كتب وبحوث

السيرة النبوية في كتاب المستشرق البلجيكي جورج سارتون

السيرة النبوية في كتاب المستشرق البلجيكي جورج سارتون: “مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط”

بقلم الدكتور عبدالعزيز شاكر حمدان الكبيسي – الاستاذ المشارك بقسم الدراسات الاسلامية / جامعة الامارات العربية المتحدة

مقدمة البحث:

أخرجت مدرسة الاستشراق البلجيكي مجموعة من المفكرين الذين كتبوا عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في ثنايا مصنفاتهم المتنوعة، أو أفرودها بالتأليف والتصنيف.

ومن أبرز الذين تناولوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من المستشرقين البلجيكين: جورج سارتون الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، والذي يعد من أبرز مؤرخي العلوم في العالم، وأكثر المستشرقين إنصافاً للحضارة العربية الإسلامية.

وقد أحببت أن يكون موضوع مشاركتي في هذه الندوة عن معالم منهج ذلك المستشرق فيما تناوله من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال كتابه الموسوم: ” مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط “

وسأتناول في هذا البحث المنهجية التي سار عليها جورج سارتون، مبرّزا معالم الانصاف في كتابه، وما يؤخذ عليه من هفوات وسقطات، زل فيها قلمه، وابتعد فيها عن جادة الصواب، وفق منهج علمي يقوم على التجرد والموضوعية بعيداً عن التعصب والتحامل.

سائلا المولى عزّ وجل أن يوفقنا جميعا لما فيه خدمة دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إنه نعم المولى ونعم المجيب.

الفصل الأول: تعريف بجورج سارتون وكتابه:

ويتضمن مبحثين:

المبحث الأول: حياة جورج سارتون

ولد المستشرق البلجيكي جورج ألفرد ليون سارتون George Sarton في مدينة غنت، ببلجيكا في الحادي والثلاثين من اغسطس سنة 1884 م 1302 هـ [1].

وقد التحق جورج سارتون بالجامعة، وتَخرّجَ منهاعام 1906، وبعد سنتين استحق ميدالية ذهبية لبحث قدمه في الكيمياء؛ ثم نال شهادة الدكتوراهَ الفلسفية في الرياضياتِ من جامعة (Ghent) سنة1911.

هاجرَ إلى إنكلترا بَعْدَ أَنْ اندلعت الحرب العالمية الأولى، ومنها ذهب إلى الولايات المتّحدةِ الأمريكية في عام 1915، حيث استقر فيها لبقية حياته؛ وتجنس بجنسيتها.

وهناك حاضر في جامعة هارفارد خلال الفترة الممتدة ما بين 1916-1918.

كما درّس العربية في الجامعة الأمريكية في بيروت 1931م-1932م، وألقى فيها وفي كلية المقاصد الإسلامية ببيروت أيضا محاضرات قيمة، بيّن فيها فضل العرب على التفكير الإنساني.

وعُين ّأستاذاً لتأريخِ العلم في 1940الى سنة 1951م.

وأتم بقية حياته باحثا مشاركا لمؤسسة كارنيجي (Carnegie) بواشنطن من الفترة 1919 وحتى 1948.

وقد زار جورج سارتون عددًا من البلدان العربية منها مصر وبلاد الشام وغيرهما، وتمرس بالعديد من اللغات، ومُنِحَ ست شهادات دكتوراه فخرية، كما انتخب عضوًا في عشرة مجامع علمية، وظل رئيسا للاتحاد الدولي لتاريخ العلوم فترة طويلة.

وأشرف على عدد من المجلات العلمية؛ منها مجلة إيزيس 1913م-1946 م ومجلة أوزيريس[2]

ويعد جورج سارتون من أبرز المتخصصين في العلوم الطبيعية والرياضية، فضلا عن كونه صيدليا ومؤرخاً.

وعدّه بعض الباحثين ” أبو ” تاريخ العلوم، بل مؤسسها.

وتكريماً لإنجازاتِ سارتون، انشئ مجتمع تاريخ العلم الجائزةَ المعروفة بوسامِ جورج سارتون، وهي الجائزةُ الأكثر رفعةً، وهي تمُنِحَ سنوياً منذ 1955 إلى عالم بارزِ مِنْ مؤرخِي العِلْمِ ينتخب مِنْ المجتمعِ العلميِ الدوليِ، ويُعد الوسام بمثابة تكريم للعالم المستحق لإنجازاته العلمية.[3]

واما بالنسبة لمؤلفات جورج سارتون فتصل الى ستة عشر كتاباً منها:

Mathematics -1 الرياضيات.

Ancient Science And Modern Civilization -2 العلم والحضارة القديمة الحديثة.

The Life Of Science -4 الحياة للعلوم.

The life of science; essays in the history of civilization -5 المقالات العلمية في تاريخ الحضارة.

6- A guide to the history of science; a first guide for the study of the history of science، with introductory essays on science and tradition دليل تاريخ العلم.

ويعد من أبرز إنتاجه العلمي كتاب ” المدخل إلى تاريخ العلم ” وهو في ثلاث مجلدات ويقع في 4، 236 صفحة، وقد خص تاريخ العلوم عند العرب بجزء وافر منه، كما كتب أكثر من 300 مقالةِ في هذا المجال.[4]

وقد توفي المستشرق جورج سارتون في الثاني والعشرين من شهر مارس سنة 1956 م – 1372 هـ.[5]

المبحث الثاني: تعريف بكتاب ” مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط ” .

كتاب ” مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط ” في أصله محاضرة، القاها المستشرق البلجيكي جورج سارتون، تحدث فيها عن الشرقالأوسط باعتباره مهداً للحضارة الغربية، ومنه انطلقت، ومشيدا بانجازات العرب والمسلمين الحضارية، وأثرها في قيام الحضارة المعاصرة اليوم.

وقد تُرجم الكتاب الى اللغة العربية مرتين:

الأولى: ترجمة الدكتور عمر فروخ بعنوان: ” الثقافة الغربية فى رعاية الشرق الاوسط ” وتقع هذه الترجمة في عشرين صفحة، وطبعت في مكتبه المعارف ببيروت سنة 1952م.

وأما الثانية فقد كانت ترجمة الأستاذة فاطمة عصام صبري بعنوان: ” مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط ” وتقع في حدود خمسين صفحة تقريباً وفق النسخة الإلكترونية التي وقفت عليها.

وقد اعتمدت تلك الترجمة بنسختها الإلكترونية في دراسة هذا الكتاب.

وقد تحدّث جورج سارتون عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بضع صفحات من هذا الكتاب.[6]

وكان حديثه عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في معرض استعراضه لتاريخ البشرية منذ آدم عليه السلام.

ومما يلاحظ على كتاب جورج سارتون افتقاره الى العناوين الفرعية، ولهذا جاءت كتابته عن السيرة النبوية على وفق المنهج السردي في الاغلب الأعم دون ذكرٍ للعناوين، مع التحليل والاستنباط في بعض المواضع أحيانا.

ويمكن إجمال المحاور التي تحدّث عنها المستشرق جورج سارتون فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأتي:

أولاً: حالة العرب قبل الإسلام.

ثانياً: ولادة النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة.

رابعا: أمية النبي صلى الله عليه وسلم.

خامساً: عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم.

سادساً: زعمه إتصال النبي صلى الله عليه وسلم باليهود والنصارى.

سابعاً: اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم باللغة العربية.

ثامناً: اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بشعيرة الحج.

تاسعاً: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشعيرة الصيام.

عاشراً: دعوى انشغال النبي صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بالعلم.

حادي عشر: نجاح النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة ونشر التوحيد.

وقد جاءت كتاباته عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك المحاور تميل الى الايجاز والاختصار، كما يلاحظ عند إنعام النظر فيها أنها تجمع بين عبارات الثناء والتمجيد والاعتراف بالفضل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض المغالطات والهفوات والأخطاء التي وقع فيها جورج سارتون، وهذا ما سأتحدث عنه في الفصل الثاني.

الفصل الثاني: اضاءات وسقطات في منهج سارتون

وسيتضمن هذا الفصل مبحثين:

المبحث الأول: ثناؤه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمجيده له:

اشتمل كتاب “مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط” على عبارات رائعة في الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد لاقت تلك العبارات رواجاً كبيراً فيما صُنّف في شهادات المستشرقين في النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما يأتي ذكرٌ لتلك العبارات وفق الترتيب الآتي:

أولاً: شهادته بنجاح النبي صل الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة.

حيث يقول جورج سارتون:

” كان هذا الرسول مثل أنبياء العهد القديم، ولكنه نجح في رسالته نجاحاً لا يضاهيه فيه نبي منهم ” [7]

ثانياً: ثناؤه على عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بالله تعالى.

وفي ذلك يقول سارتون:

” فالرسول كان متعبداً، وعالماً بالله، ومشرّعاً، ورجلاً عملياً ” [8]

ثالثاً: شهادته للنبي صلى الله عليه وسلم بنشر عقيدة التوحيد، وسبقه في إقامة صرح حضاري مرموق في جزيرة العرب.

حيث يقول جورج سارتون:

” وخلاصة القول أن الرسول أذاع عقيدةالتوحيد قبل مجيء طائفة الموحدين المسيحيين بما يناهز تسعة قرون وأعلن تفوقاللغة العربية دون أن يعرف لغة غيرها، وأنشأ مركزاً حضارياً للإسلام قبل أنتبرز شدة الحاجة إلى مثل هذا المركز حين بدأ الناس يدخلون في الدين أفواجاًمن مختلف الشعوب والعروق ” [9]

رابعاً: اعترافه بتحقيق النبي صلى الله عليه وسلم لرسالته التي بُعِثَ من أجلها.

حيث يشهد جورج سارتون للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته وتحقيق أهدافها، وفي ذلك يقول:

” لم يتح لنبي أنيحقق نبوته تحقيقاً تاماً كهذا الرسول ” [10]

المبحث الثاني: هفواته ومغالطاته.

على الرغم من عبارات الثناء والمتجيد والإنصاف السابقة التي ضمّنها المستشرق البلجيكي جورج سارتون في ثنايا كتابه، الإ انه تناقض مع نفسه فبثَّ في مواضع أخرى من كتابه عبارات تدل على جهله المركب تارة بحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم، وتدل على تحامله تارة أخرى.

ويمكن إجمال تلك الهفوات والمغالطات التي وقع فيها سارتون فيما يأتي:

أولا: وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعظم الشعراء في الادب العالمي، وزعمه بأنّ الوحي الالهي للنبي صلى الله عليه وسلم كان كالشعر أو شيئاً قريباً منه.

حيث يقول جورج سارتون:

” فالرسول كان متعبداً وعالماً بالله ومشرعاً ورجلاً عملياً، ومن أعظم الشعراءفي الأدب العالمي ” [11]

ويقول في موضع آخر من كتابه:

” وكأنما قيَّض للغة التي لم يتداولها قبلالقرن السابع إلا البداة الجفاة أن تغدو مطية رئيسية للدين والعلم في العالم. ولما كانت لغة القرآن لغة الله كانت كاملة بالتعريف.

وأنه لاتفاق رائع أيضاًأن يكون الرسول علماً باسقاً في اللغة قميناً أن يتلقى الوحي الإلهي بدقة، وأن تكون صيغة ذلك الوحي كالشعر أو بليغة مثله ” [12].‏

وكلامه هذا هو الجهل المطبق بالقرآنالكريم، ويحاكي جورج سارتون في دعواه تلك كلام المشركين وزعمهم الباطل قبل خمسة عشر قرناً حين ظنوا القرآنشعراً، وأن محمداً شاعر، وفي ذلك يقول الله تعالى:

﴿ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ﴾ [13]

ويقول أيضا:

﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [14] وقال سبحانه: ﴿ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ﴾ [15]

وقد ردَّ الله تعالى في كتابه الكريم على تلك الشبهة، وأبطلها، وبيّن أنّ هذا القرآن هو تنزيل رب العالمين يبلّغه رسول كريم، وليس بقول شاعر كما يدعون، وإنما هو من وحي الله وكلامه يبلغه جبريل – عليه السلام – لمحمد النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي يبلغ عن الله عز وجل، فقال سبحانه: )وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون (42) تنزيل من رب العالمين (43) [16]

ثانيا: زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف الكتابة ضمن نطاق ضيق.

حيث يقول جورج سارتون:

” لقد كان الرسول قليل الدراية بالكتابة -إنلم يكن أمياً- ولكنه كان ذا عبقرية كبيرة ” [17]

وهذه مغالطة تاريخية كبرى وقع فيها جورج سارتون حين يزعم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة، متناسيا إخبار القرآن الكريم عن أميته عليه الصلاة والسلام.

ومن الشواهد الدالة على أمية الرسول صلى الله عليه وسلم:

1- ورود آيات كثيرة في القرآن الكريم شاهدة بذلك ومنها قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ [18]

ومن ذلك اعتراف الكفار بأميته وعدم معرفته القراءة والكتابة، قال تعالى:

﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [19] فقولهم: اكتتبها أي كتبت له لتتلى بعد ذلك على مسامعه صباح مساء.

ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [20]

2-عندما نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء أول مرة بمستهل سورة العلق ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1] كان رده المؤكد بالتكرار: ما أنا بقارئ ومثل هذه الصياغة تفيد العموم حيث النكرة ” قارئ ” وقعت في سياق النفي والمعنى: لا أجيد أي لون من ألوان القراءة.

3- اتخاذه صلى الله عليه وسلم كتبة للوحي دليل بارز على أميته، إذ لو لم يكن كذلك لكتب القرآن بنفسه فإن قيل: ذلك عسير عليه أن يكتبه بمفرده قلنا: لا عسر في ذلك فالقرآن نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة، وكثير من الصحابة كتبوا مصاحف لخاصة أنفسهم، وإذا لم يتفرد بهذا فلا أقل من أن يقوم معاونا للكتبة مشاركا لهم، فإذا لم يفعل صلى الله عليه وسلم هذا مع توفر الدواعي إلى مثله فقد دل على أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. وقد مضى أنه أرسل إلى زيد بن ثابت ليكتب له.

4- كان صلى الله عليه وسلم يعاجل جبريل بالقراءة عند نزوله عليه بالقرآن خشية أن يتفلت منه فضمن الله له الحفظ وأنزل عليه قوله: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ ” [21]

والشاهد أنه لو كان كاتبا قارئا لما خشي ذلك لأن عليه فقط أن يدون ما نزل ليرجع إليه عند الحاجة، ولأن ذلك لم يحدث فقد دل على أنه أمي.

5-في فداء أسرى بدر جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء الواحد منهم أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين، وهذا تنبه منه صلى الله عليه وسلم إلى أهمية العلم فنحن مطالبون به ديانة، وعليه فلو كان مجيدا للقراءة والكتابة لقام بتعليم الصحابة وأبناءهم ضرورة أنه معلم الأمة، فإن قيل: كان من الممكن أن يعهد بذلك لأحد المسلمين القارئين الكاتبين قلنا: لم يكن واحد منهم ليؤثر في المتلقين تأثير النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وهذا معروف، فلما لم يحدث هذا فقد دل على أميته.

6- تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأميته عندما قال:

” إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ” [22]

فهذا تصريح واضح مصدر بإن التوكيدية ومذيل بجملة توضيحية تفسيرية ” لا نكتب ولا نحسب “

ثالثا: زعمه اتصال النبي صلى الله عليه وسلم باليهود والنصارى، ومجالسته لهم، وتلقيه عنهم بعض المعارف الروحية.

وفي ذلك يقول جورج سارتون:

” وقد لقي إبان رحلاته في وطنه يقودالقوافل التجارية لاجئين يهود ونصارى لهم من المعارف الروحية ما ليس للأعراب.

ولما كان الرسول شديد الاهتمام بالدين كان كثيراً ما يتحدث إليهم. وهكذا وقف على علم بأمور متعددة من التوراة والإنجيل ومن العقيدتين اليهوديةوالنصرانية، وقد تضمن القرآن هذه المعلومات حيث ورد عدد من قصص التوراة معقدر من التحويل (متوقع في مثل هذه الملابسات). هذا ويمكن أن يؤخذ الإسلامعلى أنه بدعة انشقت عن اليهودية أو النصرانية ” [23]

ويبدي جورج سارتون في عباراته تلك قلة دراية بحقيقةالدين الإسلامي، وحقيقة القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل.

وأما الكتب الأخرى فهي التي تناولها التحريفوالتحويل والتبديل.

وقد ذكر القرآن أنه جاء مصدّقاً للتوراة والإنجيل يدعم القيمالرفيعة فيهما.

فضلا عن أن كثيراً من العقائد المسيحية التي تكونتمؤخراً قد سبق إليها القرآن، واستفاد منهاالغربيون على طريق الترجمة إلى اللاتينية ولكن لا ينتظر من مصنّف غير مسلمأن يقول غير هذا.

ثم إن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه من زعمهم جورج سارتون من يهود ونصارى تأبى أن تكون مصدراً للقرآن وهديه، ولا سيما بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف، وفاقد الشيء لا يعطيه، كما أن القرآن قد تصدى لتصحيح عقائد أهل الكتاب وقام بتقويمها.

ثم لو كان هولاء الذين زعمهم جورج سارتون من يهود ونصارى هم مصدر القرآن الكريم لكانوا هم الأولى بهذا الشأن العظيم من محمد، ولادعوا لأنفسهم النبوة بدل أن يؤثروا بها غيرهم.

ولم يذكر لنا جورج سارتون أسماء هؤلاء الذين يزعمهم من اليهود والنصارى الذين تلقى منهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله جاء بذلك من تخييلاته وأوهامه، او مردداً لما ذكره أسلافه ومعاصروه من المستشرقين المجحفين دون تمحيص وتثبت.

كما يرد على تالك الشبهة التي أثارها جورج سارتون بأنه نعم هناك العديد من التشابه بين الديانات السماوية فى ما يتعلق بالتوحيد والمعتقدات، وإنكار عبادة الأصنام، وتقرير بعض الأحكام التعبدية، وإقرار بعض العقوبات الجنائية، ورواية بعض القصص المتعلقة بالرسل السابقين والأمم البائدة، والسبب فى ذلك أن هذه الكتب المقدسة جميعها مصدرها الله، ومرجعها اليه، أوحى بها إلى الأنبياء ليبلغوا بها الأقوام السابقة كما بلغ بها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فيكون مصدر هذا التشابه واحداً، لأنها صادرة من مصدر واحد هو الله الذى أنزل الديانات السماوية الثلاث.

رابعاً: زعمه ان اللغة العربية لغة الله تعالى.

حيث قال جورج سارتون:

” الأمر الأول هو أن الرسول لم يكن يعرف لغةغير لغته، فمن الطبيعي إذن أن يعلق أهمية كبيرة على تلك اللغة.

إن الذينيتكلمون لغة واحدة لا سيما أولئك الذين هم على حظ ضئيل من الثقافة يجنحونغالباً إلى اعتبار لغتهم اللغة الوحيدة الفذة، فالوحي الإلهي إنما نزل علىالرسول بالعربية -وليس في ذلك ما يدهشنا‍ – وعلى ذلك تكون العربية لغةالله ” [24]

وهذا زعم باطل من جورج سارتون، لا مستند له ولا دليل في شرع الله تعالى وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – السؤال الآتي:

” بماذا يخاطب الناس يوم البعث؟ وهل يخاطبهم اللّه تعالى بلسان العرب؟ وهل صح أن لسان أهل النار الفارسية، وأن لسان أهل الجنة العربية؟

فأجاب رحمه الله:

” لا يعلم بأي لغة يتكلم الناس يومئذ، ولا بأي لغة يسمعون خطاب الرب جل وعلا؛ لأن اللّه تعالى لم يخبرنا بشيء من ذلك، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام، ولم يصح أن الفارسية لغة الجهَنَّمِيِّين، ولا أن العربية لغة أهل النعيم الأبدي، ولا نعلم نزاعًا في ذلك بين الصحابة رضي اللّه عنهم، بل كلهم يكفون عن ذلك؛ لأن الكلام في مثل هذا من فضول القول، .. ولكن حدث في ذلك خلاف بين المتأخرين فقال ناس: يتخاطبون بالعربية. وقال آخرون: إلا أهل النار، فإنهم يجيبون بالفارسية، وهي لغتهم في النار. وقال آخرون: يتخاطبون بالسريانية؛ لأنها لغة آدم، وعنها تفرعت اللغات. وقال آخرون: إلا أهل الجنة، فإنهم يتكلمون بالعربية.

وكل هذه الأقوال لا حجة لأربابها، لا من طريق عقل ولا نقل، بل هي دعاوى عارية عن الأدلة، واللّه سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ” [25]

خامساً: إشاراته الخفية الى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو من جاء بشعيرتي الصيام والحج، وحرّم الخمر، وجعل ذلك سمة من سمات عبقريته صلى الله عليه وسلم، وكأنها لم تكن تشريعا من الله تعالى أوحى به لنبيه صلى الله عليه وسلم.

حيث يقول:

” لقد أدرك النبي مدى الحاجة إلى نظام قويلدعم الإيمان وتنقيته، وشهور الصيام والحج تمرينات تهذيبية من الطراز الأول.

إن كثيراً من كنائسنا تدنت إلى حد التفاهة بسبب تساهلها وافتقارها للنظاموقلة ما تقتضيه من اتباعها، حسب هؤلاء أن يدفعوا أجور مقاعدهم في الكنيسة لكييتبوؤوا مكانة ما من الصلاح. قد تكون أمثال هذه الكنائس مثرية ولكن لا طائلفيها، فإذا رمتم أن يكون اتباع الكنيسة مؤمنين لزمكم أن تفرضوا نظاماً متيناًوتسوموهم تضحيات حقيقية. لقد عرف محمد ذلك حقاً وإلى أقصى حد وهذه سمة أخرى لعبقريته النبوية.‏ ” [26]

و يقول أيضاً:

” الأمر الرابع أن الرسول حرّم شرب الخمر قبلأن يهيئ كشف وسائل التقطير أو شيوع استعمال هذه الوسائل أشكالاً مركزةومتوافرة من ذلك السم، وهنا أيضاً كان الرسول عالماً بالغيب حين توقع آفاتلما تذر قرونها إذ ذاك أو لم تكن على مثل انتشارها وخطرها اليوم. فلا مسلم إذن يشرب الخمر وضميره مطمئن فإن شربه فهو مرتد أو منافق ” [27]

وقد جهل أو تناسى جورج سارتون أن الذي شرع الصيام والحج، والذي حرّم الخمر هو الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حيث قال سبحانه:

﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [28]

وقال سبحانه ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [29]

وقال سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فاجتنبوه ﴾[30]

كما جهل سارتون أنّ شرب الخمر لا يسبب الارتداد عنالدين، وإنما هو كبيرة من الكبائر، يفسق مرتكبها في عقيدة أهل السنة والجماعة.

سادسا: زعمه ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مهتما بالعلم الى حد كبير.

حيث يقول:

” كان الرسول عميق الاهتمامبالحياة الأخرى وبقضايا الأخلاق والدين التي تتصل بالحياة الدنيا فشغله ذلك بعض الشيء عن العلم.

حاول بعض المدافعين عن الإسلام في العصر الحديث أنيتلمسوا في القرآن طائفة من الآراء العلمية ولكن هذا ليس بمقدورهم إلا إذاأعطوا الكلمات مضموناً ما خطر على بال الرسول أبداً ولا على بال أحد غيره مدى قرون، ولم يكن الخلفاء الراشدون أكثر عناية بالعلوم من الرسول ” [31]

ويرد على جورج سارتون بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين رفعوا من شأن العلم ما لم يرفعه عهد آخر.

وأحاديثه صلى الله عليه وسلم ناطقة بمكانة العلم، ووجوب طلبه ونشره، ورفع منزلة أهله.

ودعوى جورج سارتون في هذا الشأن لا تصمد أمام هذه الحقيقة الساطعة كالشمس التي لا يحجبها غربال.

المصادر والمراجع:

أولاً: المصادر المطبوعة

1- القرآن الكريم

2- الأعلام لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، الطبعة السادسة.

3- الثقافة الغربية فى رعاية الشرق الاوسط، لجورج سارتون، مكتبه المعارف – بيروت، 1952م.

4- الشرق الأوسط في مؤلفات الاميركيين لمجيد خدوري، ومحمد مصطفى زيادة، مكتبة الانجلو المصرية، 1953م.

5- صحيح الإمام البخاري، تحقيق محمد مصطفى البغا، دار القلم، دمشق – بيروت.1401هـ – 1981م.

6- صحيح الإمام مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، 1374هـ-1954م

7- مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية، دار المعرفة، بيروت – لبنان.

8- المنهج بين علي بن رضوان وجورج سارتون، محمد عبدالقادر البحراوي، جامعة الاسكندرية، ” كتاب الكتروني “

9- مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط، لجورج سارتون، ترجمة فاطمة عصام صبري.

ثانيا: المواقع الإلكترونية:

1- موقع مركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق.

2- موقع المعرفة.

3- موقع موسوعة ويكيبيديا الالكترونية.

——————————————————-

[1] أنظر موقع المعرفة – تاريخ الدخول 17 / 2 / 1012.

[2] مركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق، تاريخ الدخول 17 / 2 / 2012

[3] انظر موسوعة ويكيبيديا الالكترونية، الاعلام للزركلي 1/ 145، المنهج بين علي بن رضوان وجورج سارتون، محمد عبدالقادر البحراوي، جامعة الاسكندرية، ” كتاب الكتروني “

[4] موسوعة ويكيبيديا الالكترونية.

[5] انظر المصدر السابق، الاعلام للزركلي 1/ 145، مجلة المجمع العلمي، العدد 31: 678-680، مقدمة كتاب ” الشرق الأوسط في مؤلفات الاميركيين ” لمجيد خدوري، ومحمد مصطفى زيادة.

[6] أنظر ص 8 – 15 من الكتاب.

[7] مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط لجورج سارتون: 9.

[8] المصدر السايق: 9.

[9] المصدر السابق: 14.

[10] المصدر السابق: 14.

[11] المصدر السابق: 9.

[12] المصدر السابق: 12

[13] سورة الانبياء: الآية 5.

[14] سورة الطور: الآية 30.

[15] سورة الصافات: الآية 36.

[16] سورة الحاقة.

[17] مهد الخضارة الغربية في الشرق الأوسط: 10.

[18] سورة الأعراف: الآية 157.

[19] سورة الفرقان: الآية 5.

[20] سورة العنكبوت: الآية 48.

[21] سورة القيامة.

[22] أخرجه البخاري في صحيحه برقم 1814، ومسلم في صحيحه برقم 1080.

[23] مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط: 10.

[24] مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط: 11.

[25] ” مجموع الفتاوى: 4 / 300.

[26] مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط: 14.

[27] المصدر السابق: 14.

[28] سورة البقرة: الآية 43.

[29] سورة آل عمران: الآية 97.

[30] سورة المائدة: الآية 90.

[31] مهد الحضارة الغربية في الشرق الأوسط: 17.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى