تقارير وإضاءات

“الشبكة العلمائية الدمشقية”.. القصة الكاملة من النشأة حتى التفكك

“الشبكة العلمائية الدمشقية”.. القصة الكاملة من النشأة حتى التفكك

إعداد ليلى الرفاعي

ملخص التحقيق

في هذا التحقيق، وبالاشتراك مع عبيدة عامر، وبالاعتماد على المقابلات والرصد الميداني بجانب الأدبيات والبيانات يحاول موقع ميدان تحديد العناصر الفاعلة في “الشبكة العلمائية الدمشقية” كياناتٍ وأفرادًا وتفكيك علاقات هذه الشبكة من ناحيتين: خارجية؛ علاقة الكيانات ببعضها، وداخلية؛ علاقة الأفراد داخل الكيان الواحد. ثم رصد ما طرأ على الشبكة من تفرعات وانقسامات، ثم محاولة فهم دينامياتها الداخلية وصولًا لاستشراف مستقبلها المرتبط بالضرورة بمستقبل سوريا اجتماعيًّا وسياسيًّا؛ بما تمثله وتحمله من رمزية دينية وأهمية ومكانة اجتماعية.

نص التحقيق
في دمشق، أرض التناقضات، بإمكانك الخروج من مقام رأس الحسين في الجامع الأموي، لتتجه يمينًا نحو بابٍ يقودك إلى مقام السيدة رقية، وإذا اتجهت يسارًا، فإن الباب سيوصلك إلى حي النقّاشات حيث قبر معاوية بن أبي سفيان، ولو مررت إلى جانب نهر ابنه يزيد الذي جفّ منذ زمن في منطقة الصالحية ستجد الناس هناك يقصدون قبر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي داخل مسجده الشهير تاركين وراء ظهورهم قبر شيخ الإسلام ابن تيمية الذي انمحى أثره أو كاد في منطقة البرامكة تحديدًا في جامعة دمشق حيث يجتمع الأقوام من كل حدب وصوب. كان المشهد على سطح الأرض لا يقل تناقضا عن باطنها، خصومة جلية وتناحر يصل حدّ العداوة، دينيا بين الشيخ الأكبر “بن عربي” وشيخ الإسلام “بن تيمية” على حراسة الدين ومنطلقاته العقدية، وتناحر سياسي لازالت مشاهده قائمة بين معاوية والحسين على منظومة مُلك المسلمين؛ مشهد سيظل متكررا في دمشق: تشابه وتقارب في ظاهر المباني، واختلاف وتباعد في باطن المعاني.

بالقرب من كل هذا؛ حيث تقبع كلية الشريعة على جسر الرئيس الفاصل بينها وبين فندق الفورسيزون كان الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي يخرج من محاضرات العقيدة التي يدرِّس بها درّة كتبه “كبرى اليقينيات الكونية” متجها إلى مسجد الإيمان، يلقي هنالك درسه الأسبوعي “شرح رياض الصالحين” قبل أن يعود إلى بيته في حي ركن الدين، حيث ما زال ورثة الشيخ ابن عربي حول مقامه، يحملون تركته، أقربهم مسجد الشيخ عبد الغني النابلسي، وأبعدهم مسجد أبو النور وفيه يمارس أتباعه الطقوس الصوفية النقشبندية، بجانب معهده الذي يدرّس العلوم الشرعية، مشابها بمبناه “معهد الفتح الإسلامي”، البعيد طريقًا وطريقةً، والمتصارع معه على تصدّر المعاهد الشرعية، والذي أسسه صالح الفرفور تلميذ علامة دمشق والمحدث الأكبر بدر الدين الحسني، بجانب زميله ومعاصره عبد الكريم الرفاعي، الذي يسمى باسمه المسجد الذي لا تخطئه العين في مدخل تنظيم كفرسوسة، الحي الدمشقي الراقي، في شبكة “علمائية” للنخبة الدينية الدمشقية السنية، والتي لا تقل تعقيدًا عن شوارع دمشق وحاراتها القديمة، ومؤكدة أضدادها ما بين المبنى والمعنى.

اليوم؛ لم يبقَ من الشبكة ظاهريًّا شيءٌ مما كان عليه؛ اغتيل البوطي في مسجده، وتغير اسم مسجد عبد الكريم الرفاعي ليصبح مسجد كفرسوسة الكبير  بعد نفي آل الرفاعي خارج سوريا إلى تركيا، وتحالف الخصماء في “معهد الفتح الإسلامي” و”مجمع أبو النور” بجانب “مجمع (حوزة) السيدة رقية” الشيعي ليشكّلوا “جامعة بلاد الشام” تحت مظلة وزارة التعليم العالي ووزارة الأوقاف، في اختلال بدا جوهريا لديناميات الشبكة وعلاقاتها مع المجتمع والسلطة، حيث يأتي كل ذلك ضمن الاختلالات الكبرى التي أحدثتها ثورة آذار 2011 السورية. أما باطنيًّا فالشروخ والانقسامات والامتدادت عقّدت الشبكة ووسّعتها من ناحيتين: ناحية جغرافية؛ لا خارج دمشق وحسب، بل خارج سورية حاملة بذور الشبكة الأولى وانقساماتها. وناحية وظيفية؛ إذ أصبح حراس الدين إغاثيين ومفاوضين سياسيين وحتى قادة عسكريين بجانب وظيفتهم الدينية والاجتماعية الأساسية.

في هذا التحقيق وبالاعتماد على المقابلات والرصد الميداني بجانب الأدبيات والبيانات يحاول موقع ميدان تحديد العناصر الفاعلة في هذه الشبكة وتفكيك علاقاتها معًا، ورصد ما طرأ عليها من تفرعات وانقسامات، ثم محاولة فهم دينامياتها الداخلية وعلاقاتها وصولًا لاستشراف مستقبلها المرتبط بالضرورة بمستقبل سوريا اجتماعيًّا وسياسيًّا؛ بما تمثله وتحمله من رمزية دينية وأهمية ومكانة اجتماعية.

العرّابون

عشيةَ إصدار فرنسا العفوَ عن المحكومين بالإعدام عامَ 1937 عاد الشيخ الإصلاحي محمد كامل القصاب إلى سوريا بعد 17 عامًا من النفي والحكم بالإعدام لمعاداته فرنسا وتجييشه لمعركة ميسلون، مع معاصِرَيه بدر الدين الحسني وعلي الدقر، لم يكن قصاب مؤسسُ “المدرسة الكاملية” المعروفُ بهمَّته المتقدّة بعد عودته من منفاه متقبِّلًا الفرقةَ الحاصلة في صفِّ علماء دمشق ولا سكوتَهم تجاه إجراءات الانتداب الفرنسي على الأراضي السورية[1].

وبجهودٍ عملية -كما هو المعهود عنه- حاول الشيخُ الإصلاحي توحيدَ الكلمةِ والجهر بها عن طريق جمعِ المشايخ التقليديين مع “الشباب المتعلمين” تحت اسم “جمعية العلماء”، وكان أحد إنجازات هذه الجمعية هو إقناع الرئيس السوري تاج الدين الحسني بتأسيس أوَّل ثانوية عامة في دمشق، إلا أن إنجاز “جمعية العلماء” الأهم كان قبل ذلك بأربع سنوات؛ أي عام 1938 تحديدًا يومَ نظّمتْ “مؤتمرَ العلماء”، الذي جمع 100 عالم من سوريا ولبنان وفلسطين والعراق[2].

متجاوزًا الحظ الشخصي وساعيًا لتوحيد التيارات حرص الشيخ المجاهد قصاب أن تشارك كل الأسماء الدينية الدمشقية الفاعلة؛ فقد ضمّ المؤتمر آنذاك في قائمة مشاركيه من المشايخ التقليديين الشيخ البارز علي الدقر مؤسس جمعية الغراء أقوى الجمعيات الإسلامية في دمشق رغم التنافس بينه وبين قصاب، وكذلك ضمت الناشطين الشباب الذين كانوا يستعدون وقتها لتأسيس الفرع السوري لجماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم مؤسس الجماعة ومراقبها الأول مصطفى السباعي، إضافة إلى مصطفى الزرقا ومحمد الحامد ومعروف الدواليبي[2]، جاء البيان النهائي للمؤتمر متوقعا، فقد أكد على ضرورة تعزيز العلاقات بين العلماء والجمعيات الإسلامية ومنظمات الشباب المتعلم[أ]. في هذا السياق، يؤكد الباحث توماس بيريه أن الذي جمع تلك التيارات في “مؤتمر العلماء” كان الوساطة الثقافية للشيخ قصاب متكئة على الخوف المشترك من نوايا وإجراءات الفرنسيين التي سعت للعلمنة الفجة للدولة والمجتمع.

ومع موت الشيخ المعمر القصاب عام 1954 ماتت معه “جمعية العلماء”، وأدى انسحاب العدو الفرنسي الجامع عام 1946؛ إلى خفوت بريق الأسباب الجاذبة بين كلٍّ من المشيخة والشباب المتعلم، فانطلقوا بتأسيس أذرعهم السياسيةِ المنفصلةِ؛ “رابطة العلماء” للمشيخة، و”الإخوان المسلمين” للشباب المتعلمين حسب وصف بيريه[2].

ببدلته الأنيقة ذات الثلاث قطع وشاربه الرقيق ومشاركته بالنشر والسياسية ومقالاته الحديثة وأفكاره غير التقليدية كان السباعي -الشاب المتعلم- تمثيلًا للداعية لا الشيخ؛ أي: المفكر والناشط الإسلامي، لا المحافظ التقليدي، في تمايز تنبأ به قصّاب، والذي بدأ يتجلّى بأدوات العمل والمطالب السياسية من ناحية والتصورات من ناحية أخرى، وانعكاسًا لهذ التمايز الفعلي، بدأ المستوى الثاني من العمل والأفكار يظهر عيانًا بتبلور رؤية وطنية على مستوى سوريا كلّها للإخوان مقابل تشظٍ قطريٍ للمنظمات السياسية العلمائية حسب بيريه[2]، وبحث عن الحقوق والإصلاحات السياسية الجوهرية للدولة (الديمقراطية والانتخابات وآلية الحكم على سبيل المثال) لدى الإخوان مقابل مطالب فئوية دينية وأخلاقية وتعليمية (إسلامية الدولة وسماح/ منع الحجاب وتعديلات المناهج وقانون الأحوال الشخصية على سبيل المثال)، المستوى الذي سيسيطر على الحقبة القادمة وما بعدها.

الآباء المؤسسون.. صراع الوجود
أحمد كفتارو (الثاني من اليمين) ومصطفى الرفاعي (الرابع من اليمين)  (مواقع التواصل)

بسحنة إسلامية تقليدية وبهيئة مشيخية يقف أحمد كفتارو مؤسس مجمع أبي النور ومفتي سورية لأكثر من ربع قرن، بصفٍّ واحد في صورة نادرة مع مصطفى السباعي المراقب العام الأول للإخوان السوريين بنظرته الحادة. كان السباعي وكفتارو تجسيدًا حقيقيًّا للتيارات الإسلامية –الإخوان والإسلاميون التقليديون- المسيطرة على المشهد السوري في تلك الفترة، التياران اللذان توازيا ولم يلتقيا بعد مؤتمر جمعية العلماء إلا في 17/ 5/ 1957 يومَ فُتح باب الانتخابات على مقعد في المجلس النيابي السوري، وترشّح “رياض المالكي[ب]” ممثلًا عن حزب البعث والتجمع القومي بخلفيتيه الشيوعية العلمانية، الأمر الذي أرهب مشايخ دمشق وجمعهم لاختيار منافسٍ للمالكي، للمرة الأولى – وربما الأخيرة – تنتخب المشيخة ممثلًا عنها من الإخوان “السباعي” لتدعمه في انتخابات سياسية[3] [4].

آنذاك انقسم الشارع الدمشقي إلى قسمين: إسلامي متماسك بكل تياراته بوجه الشيوعيين الباحثين عن منصب سياسيي. دعم كل مشايخ دمشق من منابرهم مرشحهم ضد حزب البعث باستثناء وحيد شق هذا الإجماع؛ فعلى مقربة من دمشق آنذاك وفي قلبها وبمسجد أبي النور قُرب المنبر وتحديدًا على يمين المحراب كان المشهد معكوسًا بخصومٍ متحالفين، حيث يجلس كفتارو واعظًا وعلى يمينه رياض المالكي مرشح الشيوعيين، نعم؛ اختار كفتارو “رجلُ الدين التقدمي”[ج] [5]  [6] شقَّ الصفِّ المشيخي والتشويش على الشارع الدمشقي، مقابل حلفاء أكثر قوة مستقبلًا[7].

 خسر السباعي حينَها الانتخابات في أكبر معركة انتخابية مقابل فوز المالكي وبدء حزب البعث بالسيطرة على زمام الأمور في الدولة، لم يكن خسران السباعي مقتصرًا على المستوى السياسي وحسب بل كان بداية شرخٍ حقيقي لكلمة مشيخة دمشق، شرخ يؤسس له كفتارو الذي وصفه السباعي فيما بعد بـ “شيطان يتظلّم”[د].

صورة كفتارو وحافظ الأسد (مواقع التواصل)

عام 1963 وتحديدًا بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، أُقيل أبو اليسر عابدين مفتي الجمهورية حينَئذٍ وفُتح باب الانتخاب، فأجمع علماء دمشق على ترشيح شيخ الميدان: “حسن حبنكة الميداني” لكن الإجماع لم يكتمل للمرة الثانية في صف الشيوخ التقليديين؛ إذ أعلن كفتارو ترشيحَ نفسه مقابل الميداني، وفاز بفارق صوت واحد محتكرا منصب مفتي سوريا لـ 40 سنة قادمة، في واقعة لا ينساها له مشايخ دمشق.

وبإقالة أبي اليسر، وتعيين كفتارو أُعلنت نهاية محاولة المأسسة التي طمح لها العلماء والمشايخ؛ فلا الدولة جعلت العلماء والمشايخ والقائمين على المساجد موظفين عندها، ولا هي سمحت لهم ببناء هرمية علمية-مهنية تسمح بتعريف المشيخة وتحديد مراتبها واحتكار المعرفة الدينية؛ مما أدى إلى تفرق هذه الفئة وانقسامها إلى عشرات من المجموعات المشيخية المتنافسة والمختلفة في قربها من مركز النظام الحاكم[8].

في صبيحة (25/4/1967م) استيقظ المجتمع السوري على مقالٍ غريب نشرته مجلة (جيش الشعب) الصادرة عن إدارة التوجيه المعنوي للجيش والقوات المسلحة، للكاتب (إبراهيم خلاص)، عنوان ” الطريق لخلق إنساننا العربي الجديد”، ورد فيه: “لسنا بحاجة إلى إنسان يصلي ويركع خاشعاً ذليلاً، بل نحن بحاجة إلى إنسان اشتراكي ثائر.. إن الطريق الوحيدة هي خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن أنّ الله والأديان والإقطاع والرأسمال والاستعمار والمتخمين وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنطة في متحف التاريخ”، كلمات استنهضت كوامن الغضب في الشارع السوري وفي نفوس الصف المشيخي الناقم على البعثيين وسياستهم، وما كان من رابطة علماء دمشق إلا أن اتخذت موقفا مجابهًا مع سلطة البعث وبدأت بالتنديد والتجييش على منابرها، فسارع النظام السوري آنذاك إلى عزل عدة خطباء؛ كالشيخ حسن حبنكة ومحمد فؤاد شميس ومحمد عوض وعبد الكريم الرفاعي وأبو الفرج الصلاحي وغيرهم ، فاتفق مَن بقي من العلماء على أن تبقى منابر المعزولين خاليةً، لكن مفتي الجمهورية كفتارو باغتهم بتعيين خطباء من جماعته نكاية برابطة العلماء[9]، محاولًا التمايز عن علماء دمشق لا بعدم أخذه عن شيخهم جميعًا بدر الدين الحسني فحسب، بل بوقوفه خصمًا في وجههم أمام كل حراكٍ بين العلماء والسلطة.

وما بين حراسة الدين وحفظ الدنيا رَسَمَ الصراعُ العلمائي في هذه المرحلة المشهدَ بانقساماتٍ لم تؤسس لكل ما بعدها من تناحر الفرقاءِ فقط؛ بل رسمت حدودًا واضحة لتطور المجتمع العلمائي ووسائله في التعامل مع التحديث والمأسسة المترافقين مع تأسيس الدولة، والذي كان أبرز مظاهره تأسيس الثانويات الشرعية ثم كلية الشريعة عام 1954 والتحول التدريجي – الموازي – من الإجازات الشرعية بالمتون وحلقات العلم في المساجد إلى دبلومات بالمناهج الخاصة التي يضعها مؤسسو المعاهد الشرعية الجديدة، الملتفة عادة حول مؤسسيها وجماعاتهم، وعلى رأسها:

معهد الدعوة والإرشاد، المشهور باسم معهد أبو النور، عام 1975، الذي أسسه كفتارو، شيخ الطريقة النقشبنديّة، ومعهد الفتح الإسلامي، الذي أسسه صالح الفرفور عام 1956، ومعهد التوجيه الإسلامي، الذي شكل مع “مجلس القراء” في حي الميدان ما سيتعارف عليه باسم “جماعة الميدان”، الملتفة حول شيخها الثائر حسن حبنكة الميداني، في حين انطلقت جماعة “زيد”، كمحاولة للتعامل مع “علمنة” حزب البعث للمجتمع، بوصفها حركة تربوية وتعليمية بين خريجي الجامعات العلمية والتطبيقية في شبكة من المساجد التي قادها عبد الكريم الرفاعي[2]؛ صراع أفقي داخل المجتمع العلمائي سيبدو صغيرًا أمام الصراع العمودي الأكبر الذي تحملت عبأه وخسارته الكبرى جماعة الإخوان المسلمين في وجه الدولة، والذي كان السبب الرئيس لإعادة تشكل المجتمع العلمائي الصغير والمجتمع السوري الكبير، بتأسيسه على قواعد جديدة: “قواعدحماة“، المجزرة التي قتل بها النظام السوري أربعين ألف مدني عام 1982.

سؤال المعركة

في آذار/مارس 1980 استقبل حافظ الأسد قيادات الجماعات التعليمية في دمشق؛ للتعبير عن غضبه من مشاركة بعض أتباعهم في الانتفاضة المسلحة بين الإخوان المسلمين والنظام، ومنحهم مسؤولية التفاوض مع المجموعات المسلحة؛ إذ كانت  “الطليعة المقاتلة” المنشقة عن الإخوان قد بدأت قبل ذلك بعام حراكًا عنيفًا مسلحًا ضد النظام، على أن دور العلماء كان ثانويًا في الأزمة نفسِها، إلا أن مساهمتهم بصعود الأحداث لا يمكن تجاهله؛ فقد كانوا المعلمين الأساسيين لـ”جيل الصحوة” الذي انتفض بوجه البعث، وهم الذين ولدوا المتمردين روحيا، وأحيانا بيولوجيا؛ مثل الشيخين أحمد إكبازلي، ومحمد الحجار..

محمد الحجار (مواقع التواصل )

لم يكن النظام واثقًا من كلِّ قيادات الجماعات التعليمية في دمشق؛ حيث كانت مواقفها متباينة؛ ففي حين كانت جماعة الميدان وريثة الشيخ الثائر حبنكة الميداني هي الأكثر انخراطًا من بين هذا الطيف في المعركة ما أدى إلى اندثارها ككيان كامل مع بقاء بعض الشخصيات الكبيرة سنًّا، كانت جماعة زيد تتبنى موقف “لننتظر ونرَ”؛ إذ لم يُرد الصف الأول من الجماعة معارضة النظام بشكل مفتوح، ولا الدفاع عنه كذلك، ورغم أن عقوبة من يسأل شيخه عن موقفه من الطليعة المقاتلة كان الطرد من الجماعة فإن هذا لم يمنع الصف الثاني من قيادة زيد بالتأثير على بعض شباب الجماعة للانضمام إلى “الطليعة المقاتلة” الأمر الذي أدى إلى توجّه الجماعة إلى المنفى بأمر من الأسد.

ولم يكتفِ كفتارو بالاصطفاف الصلب إلى جانب الأسد في معركته مع الإخوان، بل سارع بملء الفراغ الذي خلّفه نفي جماعة زيد من منابر المساجد، بما يملكه من سلطة دينية بوصفه مفتي الجمهورية، وكحال كفتارو كان صالح الفرفور، الذي اشتُهر بِحثِّه أبناءه على الانتساب لحزب البعث في الأيام الأولى لتأسيسه، كان أقرب في موقفه إلى الأسد منه إلى الإخوان المسلمين، وهذا ما دفع بيريه لوصف “كفتارو والفرفور” بالـ “المقاولين الفرعيين” المنفصلين عن وزارة الأوقاف وبيروقراطيتها، وبالوقت ذاته هم تابعون لسلطة الأسد وسيطرته والمكلفين بإدارة المجال الديني، الموقف الذي سيُفقدهم شيئا من مصداقيتهم لدى فئة واسعة من المجتمع بما سيمهد لصعود لاعب جديد سيتصدر الساحة الدينية لمدة قد تصل لثلاثة عقود، بما دفع بيريه لوصفه بـ”كاهن القصر الرئاسي”، لا بخلفيته العلمية الدينية والأكاديمية، فحسب، بل بالدور السياسي المختلف الذي سيلعبه الشيخ الكردي والكاتب المفكر محمد سعيد رمضان البوطي.

احتل البوطي الذي تعلم في معهد حبنكة الميداني دراسته الدينية، وحصل على شهادة دكتوراه في العلوم الدينية من الأزهر، انضم إلى كلية الشريعة في جامعة دمشق؛ احتلَّ موقعًا استراتيجيًّا عند تقاطع نمطين من الإنتاج الفكري “العلم، والفكر” لا في سوريا فقط، بل في العالم العربي، واشتُهر بدحضه الأيدولوجيات “المستوردة” من الغرب، وقد يبدو البوطي بهذه المعطيات غيرَ ملائمٍ لأن يكون حليفا استراتيجيا لنظام علماني معتمد على القومية والاشتراكية، لكن في الحقيقة كان الأسد الأب المعروف بأنه لا يعطي زائريه أكثر من بضع دقائق؛ يمنح البوطي لقاءات شخصية مطولة، وكان هذا بالفعل انعكاسًا لأهمية الخدمة التي قدَّمها البوطي للنظام: العالِم الذي ظهر لإنقاذه لم يكن “شيخا بعثيا” مجردا من أي مصداقية، بل كان كاتبا ناجحا سطع نجمه وراء حدود البلاد.

أصبح البوطي شخصية “بابوية” بمركزيته في المشهد الديني السوري، مركزية تشكلت ورسخت بفضل حرية التعبير التي أُعطيت له ومُنعت عن معظم أقرانه أولًا، وبوصفه شفيعًا ووسيطًا للإسلاميين السجناء والمنفيين، عند حافظ الأسد ثانيًا، وساطةً أعادت شخصيات دينية ثقيلة في منتصف التسعينيات أمثال هشام البرهاني، والزعيم الروحي للإخوان المسلمين عبد الفتاح أبو غدة، وأسامة وسارية أبناء عبد الكريم الرفاعي وقادة جماعة زيد من بعده، الجماعة التي اكتفى النظام بنفي علمائها الأساسيين دون محاولة إنهاء المستويات الدنيا منها، بما سمح لها بإعادة بناء الحركة بهدوء منذ منتصف التسعينات حتى وفاة الأسد الأب مطلعَ الألفية؛ حيث ستلعب الحركة دورًا مختلفًا.

لاعبون جدد- قدماء

توفي حافظ الأسد، وكما المتوقع كان “كاهنُ القصر الرئاسي” إمامَ صلاة الجنازة عليه، المناسبة التي ذرف فيها كثيرًا من العبرات، عبرات لم تشفع له بحظوته القديمة باللقاءات الشخصية مع الرئيس الأسد الابن؛ في موقف، يوصف بالمهين، سيتكرر مع حسام الفرفور، ابن الحليف السابق و”المقاول الفرعي” صالح الفرفور، الذي اضطر للانتظار ساعة كاملة ليقبل يد الرئيس الجديد بعد صلاة العيد، منتصف الألفية، ويضع بها طلبا شخصيا بإعادته لمنبر خطابته القديم الذي عُزل عنه، كما هو حال نظرائه الكفتارية الذين فقدوا مركزيتهم السابقة، لصالح فاعلين جدد غير متوقعين: خصومهم على المجال الديني، وأعداء النظام القدامى: جماعة الميدان، التي سمح للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني، ابن شيخها حسن، بالعودة عام 2004، وجماعة زيد، حظي شيخهم أسامة الرفاعي دون غيره من كل العلماء بزيارة خاصة من بشار الأسد، الذي وجد نفسه أمام مجتمع أكثر تدينا باحث عن ممثلين دينيين أكثر مصداقية، وفي قلب إقليم ملتهب بأحداث كبرى (انتفاضة الأقصى، الأزمة اللبنانية، احتلال العراق، أحداث الحادي عشر من سبتمبر) تهز عرشه المرتجف الذي يبحث عن شركاء جدد أكثر انتشارا شبكيا ومصداقية اجتماعية.

جماعة زيد، التي بقيت “حركة” بالمعنى الأصيل تجد جذورها داخل الطبقة التجارية الدمشقية الوسطى بما يفسر تقرب النظام الساعي لاستمالة هذه الطبقة عن طريق الجماعة، وسعت شبكتها لعشرات المساجد، يتصدرها: مسجد “زيد بن ثابت”، الذي يدعوه أتباعه “الأم الحنون”، ويؤمّه الابن الثاني للرفاعي، سارية، المعروف بأنه “شيخ التجار” حسب تومس بيريه[2]، والمسجد الثاني سمي على اسم عبد الكريم الرفاعي، وبني في تنظيم كفر سوسة البرجوازي في التسعينيات، ويؤمه أكبر أبناء الرفاعي، أسامة، أول نظراء العلماء.

أما المسجد الثالث الكبير لجماعة زيد هو مسجد الإيمان، بجانب مقرات حزب البعث في حي المزرعة، حيث تجتمع الحشود لتحضر دروس المتخصص بالحديث نعيم العرقسوسي، وأخيرا المسجد القريب منه، الحمزة والعباس، في حي العباسيين المختلط بين المسلمين والمسيحيين، وخطيبه هو الشاعر نذير مكتبي، الذي واصلوا به المنهج “التربوي والدعوي” للأب المؤسس، وتوجهه السياسي كذلك، إذ ينشر موقع الحركة الشهير “صدى زيد”، مقالات لكتاب مثل مصطفى السباعي ويوسف القرضاوي والمعارض السعودي السابق المعتقل حاليا سلمان العودة.

 إضافة لمقالات من أعضاء زيد حول قضايا مثل الديمقراطية والعلمانية، بجانب نشاطاته المتنوعة التي توسعت لتضم المشاريع الخيرية، وأشهرها “حفظ النعمة”، ومركز زيد لخدمة القرآن، وحتى أنهم أسسوا عام ٢٠٠٨ قناة لم يطل عمرها: قناة الدعوة، بجانب شبكة “معهد الفرقان للعلوم الشرعية”، بالتوازي مع شق أفراد من الحركة طريقهم لمناصب تنفيذية كبرى مع وزارة الأوقاف، دون أن ينجح النظام بتحويلهم إلى متملقين له، لكن شهر العسل بين النظام والعلماء لم يدم طويلًا.

محمد عبد الستار (مواقع التواصل)

مطلعَ عام ألفين وثمانية استُبدل وزير الأوقاف الكفتاري زياد الأيوبي بمدير أوقاف  “محمد عبد الستار السيد” الذي قام بعد بضعة شهور وبأوامر من مكتب الأمن القومي بتغيير مفاجئ لإنهاء “استقلالية” العلماء للسبب ذاته الذي أدى لمنحهم إياها “السياسية الخارجية” متمثّلةً بسيطرة ميليشات مؤيدة للنظام السوري على بيروت الغربية، ودعوة بشار الأسد لحضور احتفاليات ال14 من يوليو/تموز في باريس؛ إذ بدأ الوزير الجديد بسلسلة من “الإصلاحات” التي تهدف في جوهرها لاستدخال العلماء تحت إدارة الدولة مترافقةً مع تأسيس رسمي لأول معهد شرعيٍّ رسمي تدريه الدولة: “مركز تأهيل الدعاة والتنمية البشرية” بينما كانت وزارة الأوقاف تمرُّ بتوسيع بيروقراطي ضخم بمواردها البشرية وصل إلى 1500% بالمقارنة بعام ألفين، جاءت بالتوازي مع تعزيز النظام لقبضته الأمنية ضد العلماء واعتقاله عددا منهم مثل الشيخ الشاب بجماعة زيد عبد الرحمن كوكي، وتشجيعه لانقلاب قام به عدد من المشايخ الكفتاريين ضد ابن شيخهم الأكبر، والأهم؛ اتخاذه عددا من الإجراءات للحد من التدين في المجتمع مثل إغلاق المصليات في المراكز التجارية، ومنع النقاب في المدارس وتحويل أكثر من 1000 معلمة منقبة لمناصب إدارية[2].

حينها كان دكاترة كلية الشريعة في جامعة دمشق منشغلين بصراع حادٍّ ومباشر مع النظام السوري؛ بسبب حراكهم للوقوف في وجه بعض القوانين التي يحاول النظام فرضها على المجتمع السوري كـقانون “حقوق الطفل”، وبسبب توغلهم داخل وزارة الأوقاف ومديرية الأوقاف؛ اللتين يشكل خريجو كلية الشريعة السوادَ الأعظم العامل فيهما. لم يقف الأمر عند هذا، بل حاول دكاترة الكلية تأسيس “جمعية خريجي العلوم الإسلامية” لكنّ الأمن القومي منعهم من ذلك، وشدد الملاحقة والرقابة عليهم حتى داهم بيوت 3 منهم واعتقلهم لأسباب شخصية، في سلسلة من الاعتقالات التي انتهت بمنع سفر وقرار بتسريح ١٠ أساتذة من كلية الشريعة، 6 من دمشق رغم أنهم محسوبين على البوطي، و4 من حلب، نهاية عام ٢٠٠9م[10].

حدَّت هذه المواجهة من الظهور الاجتماعي لدكاترة الكلية مقابل  صعود اجتماعي وسياسي بدأ بالتراجع لجماعة زيد لم يلغِ أدوار الحلفاء السابقين ولم يحدّ من صعودهم النسبي كذلك، فرغم تراجع حظوة البوطي لدى القصر إلا أنه بقي “العالم المفضل” لدى النظام ولدى المجتمع وعلى وسائل الإعلام، كما حاولت المعاهد الشرعية للمقاولين الفرعيين الاستمرار بنشاطاتها المعتادة رغم القبضة الأمنية راضيةً بالاستدخال في وزارة الأوقاف والتنازل عن شيء من استقلاليتها، عشيّة الثورة السورية، قبل أن يسدل الستار مجددا على مرحلة أخرى من مراحل الشبكة العلمائية، أو بالأحرى، يُهدم المسرح كاملا.

على حافة الضوء

ربما كنت لتبدو ليلة الـ27 – المعتقد أنها ليلة القدر – من رمضان 2011م؛ ليلةً عاديّةً كسابقاتها من ليالي مسجد “عبد الكريم الرفاعي” بمنطقة “كفرسوسة” الدمشقية الراقية؛ حيث يتجمهر الآلاف من دمشق لا من تجارها أصحاب الصلة الوثيقة بالعائلة المشرفة على المسجد فحسب بل من عامة أهل دمشق وريفها وبعض المحافظات لصلاة التراويح خلف إمامي المسجد بلال أسامة الرفاعي، وطه سكر في ليلة خير من ألف شهر، ولالتماس بركة الليلة كاملة ضمن برنامج عبادة -كما المعتاد سنويًّا- يشمل الصلاة والأوراد والإنشاد والتسابيح والتهجد والدعاء ليُختم بسحور جماعيٍّ متبَرَّع به من تجار دمشق، الذين اشتُهر سارية الرفاعي بلقب متصل بهم “شيخ التجار” حسب الباحث بيريه.

إلا أن الليلة لم تكن غير عادية فحسب بل كانت مفصلية في تاريخ المسجد وأئمته؛ فرغم سيرورة البرنامج على ما هو عليه إلا أن الدعاء الأخير الذي عرّج على ذكر المعتقلين هيج عواطف المصلين، فانهار حاجز الدموع وبدأ الناس في ساحة المسجد الممتلئة يرددون: “يا الله” بعد كل دعاء بما أوتوا من قوة الصوت والكبت، غير آبهين بأمن النظام السوري المتربص حول المسجد ترقّبًا لأي حراك من الجموع الغفيرة على غرار ما يحدث يوم الجمعة بعد الخطبة. بعد انتهاء الدعاء وتوزيع السحور غادر قسم من المعتكفين المسجدَ سراعًا بعد تعالي شائعة بأن الشباب سينهون الليلة بمظاهرة كبيرة، وبالفعل تراصت الصفوف وبدأت الهتافات واحدًا واحدًا والكل يأمل أن معية الله معهم في الليلة الفضيلة وبأنهم من موقعهم هذا سيسقطون الأسد، فللمرة الأولى وفي وسط دمشق ومسجد الرفاعي هتف الناس: ” الشعب يريد إعدام الرئيس”، الأمر الذي أسعر الأمن فحاولوا اقتحام المسجد بغطاء من وابل رصاص حيٍّ وغازٍ مسيل للدموع يتهاطل على ساحة المسجد المفتوحة، وقناصات موجهة إلى زجاج المسجد وإنارته؛ حوصرت الناس وتحوّلت المظاهرة إلى اعتصام، بحسب ما تروي رواية “على حافة الضوء” المكتوبة عن تلك الليلة فقط.

وكانت ساحة المسجد الخلفية الواصلة بينه وبين مصلى النساء يومَها مسرحًا لحدثٍ مهم ضُرب فيه شيخ الجماعة أسامة الرفاعي من قبل الأمن، بينما كان يهم بمحاولة تهدئة الناس، وشاعت رواية حينها بأن دم الشيخ الثائر سال على المحراب ما منحه التصدّر الدائم لفترة قادمة على الساحة الثورية والإعلامية[11].

وبعكس الضوء الذي وُقف عند حافته تلك الليلة؛  تخلت الجماعة عن سياستها بالوقوف على حافة القرار وعدم إعلان موقفها صراحة، وامتدادًا لخُطب أسامة الرفاعي التي انتقدت عنف النظام وحملته المسؤولية ودعته للإصلاح بدا أن قيادة الصف الأول بها تخلت أخيرا عن إستراتيجيتها الكلاسيكية التاريخية “لننتظر ونر”،  دفعا لا رغبة؛ دفعا من قاعدتها وصفها الثاني الذي لم يعد يحتمل الانتظار، ومن النظام الذي تخلى عن تقاربه معها وسلّط شبيحته لضرب شيخ الجماعة أسامة الرفاعي، الدفع الذي يفسر عدم استخدام الجماعة لحظوتها وحضورها بين التجار لحشدهم في مواجهة النظام، ولم يعملوا لتفعيل شبكاتهم الاجتماعية والدينية داخليا وخارجيا للتأثير ثوريا، بل ازدادوا انزواء على أنفسهم وحاولوا ترويض شباب الصف الثاني الذين كانوا أكثر انخراطًا وثوريةً كالطبيب محمد حمزة الذي مازال معتقلًا عند النظام، وباسل هيلم الذي اعتقل وكان من شروط الإفراج عنه خروج سارية الرفاعي وأسامة الرفاعي من دمشق إلى خارج سوريا، وإشغال من بقي من الصف الثاني بقضايا ومناصب إدارية واجتماعية بعيدة عن الفاعلية الثورية[12]، ولم تكن جماعة زيد وحدها تترنّح على حافة القرارات ويغلي أبناؤها من امتداد موجة الثورة لهم، بل كان هذا حال الجماعات الدمشقية كلها مؤسسات وأفراد، ومساجد سلّطت الثورة عليها ضوئها.

فعلى بُعد 4 كم من مسجد الرفاعي، وتحديدًا في “المزة” أكثر مناطق دمشق “أرستقراطية” أخذ نجم “مسجد الشافعي” يسطع مع بدء الثورة، مسجدٌ يتربّع بين عدة سفارات ويقرب من مركز “الأمانة السورية للتنمية” الذي ترأسه أسماء الأسد، ويؤثر خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حينها أن يصلي الجمعةَ فيه دون غيره؛ لقربه من منزله ولعلاقته الطيبة مع خطيبه محمد أبو الخير شكري[13]، كما يشتُهر المسجد -الذي قيل إن أبا محمد الجولاني القائد العام لهيئة تحرير الشام- جبهة النصرة سابقًا كان يصلي فيه-  وبارتياد أبناء حماس له بانتظام، الأمر الذي جعل أبناء المسجد يحتكون مباشرة بتجربة حركية سياسية مختلفة عمّا اعتادوا عليه، تجربة انتهت في دمشق بنهاية الإخوان أوّل الثمانينات.

 مسجد الشافعي (مواقع التواصل)

هذه التجربة الحركية مقرونةً ببُعد طيفٍ واسع من الصف الأول للمسجد كـ “بشار تللو” و”عاصم الباشا” عن الحالةِ المشيخيةِ جعلت أبناء المسجد مهيئين لحمل بذورٍ من العمل الثوري المختلف عن غيرهم، بذور نضجت بعد وقت يسير من بدء الثورة.

ومن جامع الحسن حيث دفن شيخ الميدان الثائر “حسن حبنكة الميداني” في منطقة المَيدان، وبنزق الثّوّار ونَفَسِ مجاهدي الميدان كان “شيخ القراء” كريم راجح آخر من بقي من جماعة الميدان يخطبُ الجمعة بالشباب حاضًّا إياهم علانية على المشاركة بالمظاهرات وعدم التواني عن الانخراط بأي حراك ثواري، وعدم الإذعان لسلطة النظام، غيرَ عابئٍ بمئات “الشبيحة” المسلحين المحيطين بمسجده المتربصين بجموع المصلين، وهو المشهد الذي ألفوه.

أما في الجامع الأموي، درّة مساجد دمشق وعمدتها، كان المشهد مختلفًا والخطاب مغايرًا؛ حيث وقف خطيب الجامع محمد سعيد رمضان البوطي في الأيام الأولى للمظاهرات في دمشق، تحديدا في 25 مارس/ آذار 2011، خاطبًا بآلاف المصلين الذي يقصدون المسجد الأكبر والأشهر في دمشق محذَرًا الشباب من مغبة الانخراط بأعمال الشغب كارثية المآل، متبنيًّا رواية النظام حرفيًّا في وصف ما يجري على الأرض، في خطابه الذي تمسك به في مقابلاته على التلفزيون السوري، وفي دروسه الأسبوعية بمسجد الأيمان، إذ لا يفتأ البوطي “كاهن القصر الرئاسي” يتحدث عن “مؤامرة كونية” و”أيادٍ خارجية” وعن ثلة من الشباب غير المؤمن الذين “ينتعلون” المساجد تحقيقًا لأجندات خارجية[14].

لم يكتفِ البوطي بالتصدي وتجريح الشباب المنخرطين بالمظاهرات، بل كان مشرعنًا للنظام الذي استخدم البراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي، والذي يراه البوطي قائدًا لـ ” دولة إسلامية “، وتجسيدًا لـ “مكانةٍ سامقة في الإسلام “، متمترسًا وراء جيشه ” العقدي” الذي يتمتع ببسالة آتية من المدد الإلهي كما يحلو للبوطي أن يوصّف.

بقي البوطي على حالة الاصطفاف الصلبة هذه إلى جانب النظام حتى وافاه الأجل في “تفجير انتحاري” حسب الرواية الرسمية للنظام يوم الخميس 21/ 3/ 2013م بمسجد الإيمان في قلب العاصمة دمشق، أثناء درسه الأسبوعي، مما أدى إلى موت 42 شخصا في المسجد من بينهم حفيد البوطي، الانفجار الذي ترجح الروايات أنه من تدبير النظام السوري للتخلص من البوطي بعد أدائه المهمة المطلوبة منه.

وعلى مقربة من جامع الإيمان في كلية الشريعة التي كان البوطي عميدًا لها، كان شباب الكلية المحتشدون من شتى محافظات سورية مرجلًا يغلي لما يجري في دمشق من مظاهرات وتخاذل شبه رسمي من الطبقة الدينية؛ وكانوا ينتظرون شيئًا من دكاترتهم الذين اتهموا على مدى طويل بأنهم يحرّضون ضدَّ النظام[15]. وعلى المستوى العملي كان الدكاترة متناحرين في موقفهم من النظام؛ فبينما يصف توفيق البوطي نجل محمد سعيد رمضان البوطي ونائب عميد كلية الشريعة حينها بمجالسه الخاصة الفتيات المشاركات في المظاهرات بـ “العاهرات”[16]، كان الدكتور “محمد زكريا النداف” في القاعة الـ “8” بالكلية يحاضر الطلاب في مادة التاريخ الإسلامي ويُنشد شعرًا على الملأ يقول فيه: لن أشحذ الحقَّ من لصٍّ ومغتصبٍ .. هذي السياسة حاميها حراميها[17] الحادثة التي تكررت منه وأدَّت إلى اعتقاله مع زوجه، ووفاته تحت التعذيبفي سجون الأسد.

محمد زكريا النداف قبل التعذيب وبعده (مواقع التواصل)

وعلى خطاه السابقة كـ “مقاول فرعي” كان أساتذة “معهد الفتح الإسلامي” ومديروه يروغون طلابهم بيد ويصافحون النظام بأخرى مستفيدين من أن المعهد يوازي ويحاكي عمله عملَ الثانويات والجامعات؛ مما جعلهم أقدر على ضبطه من قدرة جماعة زيد على ضبط طلابها، حتى كان يوم الاستفتاء على الدستور السوري في الشهر الثاني من عام 2012م عندما قام طلاب المعهد من المرحلة الإعدادية بحركة هزلية حوّلوا فيها حاويات القمامة في المعهد إلى صناديق اقتراع، أحدهما كتبوا عليه “نعم”، والثاني “لا”، الأمر الذي جعل “عبد الصبور الكيالي” الأستاذ برتبة موجه – في الفتح سابقًا والإداري في معهد عبد ارزاق الحلبي في اسطنبول حاليًّا – يستشيط غضبًا ويتناحر مع الطلاب ويتسبب بتوبيخهم من مدير المعهد “عبد الفتاح البزم” مفتي دمشق، وبفصلهم من المعهد نهائيًّا.

اللغة الناعمة التي استخدمها عبد الفتاح أمام طلاب المعهد جميعهم في تعليقه على الحادثة، مع لغةٍ أخرى وصفها الطلاب بالـ “السوقية” والتي وبّخ بها الطلاب المعنيين في مكتبه، لم تكن رادعةً لطلّاب المعهد عن التعاضد والاعتصام في الساحة الداخلية للمعهد احتجاجًا على موقف الإدارة عمومًا من الثورة ومن سياستها تجاه الطلاب خصوصًا، الاعتصام الذي انتهى بهتاف طلاب المعهد في وجه عبد الفتاح وحسام الدين الفرفور: “يا فرفور قيم اللفة وحط قرون”؛ مما دفع الإدارة إلى إعادة الطلاب بعد فصلهم.

وبعد الواقعة التي كسرت الخوف، نظم الطلاب مظاهرة كبيرة في ساحة المعهد وداخله، مظاهرة ترفرف فيها أعلام الثورة لأول مرة في المعهد، الأمر الذي دفع الأمن إلى مواجهتهم ، حيث اعتُقل مَن اعتُقل منهم قبل لجوئهم  إلى داخل المعهد، فحاصرهم الأمن  ولم يدخل المعهد  إلا بمعية ابن حسام الدين الفرفور الذي سمح لهم بمشاهدة تسجيلات فيديو كميرات المعهد ليعرفوا المتورطين الأساسيين بتأجيج المظاهرة، حادثة فاصلة وشارخة للمعهد طلابًا وأساتذةً، وتعد بدورها انعكاسًا لما آلت إليه أمور المعهد من دعم إدارته العلنية للنظام متغافلين عن الشهداء والمعتقلين من طلابهم وبعض أساتذتهم[18].

سياسة إدارة معهد الفتح نفسها تبعها ورثة “المقاول الفرعي” الثاني كفتارو مفتي الدولة، غير أن مظاهر الحراك الثوري داخل مجمع أبي النور كانت شبه معدومة، اللهم إلا محاولات شبه يتيمة لحشد خارجي من أفراد درسوا في المجمع، وأطلقوا على أنفسهم اسم: أحرار مجمع كفتارو.

أدوار جديدة

في آخر أيام حصار الغوطة الشرقية برًّا وازدحام سمائها بسلاح الجو السوري والروسي طلع علينا في الشهر الثالث من عام 2018 شيخٌ شاب بلحية سوداء كثة ولبس غوطاني وعتاد عسكري، متوسطًا جموع الرجال وخاطبًا بفصاحته المعتادة ونبرته الأجشة، لعل كلمة حق صادقة تكون سببًا بثبات الناس وتصبيرهم في ظل الهجمة السورية الإيرانية الروسية غير المسبوقة عنفًا واتِّساعًا على الغوطة التي استمرت أكثر من 50 يومًا انتهت بمئات الشهداء وقصف كيماوي وتهجير أهل الغوطة إلى الشمال السوري.

كان الجمع حول الشيخ كبيرًا وكانت الآذان مصغية له والعيون شاخصة إليه، في مشهد استثنائي لشاب استثنائي لم يتجاوز عمره الـ 36 استطاع بنفوذه أن يهيمن على جمع من الشباب البسطاء المتعلقين به كمخلّص أوحد، لم يكن ذلك الشاب إلا “أبو محمد الفاتح” خريج الأزهر وتلميذ “نعيم العرقسوسي” والقائد السابق لـ “كتائب شباب الهدى” ثم “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام” ثاني أكبر فصائل الغوطة الشرقية بعد جيش الإسلام في وقته، قبل اعتزاله المشهد المسلح باستقالته من قيادة أجناد الشام في 30/ 11/ 2015، الذي كان قائدًا له منذ تأسيسه في 2013 من اندماج عدة فصائل؛ هي: “ألوية الحبيب المصطفى، تجمع أمجاد الإسلام، كتائب الصحابة، كتائب شباب الهدى، ولواء درع العاصمة”، هذه الاستقالة التي قيل إنها إثر “فضيحة مالية” لأجناد الشام المتوزع جغرافيًّا في الغوطة الشرقية، والقطاع الأوسط: داريا والمعضمية، وقطاع الجنوب: القنيطرة ودرعا، وقطاع الشمال: حماة، وقطاع الغوطة الغربية: يلدا وببيلا والقدم.
تمثل “الأجناد” تحوّلًا جوهريًّا بطبيعة العمل العلمائي الدمشقي؛ ذلك أنه الحالة الأولى التي دخل فيها العلماء بدعم عمل مسلّحٍ منظّم مرجعيةً وتوجيهًا وتمويلًا، على اعتبار أن جماعة زيد مسؤولة مباشرةً عن تمويل الأجناد، وخصوصًا في “القطاع الأوسط” تحت إشراف خارجيٍّ من بكر العمري الذي كان يتلقى أوامره من أسامة الرفاعي[19]، في حين يذكر حاضرون أن تشكيل “اتحاد أجناد الشام” كان انعاكسًا لفكرة “جيش دمشق الأشعري” بردٍّ دمشقيٍّ على الفصائل والجيوش السلفية التي يُخشى من سطوتها على دمشق[20]، وعلى رأسها “جيش الإسلام”، القوة السلفية العسكرية الكبرى في الغوطة، والذي يليه عددا وعتادا وتأثيرا “فيلق الرحمن”، المشكّل على أنقاض “الأجناد” والقائم على طلاب المساجد والمعاهد الدمشقية، أو ردا “إسلاميا” على “الوجود العلماني”، كما في تجربة ثانية بداريّا؛ تجربة “كتائب الصحابة” التي دعمتها جماعة زيد وأصرت على هيكليتها رغم انعدام الكفاءة؛ بدافع أن الهيكلية القائمة قادرة على مواجهة المد العلماني المتمثل بـ “مجلس داريا”[21].
كان القائد العسكري للأجناد هو الفاتح، لكن الأب الروحي، كما يقول شباب الأجناد، هو “خالد طفور، أبو سليمان” القريب من جماعة زيد والمعروف بنشاطه الديني والاجتماعي في مدينة دوما بالغوطة الشرقية قبل الثورة، والذي شكّل مع أبي محمد الفاتح حالة “مهيمنة” داخل أجناد الشام مما جعلهما على تماس دائم مع الشباب الساعين للتغيير من داخل الأجناد، إذ تذكر مصادر لميدان أن طفور والفاتح توافقا بصفة الاختفاء المفاجئ عن الساحة لإشعار من حولهم من مريدين ومناصرين بمدى الأهمية والحاجة لهم.
لم يقتصر الامتداد العسكري للعلمائية على جماعة زيد، بل برز أيضًا كامتداد أساسي لعمل بعض أبناء الصف الأول في “مسجد الشافعي” كـ “عاصم الباشا” الذي كان رئيس “حركة أحرار الشام” في الغوطة الشرقية، مع عدد من أبناء المسجد تحت قيادته، إضافة لقلّة أخرى من المسجد آثرت الانضمام إلى “هيئة تحرير الشام” منهم شرعي الهيئة “عبادة العبسي”، ومن أبناء الصف الأول للشافعي الذين برزوا في الساحة العسكرية للغوطة الشرقية وسرعان ما نتحّى عنها إلى العمل التوعوي “أبو أبي تللو” الذي اشتهر بفيديوهاته التوعوية على منصات التواصل الاجتماعي بعنوان “رسائل نحو غوطة واعية” وبسيارته السوزوكي التي يجوب بها الغوطة في محاولة لنشر حالة توعوية بطريقة قريبة من الناس [22].
لكن هذا التشظي الواسع لشباب جامع الشافعي داخل العمل المسلح والتوعوي على حد سواء داخل الغوطة لم يمنع من حدوث مشادّات بينهم، وعدم رضا القاعدة الطلابية على عمل الصف الأول الثوري، ووصفه بأنه “غير مواكب” لمتطلبات اللحظة الثورية.

       

أما معهد الفتح الإسلامي فقد شارك أبناؤه في التجربة العسكرية بحالات فردية كانت من بعض أساتذة المعهد وطلابه على حد سواء؛ كرياض الخرقي، ابن جوبر في غوطة دمشق الشهير بأبي ثابت، وأستاذ مادة الحديث في المعهد وأحد مشايخ المسجد الأموي، الذي ساعدته كاريزميته في الظهور نخبويًّا كمرجعية دينية والانتشار شعبيًا كمؤثر قريب من الناس، وكان من مؤسسي “رئيس الهيئة الشرعية في دمشق وريفها” التي تعد المرجعية الشرعية لفصائل الثورة السورية في الغوطة، و”الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام”، ثم القيادي في “فيلق الرحمن” ، وعضو مجلس أمناء “المجلس الإسلامي السوري”، والذي قُتل بتفجير عنصر من “تنظيم الدولة” نفسَه عقب خروجه من اجتماع عسكري عام 2015. [23]

أسس الهيئة الشرعية مع “أبو ثابت” معاصره في الفتح “سعيد درويش”؛ شابٌّ عرف بجذريته المتناقضة في اتخاذ المواقف والاصطفاف مع الفرقاء؛ فبعد أن كان واجهة الأشعرية في قتال السلفية متمثلةً بـ “جيش الإسلام” انقلب على الأشعرية ومرجعيتها “الهيئة الشرعية” ليصبح قياديًّا وشرعيًّا لجيش الإسلام وواجهته في حراب الأشاعرة أصدقاء الماضي، رغم تورّط جيش الإسلام في محاولة اغتيال له قبل انضمامه إليهم[24].

ولم تتوقف النزعة العسكرية لأبناء معهد الفتح على “الخرقي” و”درويش” إنما امتدت إلى “رضوان الكحيل“، خريج معهد الفتح وإمام مسجد علي بن أبي طالب في “ببيلا” بجنوب دمشق التي لُقّب فيها بـ “شيخ المجاهدين” أثناء حصار النظام لها في 2013 – 2014 كما عمل الكحيل إضافة إلى ذلك رئيسًا للمحكمة الشرعية في دمشق وريفها قبل تركه العمل العسكري وعودته إلى العمل الديني وسفره إلى إسطنبول، وتأسيسه هناك “معهد الإمام أبي حنيفة النعمان” [25].

صورة لبسام ضفدع في الغوطة (مواقع التواصل)

وعلى ضفّةٍ أُخرى من العمل العسكري، ظهرت في آخر أيام الغوطة الشرقية ما سميت بظاهرة “الضفدعة” نسبة إلى المدرس في معهد الفتح الإسلامي والتلميذ المباشر لمؤسسه صالح الفرفور والمرشّح السابق لعضوية مجلس الشعب قبل الثورة “بسام ضفدع” الشيخ الصوفي المعروف بكثرة مريديه في “كفربطنا وسقبا وزبدين وحزة”  في الغوطة الشرقية، والذي بدأت قصته مع أولى أيام الثورة حيث تبنى موقف البوطي من المظاهرات وحكم الخروج فيها، قبل انعزاله مع مريديه في مسجده “العمري” بعد منع ثوار الغوطة له من إمامة “الجامع الكبير” في كفربطنا للأذكار والعبادة، عزلة دينية واجتماعية في آن حيث كانوا منبوذين من المناصب الإدارية والمحلية وإغاثية بسبب التشكيك بثوريتهم، رغم أن طائرات النظام استهدفت بيت بسام ضفدع في غارةٍ لها.

عاد ضفدع مع مريديه للظهور عند احتدام الصراع في الغوطة بين “المدرسة السلفية” المتمثلة بالهيئة الشرعية العامة ومشايخها والذراع العسكري لها “جيش الإسلام”  و”المدرسة الصوفية” المتمثلة بالهيئة الشرعية لدمشق وريفها ومشايخها وذراعها العسكري “فيلق الرحمن” ؛ حيث بدأت الصوفية تحشد الصوفيين بغض النظر عن انتمائهم الثوري لمواجهة السلفية، ما أعاد “ضفدع” لواجهة العمل الديني الواسع في الغوطة كرمز ديني صوفي يتصدر المجالس ويقدم الدورات الشرعية لمقاتلي فيلق الرحمن والتركيز على خطورة المد السلفي والوهابي وتحذير المقاتلين من تفكيرهم الذي يهدد الإسلام في الغوطة ودمشق، الأمر الذي جعل فيلق الرحمن يتخبط في طريقة تعامله مع “ضفدع” كفربطنا أثناء حملة النظام الأخيرة على الغوطة الشرقية التي أدت إلى تهجير أهلها خصوصًا أن أطرافًا من عدة بلدات على جنبات الغوطة بدأت تتواصل مع أطراف مقربة للنظام بدمشق لإيقاف الحملة ومصاحبة ذلك بخروج مسيرات مؤيدة للنظام داخل الغوطة واجهها فيلق الرحمن بالرصاص واعتقلً بعضًا من مريدي ضفدع ولم يعتقله مع قدرته على ذلك، مما يوحي بوجود صراع داخل الفيلق أدى إلى انشقاق شباب من الفيلق بأعداد كبيرة وانضمامهم إلى أصوات منادية بخروج الثوار من كفربطنا، مشهد انتهى بتسليم “ضفدع” كفربطنا للنظام وخروجه مع من انشق من الفيلق تحت حماية الجيش السوري. [26]

لم تكن ما سميت بـظاهرة “الضفدعة” في الغوطة مقتصرة على “بسام ضفدع”، فعلى مقربة منه وتحديدًا في منطقة “حمورية” في الغوطة الشرقية، وأثناء الحملة العسكرية الأخيرة؛ خرجت المسيرات المؤيدة للنظام السوري مطالبة بدخول الجيش السوري وخروج الثوار وذلك بتنسيق بين عبد العزيز كوكي” الشيخ الموجود في دمشق ووجهاء حمورية مقابل إيقاف الحملة على البلدة والسماح بالخروج الآمن لمن يريد. وبالفعل لم يطلع صباح اليوم التالي إلا وحواجز النظام مفتوحة بشكل آمن في وجه أهالي حمورية الذين خرجوا بالمئات أشخاصًا ومؤسسات وعلى رأسهم “مؤسسة زيد بن ثابت”، التابعة للشيخ أسامة الرفاعي في الخارج، التي خرج أغلب أعضائها وعلى رأسهم أعضاء مجلس إدارتها: أبو ياسين نبراس[27]، في ما وصفه شباب مقاتلون خرجوا من الغوطة مؤخرا بأنهم “ضفادع” دينية داخل الغوطة وخارجها ساهموا بتعجيل إسقاطها وتهجير أهلها منها.

إسطنبوليات

في معهده وبعمامة ثقيلة وجُبةٍ  يتصدّرُ شيخٌ أربعينيٌّ أمام طاولته محاضرًا بما يزيد عن مئة طالبٍ متحلّقين على الأرض حوله بشكلٍ شبه يوميٍّ محاضراتٍ دعوية وفكرية قوامها يتراوح ما بين تبيان أن مآل عقيدة ابن تيمية الإلحاد وإيضاح أن مقومات الخطاب الديني اللازم للمرحلة الراهنة يجب أن يكون عقليًّا بالدرجة الأولى، على أننا بالرجوع قليلًا في صفحة “محمد باسم دهمان” ابن مجمع أبي النور البار الباحث عن لغة جديدة للخطاب الديني ربما قد يفاجِئُنا وصفه لأهالي الريف الدمشقي بـ: “اللوطيين” والمشتهرين بـ “سُباب الله والدين”، لذلك استحقوا ما نزل بهم من بلاء على رأي دهمان الذي ما فتئ يتهجّم على الثورة السورية مبدأً وأدوات وكل هذا في إسطنبول المعقل الأكبر للمهجّرين من المعارضة السورية!

دهمان بقي وفيًّا لشيخه المقاول الفرعي  “أحمد كفتارو” ولمعهده في دمشق حتى أسس على غراره معهدًا في تركيا/اسطنبول باسم: “مؤسسة الشيخ أحمد كفتارو العلمية والدعوية” وجمعيةً باسم: “جمعية الشيخ أحمد كفتارو للعلوموالثقافة”، يدرّس فيهما المنهجَ العلميَّ الذي يُدرَّس في مجمع أبي النور في دمشق. ولعل أحمد دهمان بمؤسسته وجمعيته يعد الامتداد الديني والجغرافي الأوضح والأوسع لجماعة أبي النور، في ظل خلو الساحة السياسية والعسكرية من شخصيات منتمية للمعهد.

“الوفاء الجلي” عند دهمان للمؤسسة التي انبثق منها، قابله ما يمكن تسميته بـ “الوفاء الخفي” عند أبناء الجماعات الأخرى؛ يتضح ذلك ربما بآلية تعامل مشايخ معهد الفتح الإسلامي مع مدير المعهد الموالي للنظام السوري “عبد الفتاح البزم” عند زيارته لإسطنبول 2015 حيث استضافه أيمن شعباني المدرّس السابق في معهد الفتح والذي يوصف حاليًّا بأنه “قريب من الحكومة التركية” والعضو في المجلس الإسلامي السوري في مكتبه “إعمار الشام”، واستضاف البزم أيضًا أثناء زيارته لإسطنبول عدد من المشايخ سرًّا[28]، في مشهد يوحي ربّما أن الوفاء للمؤسسة أعمق من إمكانية تجذر الخلاف معها مهما كانت أسبابه.

وفي المنطقة ذاتها التي اختارها دهمان مكانًا لمؤسسته والتي تشتهر بأنها معقل التصوف التركي في إسطنبول بدأت معاهد شرعية أخرى تُفتتح لكن هذه المرة كانت المعاهد سليلة معهد الفتح الإسلامي بدمشق؛ حيث أسّس رضوان الكحيل خريج معهد الفتح بعد قدومه إلى تركيا وتركه العمل العسكري في جنوب دمشق معهدَ الإمام أبي حنيفة النعمان للعلومالشرعية والعربية“، وكذلك أنشأ “خالد الخرسة” الأستاذ السابق في معهد الفتح مع مجموعة من أساتذة المعهد الوافدين إلى إسطنبول معهدَ العلامة الشيخ عبد الرزاق الحلبي للعلوم الشرعية والعربية، وانشق عن خالد الخرسة مكانيًّا وعمليًّا زميله في التدريس بمعهد الفتح وبمعهد عبد الرزاق الحلبي “محمود دحلا” المترشح لعضو مجلس الشعب سابقًا مؤسسًا معهده الخاص باسم معهد الفاتح للعلوم الشرعية والعربية، ومفتتحًا أيضًا “دار المهاجرين والأنصار” لتحفيظ القرآن الكريم، وبعيدًا عن النمطية التدريسية المشابهة لمعهد الفتح والتي اتبعتها هذه المعاهد وقريبًا من مدارسة كتب التراث أسس “موفق مرابع” نائب مدير معهد الفتح والذي استشهد ابنه مقاتلًا في صفوف المعارضة “دارَ القرآن الكريموعلومه” في إسطنبول أيضًا.

وفي المناسبة ذات القدسية العالية عند الطرق الصوفية جهّز دهمان قاعة متوسطة في القسم الآسيوي من اسطنبول للاحتفال بذكرى المولد النبوي عامَ 2016م، داعيًا عددًا لا بأس به من رجال الدعوة  والتصوف الترك والعرب، وفي الصفّ الأول للحضور وعلى يمين دهمان يظهر في الفيديو رجلٌ أربعينيٌّ بهيئة صوفية أضخم من دهمان قليلًا وشريكه في التوجه المعادي للسلفية والإخوان بشكل علنيٍّ والمهاجم للمعارضة السورية من معقلها إسطنبول، إلا أن هذا الأربعيني ليس سليل معهد شرعيّ وإنما كان دكتورَ التفسير في جامعة دمشق عبد القادر الحسين، وكدهمان كان عبد القادر وفيًّا لأستاذيه المباشرين “البوطي” و”علي جمعة” في تبنيه موقفًا معاديًا للثورات، غير أنَّ هذا الموقف لم يمنعه من تبوّء منصب في جامعة “يلوا” التركية.

     

أما على العكس من الحسين فقد انحاز كثيرٌ من رجالات جامعة دمشق إلى الثورة وبرزوا في أيامها الأولى على الساحة السياسية كنائب عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق الصاعد في مجال الفكر الإسلامي “عماد الرين الرشيد” مؤسس “التيار الوطني السوري” والذي تراجع خطوة عن الساحة السياسية وعاد إلى الحياة الأكاديمية عميدًا لجامعة الباشاك شهير أول جامعة تركية تدرّس باللغة العربية بشكل كاملٍ. وعلى خطى الرشيد في التراجع انسحب “أحمد إدريس الطعان” المدرس في كلية الشريعة من العمل العسكري في الشمال السوري عائدًا إلى نشاطه الأكاديمي رئيسًا لجامعة الشام العلمية في شمال سوريا، بينما بقي دكتور الأحوال الشخصية في جامعة دمشق “أسامة الحموي” حبيس النشاط الأكاديمي بين جامعة إسطنبول وباشاك شهير مؤسسًّا: “تجمّع الأكاديميين العرب”[29].

وممن عمل في الحقل الأكاديمي بعد الثورة في تركيا لا امتدادًا لجامعة دمشق فحسب بل لمعهد الفتح الإسلامي كذلك “عدنان درويش” شقيق القيادي والشرعي في جيش الإسلام “سعيد درويش” والمدرس لمادة أصول الفقه بكلية الأدب العربي في جامعة صباح الدين الزعيم التركية حاليًّا؛ الذي يشترك مع دهمان والحسين في العداء العلني للوهابية والإخوان والثورة السورية الذي تجلى واضحًا بمضايقته لنشاطات طلابية في جامعة صباح الدين زعيم معروفين بطابع مؤيد للثورة السورية حسب مصادر لميدان.

بلباسه الدمشقي المعتاد ولكنته الشامية المعتقة ظهر أسامة الرفاعي شيخ جماعة زيد مراتٍ عدة على شاشات تلفزيونية متحدثًا عن تضييق النظام السوري على العلماء في دمشق وملاحقتهم ومراقبتهم، وذلك بعد خروجه منها مع شقيقه “سارية الرفاعي” باتفاق مع النظام ينص على ترحيلهم مقابل إخراج “باسل هيلم” والطبيب “محمد حمزة” معتقلي الصف الثاني من جماعة زيد في سجون النظام السوري إثر مشاركتهم بإعداد مظاهرات ضده وسط العاصمة. التزمت الجماعة بالاتفاق وخرجت مع بعضٍ من صفها الأول إلى مصرَ وأنشؤوا فيها 3 مدارس ومركزًا آخر لجماعة زيد، إلا أن النظام من جانبه لم يفِ ببنود الاتفاقية كاملة؛ حيث أخرج “هيلم” وأبقى “محمد حمزة” طبيب الأسنان وصهر أبو الجود سرميني المنشد المعروف معتقلًا[30].

انتقلت الجماعة بعد مصر إلى إسطنبول مستقدمةً إليها وململمة مَن بقي من أبنائها لإعادة نشاطها وتوسيعه وتنويعه بما تفرضه طبيعة إسطنبول لكونها جامعة أكبر عدد من اللاجئين السوريين، فبدأت الجماعة بتأسيس مؤسسة زيد بن ثابت الأهلية (التعليمية، الدعوية، الإغاثية) التي امتدت جغرافيًّا إلى المناطق المحررة في سورية كالغوطة الشرقية ووريف إدلب/حزانو، ثم أنشئت الجماعةُ مؤسسة (SDI) محاولةً للتفرد بالعمل الإغاثي والتنموي باستيفاء شروط “مكتب تنسيق الشروط الإنسانية التابع للأمم المتحدة” المعروف اختصارًا بالـ “OCHA”.

شعار مؤسسة زيد بن ثابت الأهلية بعد إزالة علم الثورة منه (مواقع التواصل)

كما أنشأت مراكز طبية ودعوية وإعلامية، أزالت جميعا “علم الثورة السورية” من شعاراتها في وقت مبكر نسبيا من عمر الثورة السورية، غيرَ أنَّ بعض هذه المؤسسات المنبثقة عن الجماعة استقلت عنها وبعض منها أغلق بسبب ما قيل إنه “فساد إداري ومالي”، ولعل ذلك يرجع بحسب قريبين من الجماعة إلى العلاقات الشخصية وعلاقات القرابة المؤثرة في القرار والاختيار أثناء عمليات التوظيف وافتتاح مشاريع الجماعة، هذه الآلية التي تعتبر امتدادًا عمليًّا لجملة كانت شائعة في دمشق “ابن الشيخ شيخ”.

رغم زجِّ الجماعات طاقتها بالأعمال الدعوية والتربوية والتعليمية والإغاثية إلا أنها لم تترك موطئ قدمها فارغًا في الساحة السياسية؛ حيث بدأ يبرز منها باسل هيلم الذي ترأس “منبر الجمعيات السورية” في إسطنبول، بينما ترأّس “أسامة الرفاعي” المجلس الإسلامي السوري، ورافقه في عضوية المجلس “محمد أبو الخير شكري” إمام مسجد الشافعي، الذي قيل إنه كان قريبًا من جماعة أبو النور ثم من جماعة زيد عشيةَ الثورة وبعدها، لكن حظوة شكري بالساحة السياسية كانت أكبر؛ حيث شغل منصب عضو في “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” ورئيسًا “للمجلس السوري للسلم الأهلي”، إضافةً إلى افتتاحه مراكز طبية وجمعيات تعليمية وشركة إعلامية في إسطنبول.

أجسام موحِّدة

بعينٍ تتردد إلى ورقة يمسكها بيده المرتجفة قليلًا لعمره الثمانيني الذي لم يؤثّر على لسانه الخطابيّ الثابت أعلن شيخ قراء الشام كريم راجح من الدوحة 10/ 9/ 2012 إعادةَ تأسيس “رابطة علماء الشام” التي أوقفت 1963م.  على منصة الإعلان وبترتيب مقصود أو غير مقصود جلس على ميمنة كريم راجح مؤسس الحركة السرورية التي تجمع بين الفكر السلفي والنشاط السياسي الإخواني والتي أثرت على الصحوة السلفية بالسعودية “محمد سرور زين العابدين” وعلى يمين زين العابدين جلس الطالب الدمشقي لعبد الكريم الرفاعي الذي نُفي معه إلى جدة ولم يعد إلى دمشق “جمال السيروان” بينما يجلس على ميسرة راجح نائبه في رئاسة الرابطة أسامة الرفاعي“.

معاذ الخطيب (رويترز)

غطّت “رابطة علماء الشام” بشكل أساسي على “رابطة العلماء السوريين” المرتبطة بالإخوان المسلمين السوريين في المهجر، والتي تأسست 2006 في السويد ثم ترخّصت في 2013 بتركيا والتي كان يرأسها عالم التفسير المنحدر من أصول حلبية والمنفي عن سوريا منذ الثمانينات “محمد علي الصابوني”. كما ركّزت الرابطة جهودها على تشكيل “الائتلاف السوري الوطني لقوى الثورة والمعارضة” الذي يُعد الجسم الأساسيَّ للمعارضة السورية في الخارج، إذ قدّمت الرابطة في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 الرئيسَ الأوّلَ للائتلاف: “معاذ الخطيب” [31] خطيب المسجد الأموي ورئيس جمعية التمدن الإسلامي سابقا والتي كان والده أبو الفرج من مؤسسيها. يُصنف الخطيب ضمن ما يصفهم الباحث البلجيكي بـ”الإصلاحيين”[32]، الذين يقصد بهم تيار الإسلاميين السوريين المؤيدين للديموقراطية سواء أكانوا مفكرين يهتمون بالمسائل الدينية والقانونية أم ناشطين يركزون على موضوع التغيير السياسي[33]، ورغم دعم الرابطة لرئاسة “الخطيب” في الائتلاف إلا أنه استقال من منصبه بعد 5 شهور.

كانت “رابطةُ علماء الشام” أيضًا عمادَ المجلس الإسلامي السوري“بحيازتها ثلثَ مقاعد مجلس الأمانة فيه، ثِقَلٌ ساهم بتمثيل متزايد للشيوخ الحمصيين والدمشقيين الذين باتوا يمثلون أكثر من نصف أعضاء المجلس؛ منهم: “عبد الكريم بكار” “راتب النابلسي” “أبو الخير شكري” “أيمن شعباني” “معاذ الخطيب”.

سعى المجلس منذ تأسيسه وعقده اجتماعه الافتتاحي في إسطنبول ١١/ ١٢ أبريل ٢٠١٤ ليصبح المرجعية الدينية المعارضة الكبرى في البلاد. يتكون المجلس من ١٢٨ عضوا، خمسون منهم في الداخل السوري المحرر، ويدعي تمثيله لـ٤٠ رابطة وجمعية دينية انتشرت في البلاد والمهجر منذ عام ٢٠١١. رغم أنه كان من المفترض أن يؤسس المجلس لإظهار وحدة من جانب العلماء، إلا أن المبادرة بدت مسببة للخلاف، وتحديدا بسبب انسحاب أكبر التحالفات الثورية المسلحة في سوريا: “الجبهة الإسلامية”، مما جعل المجلسَ غير قادر على تحقيق الوحدة التي نشدها؛ والسبب في ذلك أن الأجسام العسكرية الكبرى فيه كـ “جيش الإسلام”  و”حركة أحرار الشام” تمتلك مرجعيّتها الشرعية الخاصة التي تكتفي بها وتحاول في الوقت  ذاته فرضها على أماكن سيطرتها منافسةً بها الأجسامَ القضائية المستقلة، وأما السبب الثاني الذي ما عاد خفيًّا على أحد فهو الصراع التقليدي التاريخي “السلفي الأشعري” والذي كان مانعًا دائمًا من توحّد الأجسام السورية الثورية على الصعيدين السياسي والعسكري.

أمّا في دمشق فقد كانت طريقة توحيد الأطياف المختلفة حدّ التناقض في جسم واحدٍ تتخذ منحىً وآلياتٍ أُخرى، بدأ التّعرف على مخاطرها ومحاولتها التغوّل الجذري في نواة المجتمع الدمشقي عندما شدّ وفدٌ من علمائيي دمشق رحالهم إلى طهران وتحلّقوا على الأرض حول الخامنئي بجلسة خاصة سرعان ما انتشرت صورها على منصات التواصل الاجتماعي.

جماعة الفتح في الجلسة الخاصة مع خامنئي (مواقع التواصل)

القبيسيات في الجلسة  الخاصة مع الخامنئي (مواقع التواصل)

على يمين خامنئي مباشرة يجلس وزير الأوقاف عبد الستار السيد ويجلس على مقربة منه الدكتور في كلية الشريعة بجامعة دمشق وابن المخابرات السورية المدلل حسب مصادر لميدان “حسان عوض” الذي حظي بخطابة مسجد الرفاعي بعد ترحيل جماعة زيد منه، وعلى الأرض يجلس مدير أوقاف دمشق “أحمد سامر القباني” الابن الروحي لحسام الدين الفرفور كما هو مشتهر في معهد الفتح إلى جانب الابن البكر لحسام الدين الفرفور ووراءهم تمامًا توفيق نجل محمد سعيد رمضان البوطي على بعد رجلٍ واحد من “المقاول” حسام الدين الفرفور، وطبعًا مع حضور كوتة نسائية من جماعة القبيسيات.

جاء هذا المشهد بعد عام فقط من حفل الاحتفاء بتخريج نحو 850 طالباً يمثلون الدفعة الرابعة من طلاب “معهد الشام العالي” بفروعه الثلاثة “مجمع الفتح الإسلامي وحوزة السيدة رقية ومجمع الشيخ أحمد كفتارو” كشف وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد خلال الكلمة التي ألقاها في الحفل عن مفاجئة كبرى للحضور ألا وهي موافقة بشار الأسد على تحويل “معهد الشام العالي” إلى “جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية والعربية والبحوث الإسلامية” تحت مظلّة وزارة التعليم العالي.

تخريج الدفعة الـ4 من طلاب “جامعة بلاد الشام” (مواقع التواصل الاجتماعي)

وبعودة زمانية إلى جذور هذا الإعلان الذي يُمثّل اعترافًا من الدولة بشهاداتٍ لمعاهد شرعيّة مهمشة ومهشّمة ومستقلة عنها نجد أنَّه يلبّي مطمحًا كبيرًا لابن “المقاول الفرعي” صالح الفرفور وخليفته في الإشراف على معهد الفتح منذ 1984 “حسام الدين الفرفور” الذي عُرف عنه أنه منذ مطلع الألفية كان يبحث بشتى الطرق عن اعترافٍ لمعهده المهمّش من النظام، اعترافٌ بدأت إرهاصاته بإصدار بشار الأسد في بدايات الحراك الثوري نيسان 2011  المرسومَ التشريعيَّ رقم (48) لقاضي بإحداث “معهد الشام العالي للعلوم الشرعية واللغة العربية والدراسات والبحوث الإسلامية” مقره مدينة دمشق ويرتبط بوزارة الأوقاف “الخصيم” للمعاهد الشرعية، ويتألف المعهد من ثلاثة أقسام: “مجمع الفتح الإسلامي” و”مجمع الشيخ أحمد كفتارو” و”مجمع السيدة رقية” الشيعي الاثني عشري.

فإن كان هذا الاعتراف المبدئي مع ما تبعه يحقق طموحًا لورثة “المقاول الفرعي” صالح الفرفور إلا أنه لم يحقق طموحًا لورثة المقاول الفرعي الثاني “أحمد كفتارو” الذي شهدت مؤسسته “مجمع أبو النور” انقلابات داخلية إثر هذا الاعتراف.

يأتي هذا الاعتراف بتوقيته كمواصلةٍ للمقايضة بين النظام و”المقاولين”، المقايضة التي لم تتوقّف منذ الشهر الأول للثورة في سوريا وبدأت بتجنبهم وتجنيب دخول طلابهم في الحراك الثوري ثم محاولة الاستمالة إلى جهة النّظام وصولًا إلى دمجهم مع المكوّن الشيعي بطريقة لم يكن يحلم بها يومًا، طريقةٍ تضفي عليه شرعية دينية واجتماعية في سابقة هي الأولى من نوعها على مستوى دمشق، تجلّت بإعلان “التوأمة” بين معهد الفتح الإسلامي ومعهد أبو النور من جهة والسفارة الإيرانية من جهة أخرى في 2016؛ حيث استقبل المعهدان كل على حدة وفدًا من السفارة الإيرانية وسط حماية مشددة من الحرس الثوري.

وبهذا يكون النظام السوري  قد وجد في  “مجمع أبو النور” ومعهد الفتح الإسلامي” شركاء دينيين له في مرحلة ما بعد الثورة، لا لقربهم من الأيديولوجيا البعثية وحسب، وإنما لقوة ولائهم له ومصداقيتهم معه بناء على قربهم من ولائهم للأيديولوجيا البعثية، وتبادل المصالح التي يعدّ النظام طرفها الأقوى ولاعبها الأدهى في استثمار العمامة المصلحية لخدمة بطش الاستبداد السياسي، كما استطاع النّظام إضافة إلى ذلك استدخال مكوّنٍ شيعيّ جديد للهيمنة على الشبكة العلمائية والإضرار بها داخل دمشق، بما سيؤثر في علاقتها مع امتداداتها خارج دمشق وفي ديناميات التعامل داخل كل مكون.

هل يرجعون؟

كانت الثورة السورية انفجارا لكل قطاعات المجتمع، بما فيها العلمائية، التي كانت قطاعا نخبويا محددا، وجد نفسه كأي قطاع معنيا بالدفاع عن وجوده ومصالحه بالدرجة الأولى، مع محاولات للانخراط بالنقاشات العامة حول القضايا السياسية والعسكرية دون سابق تجربة أو خبرة، بما يفسر انقسام مواقف العلماء؛ فالموالون عملوا على تحقيق فوائد قطاعية من الأزمة من خلال تقديم الدعم لنظام الأسد مقابل التمكن من إنشاء معهد جديد للدراسات الإسلامية كما فعل الفرفور وورثة كفتارو، بينما رفض كريم راجح اللعب على حبال المطالب القطاعية وأشاد بالمتظاهرين الذين يخاطرون بحياتهم لاسترداد الحقوق المسروقة من 40 عاما [42]  كامتداد لجماعة الميدان الثائرة، في حين تفرعت جماعة زيد مؤسساتيا وجغرافيا، ليبقى المشترك الوحيد بين كل هذه المكونات للشبكة العلمائية هو تفكك القاعدة، بدرجات متفاوتة باختلاف التيارات، مع الحفاظ على النواة الصلبة للصفوف الأولى في كل جماعة.

ورغم أن السلوك السياسي للعلماء يقع على طرفي النقيض في منعطف ما بعد الثورة فإنهم جميعًا تقريبًا يقبلون، علانية أو ضمنيا، بأن تسمح الدولة وتعزز الواجبات الدينية العملية للمجتمع مقابل أن يكفوا عن الانخراط في السياسة التي لا تروق لغالبيتهم ولا يجيدونها، بما يفسر تحديدًا المواقف الرخوة للعلماء المحسوبين على الثورة السورية تجاه النظام السوري في أشد مواقف الثورة تأزمًا على الصعيد العسكري والسياسي والإنساني، وتفسر ربما سبب انسحابهم من الساحة العسكرية والسياسية وعودتهم إلى العمل الاجتماعي والتربوي والتعليمي الذي يجدون فيه أنفسهم ويعدّونه مضمارهم مما يشرّع السؤال عما لو فتح الأسد أبواب المصالحة مع العلماء المعارضين له والمنفيين خارج سوريا، مع تخفيف شيء من “علمانية” الدولة والسماح بهامش من التديّن الاجتماعي؛ فهل سيرجعون؟!

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى