كتابات

القرضاوي.. من المنفى إلى الميدان (1 – 2)

بقلم د. حلمي القاعود

كان الشيخ متشوقاً للحرية مثل مئات الملايين وعند سقوط رأس النظام كان من أوائل الذين عادوا إلى الوطن ليقف على منبر الجمعة بساحة ميدان التحرير

كان وجوده في مصر عقب سقوط رأس النظام العسكري دَفعة قوية للمصريين للاستمرار في الثورة والمطالبة بحقوقهم في الحرية والكرامة والعدالة

لم ينسَ الشيخ أن يذكِّر الجيش والشعب معاً أن الجيش ليس بديلاً عن السلطة التي يرتضيها الشعب ولعله كان يستشعر إحساساً دفيناً بالخديعة

كان الشيخ ينطلق في تأييده للثورة بوصفها امتداداً لجهاده الطويل من أجل الحرية والكرامة منذ كان طالباً في الأزهر الشريف

استُقبل في مشيخة الأزهر استقبالاً حاراً وتم ضمه لهيئة كبار العلماء وخطب في الجامع الأزهر ورحبت به القنوات الرسمية والإذاعة والصحف

بعد سقوط رأس النظام “مبارك” في ثورة يناير، حضر الشيخ القرضاوي إلى ميدان التحرير، وخطب خطبة شهيرة، أيَّد فيها الثورة والثوار، وشبَّه الصحفيون اليساريون وجود الرجل في الميدان بعودة “الخميني” قادماً من منفاه في باريس إلى إيران؛ فقد عاد القرضاوي إلى مصر التي خرج منها مضطراً بعد معاناة طويلة ممتدة مذ كان طالباً في العهد الملكي حتى يوم الناس هذا في ظل الحكم العسكري الانقلابي مع أنه أشهر علماء الدين المعاصرين!

كان الشيخ متشوقاً للحرية مثل مئات الملايين في مصر وأرجاء العالم العربي والإسلامي، وعند سقوط رأس النظام كان من أوائل الذين عادوا إلى الوطن ليقف على منبر الجمعة بساحة ميدان التحرير في الثامن عشر من فبراير 2011م، ويخطب في عشرات الألوف الذي صلوا في الخلاء، ويبدأ خطبته بمخاطبة المسلمين والأقباط: “يا أيها المسلمون، وأيها الأقباط”، متحدثاً عن الوحدة الوطنية، ومشيداً بها؛ حيث قدمت للعالم أروع نموذج للثورة السلمية النبيلة، وكان ميدان التحرير مجلاها الأبرز، ورمزها الساطع.

دولة مدنية

وقد احتلت الخطبة معظم الصفحات الأولى في الصحف الرئيسة الصادرة في اليوم التالي التاسع عشر من فبراير 2011م، وقد أشارت إلى صفة الشيخ “رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، كما أشارت الصحف إلى الارتياح الذي لقيته الخطبة التي ألقاها القرضاوي في بلده بعد ثلاثين عاماً، فقد خلت مما عده العلمانيون والطائفيون وأشباههم محاولات ترمي إلى “أسلمة” الثورة المصرية! (كأن الإسلام “جرب” يجب الابتعاد عنه!).

وجاء عنوان صحيفة “المصري اليوم” “القرضاوي في إحدى أعظم خطب العصر الحديث يؤكد استمرار الثورة”.

من يقارن بين عودة القرضاوي إلى مصر بعد الثورة ضد نظام الرئيس السابق “حسني مبارك”، وعودة “آية الله الخميني” من باريس إلى إيران بعد الثورة ضد نظام الشاه.

وقالت الصحيفة: عاد “الخميني” ليحكم ويقيم دولة دينية، ولكن القرضاوي عاد ليعبر عن ثورة الشعب المصري بمسلميه ومسيحييه من أجل إقامة دولة مدنية.

وأبدى جورج إسحق، المنسق العام بحركة كفاية، لوكالة “فرانس برس”، الإعجاب الشديد بخطبة القرضاوي. وقال: إنه خطاب قومي مصري، وليس فيه أي إشارات بأنه يقود الثورة، أو أن الثورة إسلامية، بل هي تجمع كل أبناء الأمة، وحيَّا ما جاء في الخطبة من إشارة إلى شهداء المسيحية تاريخياً في مصر.

وتحت عنوان “ترحيب واسع بعودة القرضاوي بعد 30 عاماً”، كتبت صحيفة “الأهرام” الحكومية: لأول مرة بعد غياب دام ثلاثين عاماً عن ساحة الخطابة في مصر عاد الشيخ د. يوسف القرضاوي ليؤمّ صلاة الجمعة، وسط ترحيب شديد وهتافات.

وكتب المدوّن وائل غنيم على صفحة “كلنا خالد سعيد” على موقع “فيسبوك”: أروع ما في خطبة الشيخ القرضاوي قوله: لن أقول: أيها المسلمون، بل سأقول: أيها المسلمون وأيها الأقباط؛ لأننا كلنا مصريون، ووجه الخطبة كاملة لكل المصريين.

ولم يشر القرضاوي في خطبة صلاة الجمعة في ميدان التحرير الذي احتشد فيه ملايين المصريين، بحسب الصحافة المصرية، إلى أي بُعد إسلامي لثورة 25 يناير، بل رحب بانصهار المسلمين والمسيحيين والراديكاليين والمحافظين واليمينيين واليساريين في بوتقة واحدة لتحرير مصر من الظلم والطاغوت.

لا تكابروا

وتطرق القرضاوي في خطبته إلى التحركات الاحتجاجية التي يشهدها العالم العربي، قائلاً للحكام العرب: لا تكابروا، لا تناطحوا المريخ ولا تقفوا أمام التاريخ وأمام شعوبكم.

وحملت الخطبة نداءات إلى القوات المسلحة المصرية، وأيضاً إلى الشعب المصري وشبابه، فطالب القرضاوي الجيش بإقالة حكومة أحمد شفيق التي عيَّنها “مبارك”، وتعيين حكومة جديدة مدنية من الشرفاء أبناء الوطن، وبالإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين.

والتقى القرضاوي بذلك مع مطالب ائتلاف شباب ثورة 25 يناير الذي أشار في وقت سابق إلى المطالب التي لم تتحقق بعد، وهي: إلغاء قانون الطوارئ، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإطلاق الحريات العامة، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني من التكنوقراط، وإلغاء دستور 1971م.

وفي مساء يوم الجمعة الذي ألقى فيه الشيخ خطبته، أفرجت السلطات المصرية فعلاً عن 239 معتقلاً سياسياً، كما ذكرت “وكالة أنباء الشرق الأوسط” الرسمية.

ونادى القرضاوي بفتح معبر رفح في قطاع غزة، وقد أعلنت السلطات المصرية في وقت لاحق فتح المعبر أمام الفلسطينيين الراغبين في العودة إلى القطاع وليس أمام الراغبين في دخول مصر، فيما قد يبدو انعكاساً للتأثير الذي يحظى به القرضاوي.

دفعة قوية

لقد كان وجود القرضاوي في مصر عقب سقوط رأس النظام العسكري الذي استمر ستين عاماً دَفعة قوية للمصريين للاستمرار في الثورة، والمطالبة بحقوقهم في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وكان صمام أمان بحكم تأثيره الكبير في نفوس قطاعات عريضة من الشعب.

فقد طالب القرضاوي أبناء مصر من العمال والفلاحين الذين ظلموا كثيراً بالكف عن المطالبة بمطالب فئوية في هذه المرحلة والعودة إلى العمل.

وقال: أنادي كل من عطل العمل وأضرب أو اعتصم أن يؤدي خدمة لهذه الثورة بالعمل؛ لأن الاقتصاد المصري يتأثر، ولا يجوز أن نكون سبباً في الإضرار باقتصاد مصر، داعياً إلى الصبر قليلاً حتى تسير مصر في مرحلة البناء.

واعتمدت مناشداته للشعب على ما يكنه الشعب له من تقدير رسخته مواقفه التي سبقت الثورة أو رافقتها، فقد كان على تواصل دائم مع الجمهور المصري قبل الثورة ومنذ اشتعلت شرارتها في 25 يناير، ولم يتخلف يوماً عن إلقاء بياناته أو خطبه عبر قنوات “الجزيرة” الرئيسة أو “الجزيرة مباشر” أو “الجزيرة مباشر مصر”، وظل بعد الثورة يقدم وجهة نظره بقصد الترشيد والتصويب والإسهام في التعجيل بتحقيق أهداف الثورة.

لقد استُقبل في مشيخة الأزهر استقبالاً حاراً، وتم ضمه لهيئة كبار العلماء، وخطب في الجامع الأزهر، ورحبت به القنوات الرسمية والإذاعة والصحف؛ بوصفه ركناً أساسياً من أركان الثورة، ودعامة قوية من دعائمها.

لغة الجيش

كان القرضاوي مثل أغلبية المواطنين ممن بهرتهم لغة الجيش في وقوفه مع الشعب، ويذكر الناس أداء التحية لشهداء الثورة من جانب اللواء الفنجري، المتحدث باسم القوات المسلحة، لقد كان الجيش المصري يومها يحظى باحترام كبير في الشارع، وخاصة بعدما أبدى في أثناء التظاهرات الاحتجاجية قدراً كبيراً من الانضباط واستيعاب المتظاهرين؛ لدرجة أن المتظاهرين كانوا يصعدون فوق الدبابات ويلتقطون الصور مع الجنود المبتسمين.

لم يدخر الشيخ جهداً في تأييد دعوة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالكف عن الإضرابات التي اعتقد أن نتائجها ستكون “كارثية” على الاقتصاد المصري، وكان المجلس قد حذر من قيام بعض الفئات بتفضيل مطالبها الفئوية وتنظيم الوقفات والاحتجاجات التي تسبب تعطيل المصالح وإيقاف عجلة الإنتاج وخلق ظروف اقتصادية حرجة؛ مما يؤدى إلى تدهور اقتصاد البلاد.

كما وجه الشيخ القرضاوي الشكر إلى الجيش المصري، مشيراً إلى أن الجميع كان متأكداً ومؤمناً بأن رجال القوات المسلحة البواسل لن يضحوا بالشعب من أجل شخص، ولم ولن يستخدموا القوة ضد أفراد الشعب، وأن الجيش ليس بديلاً عن الشرعية التي يرتضيها الشعب.

ليس بديلاً

ومع ثنائه على دور الجيش آنئذ، وأنه لم يستخدم القوة ضد الشعب؛ لم ينسَ الشيخ أن يذكِّر الجيش والشعب معاً أن الجيش ليس بديلاً عن السلطة التي يرتضيها الشعب، ولعله كان يستشعر إحساساً دفيناً بالخديعة التي ستتحول بعد نحو سنتين من الثورة إلى مؤامرة دموية خسيسة ضد الشعب والدستور والحرية ومجلس الشعب المنتخب والرئيس الشرعي الذي تم اختطافه وإهانته بصورة شبه يومية في محاكمات هزلية وتهم ملفقة.

لم يكن الشيخ يدري ولا الشعب أن هناك جريمة تدبر بليل لمعاقبة الشعب المصري على ثورته النبيلة، ومواقفه الإنسانية مع قطاع غزة المحاصر، والشعب السوري المظلوم، وشعوب الأمة المهانة على يد الجلادين والطغاة وعملاء الغرب الصليبي واليهود الغزاة النازيين في فلسطين المحتلة.

كان الشيخ يغدو ويروح بين الدوحة والقاهرة طوال عامين تقريباً، شهد فيهما الشعب حالة من النهوض النفسي والفكري والروحي لمحو آثار الحكم العسكري في ستين عاماً، ولأول مرة تذهب الجماهير إلى صناديق الانتخابات بأعداد غير مسبوقة، وتقف في الطوابير الطويلة ساعات، لتقترع على من تريد وتختار، وجرت لأول مرة بعد ستين عاماً من التزييف والتزوير انتخابات نزيهة وشفافة لا تزييف فيها ولا تزوير، ولا نسبة خمس تسعات (0.99999%!) الشهيرة التي بدأت منذ عهد البكباشي مؤسس الحكم العسكري المهزوم دائماً!

جهاد طويل

كان الشيخ ينطلق في تأييده للثورة بوصفها امتداداً لجهاده الطويل من أجل الحرية والكرامة مذ كان طالباً في الأزهر الشريف حتى تجاوز سن الثمانين وقارب التسعين (الشيخ من مواليد عام 1926م، في قرية صفط تراب مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية)، فقد سجن وهو طالب أول مرة عام 1949م في العهد الملكي، ثم اعتقل ثلاث مرات في عهد البكباشي المهزوم دائماً في يناير 1954م، ثم في نوفمبر من السنة نفسها، حيث استمر اعتقاله نحو عشرين شهراً، ثم في عام 1963م؛ مما دفعه للسفر خارج البلاد، فتوجه إلى دولة قطر ليعمل مديراً للمعهد الديني الثانوي، ويحصل على الجنسية القطرية، ويتولى عام 1977م تأسيس كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر التي ظل عميداً لها إلى نهاية عام 1990م.

لقد كان جهاد القرضاوي متشعباً في مجالات الحياة المختلفة: الدعوة والفتوى والدفاع عن الإسلام، ومساندة المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وأهل فلسطين على رأس قائمة تأييده ومساندته ودعمه؛ مما سبب له متاعب عديدة، منها على سبيل المثال منعه من دخول بريطانيا وفرنسا، فضلاً عن جهاده العلمي، واجتهاده في قضايا الفقه ومستجدات العصر انطلاقاً من فكرة مقاصد الشريعة ومصالح المسلمين.

عودة الحكم العسكري

ظل الشيخ يساند الثورة في مصر ودول “الربيع العربي” حتى تمت الجريمة في 3 يوليو 2013م بالانقلاب العسكري الدموي، وإلغاء الحرية، والعودة إلى الحكم العسكري، فراح ينافح عن الثورة والثوار، واستنكر مذابح رابعة والنهضة ورمسيس والفتح والمنصة وأكتوبر وشوارع القاهرة والإسكندرية والمدن والقرى المصرية، ولكن الجريمة كانت مسلحة بالدبابات والطائرات والدم الذي يسيل في الشوارع بلا رحمة، مدعوماً بعصابات الكذب والنفاق والانتهازية والارتزاق والطائفية وكراهية الإسلام والمسلمين.

المصدر: المجتمع الكويتية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى