيين. وارتكب البرتغاليون في منازعة منافسيهم من التجار العرب في المحيط الهندي كل أساليب القسوة حتى قضوا عليهم”.

ووصف رمزي ميور الإسبان بالغلظة والقساوة, ووصف سياسة الهولنديين في شمال البرازيل واستغلالهم لأهلها بأنه “كان على طريقة تأباها الرحمة والعدل”.

وعندما جاء الدور على وصف سياسة الإنكليز, فإن هذا المؤلف رغم إرادته رفعها عن مصاف بقية الدول, لم يسعه إلا أن يقول: “نعم إنه وقع في تاريخ التوسع الدولي البريطاني من الظلم كالأشغال الشاقة التي كانت تُفرض على أهل كاناكا (ويطلق هذا المصطلح على العمال من مختلف جزر المحيط الهادي الذين يعملون في المستعمرات البريطانية), في المحيط الهادي, ولكنهم لم تقع منهم مظالم كالتي وقعت في الكونغو, او كالتي حدثت في البوتومايو (وهي ما يعرف اليوم بدول الإكوادور وكلولومبيا والبيرو), أو مساوئ الرقيق التي اشتهرت في بسكونيا شمال إسبانيا, أو مجازر كالتي ارتكبت في رجال الهوريروس في إفريقيا الجنوبية الغربية الألمانية”.

وفي حديثه عن فظائع الروس ولاسيما في شبه جزيرة القرم فقد قال: “دع والتمثيل والتعذيب, فقد بلغ منهم التوحش أنهم لما دخلوا مدينة إسماعيل ظافرين ذبحوا أهلها كافة, في مدة ثلاثة أيام 1790م غير مشفقين على صغير أو كبير, وغير مراعين رجلا أو امرأة”

والحقيقة أن كل فقرة من هذه الفقرات كتبت حولها مجلدات كثيرة وبأقلام كتاب أوربيين منصفين, لكنها ظلت بعيدة عن وعي الأجيال من الشعوب المختلفة وليس المسلمين وحدهم, كما أن بريق المدنية الأوربية والتطور المذهل لصناعاتها الحديثة شغل الناس عن التفكير بالمآسي الإنسانية التي تحيط بهم من كل جانب, والتي ترجع بشكل أساسي إلى سياسات الأوربيين وجشعهم وطمعهم.

  • المدنية الغربية في العصر الحديث:

تاريخ العالم في سجله الطويل, لا يكاد يعرف أسوأ من مدنية الغرب في معاملة الآخر, وتجاهل مصالح الشعوب ومصادرة حقوقهم. بل لا يعرف أسوأ من هذه المدنية في إراقة الدماء بغزارة, وانتهاك الحرمات بنهم وتلذذ, وتجسيد الأثرة والأنانية يحجب كل ما وراءه من خير وعدل, لا, بل إن هذه المدنية تميزت ببراعتها الفائقة في تقديم آثامها على أنها شرف, وشهواتها على أنها حريات وقوانين نزيهة. وطالما حاول الغرب في أيامنا هذه أن يلبس أطماعه وشرهه إلى خيرات الآخرين ثوب العفة والترفع, ومداراة البراثن الملوثة في قفازات من حرير, كما يقول الأستاذ محمد الغزالي, “وقد يبدو ذلك غريبا, لكن من يستسهل المناكر لا يُعجزه التزوير ولا استحسان السوء”.

لا يمكن الانتهاء من قصص الأوربيين وسيَرهم فيما يُعرف بالاستعمار الحديث, والذي تصدرته إنكلترا بإمبراطوريتها التي وُصفت بأنها لا تغيب عنها الشمس.

عندما غزا الإنكليز أستراليا احتلوا بقاعها الخصبة, وحرموا منها سكانها الأصلاء بما عرف عن الإنكليز من دهاء وخبث. وكلما تكاثر الغزاة المستعمرون كانوا يدفعون بالأهالي إلى الصحارى المهلكة لينقرضوا هناك بصمت. ومع هذا فإن الإنكليز لا يزالون يدعون أنهم رسل الحضارة الارتقاء والسلام.

وما فعلته إنكلترا في أستراليا فعلته الدول الأوربية المستعمرة بكافة البلاد التي وقعت تحت سيطرتها. وعلى سبيل المثال فإن الإيطاليين في ليبيا كانوا يقتلون كل من لا يخضع لهم ويطاردون البقية إلى الصحراء, لا يوفرون في ذلك نساء ولا أطفالا ولا شيوخا.

وتقع الطامة الكبرى عندما يواجه الأوربيون ثورات الشعوب بالحديد والنار, والقمع والتمزيق على نحو يثير الرعب ويدفع إلى الجنون.. وقد تفرد الاستعمار الغربي عن أعصار التاريخ كلها, بأساليب وأفانين من التعذيب والإذلال طبقت شهرتها الآفاق. وحسبنا أن نعود إلى رواية فرانس فانون “المعذبون في الأرض” والتي نقلت إلى أفلام سينمائية ومسلسلات مشهورة, لنأخذ فكرة سريعة عن طرف من مدنية الغرب تجاه الشعوب المستعمرة.

وإذا كان الرومان القدماء يرمون بخصومهم إلى الوحوش الجائعة, تنهش لحومهم, وتهشم أعضاءهم, فإن زبانية الاستعمار الحديث ليسوا أقل سفالة من قدماء الرومان. ففي إخماد الثورات المتتابعة التي اندلعت نارها في فلسطين ضد الحكم الإنكليزي ارتكب ما هو أقسى من ذلك وأنكى. كانت القرى الآهلة تسوى بالتراب إذا عثر في بيت منها على رصاصة أو مسدس, وكان الشباب النضر يقاد إلى الموت أقبح قود, وبعد طرق من التنكيل والإذلال طافحة بالهول.

وقد نقل صاحب كتاب “تفتيت الشرق الأوسط” بعض “طرق التعذيب متنوعة” في عهد الاحتلال البريطاني لفلسطين, عن السجين السياسي صبحي الخضرا الذي كتب من سجنه في عكا قائلا: “كان الضرب بالأكف وبالأحذية و(الجزم), .. كذلك استعمال العصي حتى الموت, كذلك كانت.. الخوزقة, وهي إدخال العصي في شروج الضحايا ثم تحريك هذه العصي يمينا وشمالا وللأمام والخلف”. وكذلك استعمال الكلاب ضد السجناء حتى إنهم استعلوا طرقا أخرى أكثر انحرافا وفسقا (كالاغتصاب والتبول على الوجوه), وهذه سُجلت أيضا في طرق التعذيب”.

لاشك أن حضارة ترتكب مثل هذه الموبقات لحضارة لا ضمير لها ولا وجدان, وكل ما تفعله هو أنها تستغل تفوقها العسكري والصناعي لتملأ الحياة فسادا.

أوربا تنظر إلى الأقطار الخصبة لا على أنها ملك لأصحابها بل كما ينظر اللص إلى متاع أعجبه, فأول ما يفكر فيه كيف يسطو عليه ليستأثر به. والغزو الأوربي يتسم دائما بهذا الجوع لالتهام السحت, ووأد أصحابه الأول.

ومن أمثلة ذلك سياسة البريطانيين البيض في جنوب إفريقيا التي أفقرت السكان المحليين وأجبرتهم على العمل بالسخرة هم وأسرهم وبأجور زهيدة, وفي أكثر الأحيان بدون أجر. وبصدور القانون الوطني للأراضي عام 1913, وفي ظل الاحتلال العنصري البريطاني, فقد قُضي قضاء تاما على نظام الحياة الاقتصادية الكريمة للإفريقيين, كما أصبحت السيطرة على الإفريقيين في يد وزير أجنبي يسمى وزير الأعمال الوطنية. في الوقت الذي كانت فيه الأرض قبل ذلك ملكا للإفريقيين, ولم تكن الأرض تباع ولا تشترى, بل كان يُنظر للأرض باعتبارها هبة الطبيعة للجميع, يقوم رئيس القبيلة بالنظر في جميع أمورها, وحل مشاكلها.

في عام 1932 صدر قانون يعتبر تأجير الإفريقي لأرض خارج نطاق المنطقة المخصصة لبني جنسه جريمة يعاقب عليها بالجلد أو السجن. وكانت القوانين عامة تفرق بين البيض والسود, وتعاقب من يخالفها بالسجن أو الغرامة. وترتب على ذلك هجرة الملايين من أراضيهم وقراهم, والعمل تحت إمرة البيض وفي ظروف غاية في القسوة والظلم. ولعل من الطرافة المرة أن التفرقة بين البيض والسود تظهر حتى في الموت, إذ يخصص للسود عادة مدافن بعيدة. ومن العسير جدا على من لم ير بنفسه الحياة في جنوب إفريقيا أن يفهم أو يحيط بكل ما كان يجري هناك من عنف وتعسف في المعاملة. ولو أن الأوربيين رأوا أن إفناء أهل البلاد الأصليين أجدى لهم لفعلوا ذلك دون تردد, بل إنهم فعلوه في أماكن كثيرة من بينها أمريكا وأستراليا وغيرها.

ومن المعلوم أن نظام الفصل العنصري أو الأبارتيد, هو اختراع أوربي صرف, وضع من أجل خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية, ومن خلاله حكمت الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا عقودا كثيرة, حتى تم إلغاء النظام بين الأعوام 1990 – 1993 وعادت البلاد إلى أصحابها الأصليين.

  • أوربا بين المسيحية والفلسفة المادية:

وينقل الأستاذ محمد الغزالي عن الأستاذ “جودا” أستاذ الفلسفة الإنكليزية الذي ألّف كتابا قيما سماه “سخافات المدنية الحديثة, قال فيه:

“إن المدنية الحديثة ليس فيها توازن بين القوة والأخلاق, فالأخلاق متأخرة جدا عن العلم, ومنذ النهضة ظل العالم في ارتقاء, والأخلاق في انحطاط, حتى بعدت المسافة بينهما, وبينما يتراءى الجيل الجديد للناظر فتعجبه خوارقه الصناعية, وتسخير المادة والقوى الطبيعية لمصالحه وأغراضه, إذ هو لا يمتاز في أخلاقه, في شرهه وطمعه, في طيشه ونزقه, وفي قسوته وظلمه عن غيره, وبينما هو قد ملك جميع وسائل الحياة إذ هو لا يدري كيف يعيش, وتوالي الحروب الفظيعة الهائلة دليل على إفلاسه, وأنه يربي نشأة لتموت, وقد خولت له الطبيعة قوة قاهرة, ولكنه لم يحسن استعمالها, فكان كطفل صغير أو سفيه أو مجنون, يملكون زمام الأمور, ويؤتون مفاتيح الخزائن, فهم لا يزيدون على أن يلعبوا بما فيها من جواهر..”

وقال “جودا” في موضع آخر: “إن فيلسوفا هنديا سمعني أُطري حضارتنا, وأقول إن أحد سائقي السيارات قطع ثلاثمائة أو أربعمائة ميل على الرمال, وطارت طائرة من موسكو إلى نيويورك في عشرين أو خمسين ساعة, فقال ذلك الفيلسوف الهندي: “إنكم تستطيعون أن تطيروا في الهواء كالطير, وأن تسبحوا في الماء كالسمك, ولكنكم لا تعرفون إلى الآن كيف تمشون على الأرض”.

لاشك أن استغلال الأراضي وأصحابها في إفريقيا وآسيا وغيرها هو الدافع الأول للاستعمار الأوربي وليس التبشير بالمسيحية وما إلى ذلك. ومع أن النصرانية الحقة, وغيرها من شرائع الله تعالى, تأبى مثل هذه السياسات والأخلاقيات الرديئة, إلا أن الغرب كان يستصحب رجال الكنيسة معه أينما ذهب, ومن المعروف تاريخيا أن أفواج المبشرين كانت تسبق الجيوش الاستعمارية إلى بلاد الشرق, جنبا إلى جنب مع الرحالة والآثاريين, لتمهد الطريق أمام الجيوش الزاحفة إلى تلك البلاد.

ولعل في ذلك دلالة واضحة على أن الأوربيين يستخدمون المسيحية كعصبية محركة وليس كعقيدة وشريعة ذات مكانة وتأثير حقيقي, وهي في هذه الحالة ليست سوى عاطفة وحماسة لا قيمة لها في الواقع, وأما المسيحية الصحيحة وتعاليمها الحقة فهي آخر ما يفكر الأوربيون في العمل بها.

ورد في مقدمة كتاب التبشير والاستعمار للأستاذين مصطفى الخالدي وعمر فروخ: “ولقد اتفق لكثير من الناس أن اعتقدوا مثلنا أن المدارس والمستشفيات ومؤسسات الإحسان إنما هذ مؤسسات منظمة للتبشير في الدرجة الأولى. ولكن القليلين فقط يدركون أن هذه المؤسسات نفسها, وأن كثيرا من البيوت التجارية الأجنبية والهيئات الرسمية الأجنبية, كانت ولاتزال وسائل للتبشير الممهد لبسط النفوذ الأجنبي”.

“ومن منا كان يعتقد أن الفتن الطائفية كان ينفخ فيها رجال أتوا إلى هذه البلاد يضعون على أجسامهم ثياب التقوى وينتحلون مظاهر العلم؟ ومن منا كان يصدق أن رجالا جاؤوا إلى بلادنا ليرأسوا مؤسسات علمية مشهورة بالعلم كانوا مبشرين بالدرجة الأولى؟”

ويورد الأستاذان ثبتا بمائة من المصادر الأوربية تتحدث في هذا الشأن, إلى جانب مصادر لا تُحصى, حفلت بها هوامش هذا الكتاب الفريد في بابه, والذي يستحق بحثا مفردا خاصا به, لكننا نكتفي بنقل الفقرة التالية على أمل أن نعود إليه مجددا.. يقول الأستاذان الكريمان: “إننا إذا تأملنا العالم الغربي وجدناه عالما ملحدا, لا يؤمن بدين, وعالما ماديا لا يعرف للروح معنى: إن أمريكا التي تعبد الحديد والذهب والبترول – كما يقول أمين الريحاني- قد غطت نصف الأرض بمبشرين يزعمون أنهم يدعون إلى حياة روحية وسلام ديني. وبينما نرى فرنسا دولة علمانية في بلادها نجدها الدولة التي تحمي رجال الدين في الخارج, إن اليسوعيين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها. وكذلك إيطاليا التي ناصبت الكنيسة العداء وحجزت البابا في الفاتيكان, كانت تبني جميع سياساتها الاستعمارية على جهود الرهبان والمبشرين. حتى الروسية السوفييتية التي تدعو في بلادها إلى الإلحاد ومحاربة الأديان – كما يُقال – رأيناها, بعد الحرب العالمية الثانية, حينما أرادت أن تحقق لنفوذها توسعا إقليميا وسياسيا, قد تظاهرت بالعطف على رجال الدين ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو, وحملت إليه المؤتمرين في طائراتها. ثم شرف ستالين أولئك المؤتمرين بمقابلته. وكثيرا ما كان الرجال العسكريون من الإنكليز خاصة يحضون حكوماتهم على بث المبشرين في العالم, كما نصح الجنرال هايغ للحكومة البريطانية أن ترسل مبشريها إلى جزيرة العرب”.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى