الرَّهْبَنَة قادَتْهُ إلى الإسلام

الرَّهْبَنَة قادَتْهُ إلى الإسلام

بقلم أ.د. عبدالرحمن علي الحَجِّي (*)

يتعلق هذا الموضوع بأحد علماء النصارى، دَرَسَ وهيأ نفسَه وأسرتَه أنْ يكون راهباً وعالماً بديانته، بعد دراستها نحو ربع قرن متنقلاً بين البلدان، انتهى به المطاف إلى الإسلام في قصةٍ عجيبة، ذَكَرَها في كتابه الذي وضعه بعد إسلامه “تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب”(1)، بَيّن فيه بالدليل ثُبُوتَ نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من نصوص الإنجيل، كان قد تدرج في دراسته النصرانية حتى غدا أستاذاً وعالماً فيها، تَنَقَّل مِنْ مدينة لأخرى من أجل ذلك، ابتداءً مِنْ مَوْطِنه جزيرة ميورقة(2) الإسبانية في البحر المتوسط، ثم مدينة لارِدَة قرب برشلونة، بعدها إلى مدينة أخرى في الشَّمال الإسباني أو خلف جبال البُرْت، حيث درس على أحد أكبر علمائهم، بَقِيَ يدرس عنده عَشْرَ سنين يساكنه ويَخْدِمُه ويَدْرُسُ على يديه ويَحْضَرُ دروسَه اليومية في الكنيسة، أحبه الأستاذُ الشيخُ القسيس، لِمَا رأى مِنْ جديته وصِدْقِه وإخلاصِه، وبعد أنْ مَضَى على دراسته نحو ربع قرن حَدَثَ شيء عجيب!

إنه الراهبُ الإسباني المَيُورقي القس الكاثوليكي «أنسيلمو تُرْمَيد» Anselmo Turmeda، أسلم وغدا اسمُه أبو محمد عبدالله بن عبدالله التُّرْجُمان (832هـ)، وَضَعَ كتابَه المشار إليه آنفاً، مثلما أسلم أستاذُه الشيخ القس الكبير “نقلاو مرتيل”.

وُلِدَ “أنسيلمو” في جزيرة مَيُورْقَة Mallorca، لأسرة كاثوليكية حَضَرِيّة نحو عام 756هـ، كان وحيدَ أبويه، اهتم والدُه بتعليمه ليُصْبِحَ راهباً معروفاً، عالماً مرموقاً بالنصرانية، حَفِظَ الإنجيلَ وعَرَفَه، تَنَقَّل في مدنٍ كثيرةٍ، طَلَباً لعلومهم الدينية، دَرَسَ النصرانية ليكون أَحَدَ رهبانِها وعلمائها، كما أرادت أُسرتُه، استقرت دراستُه عند أحد كبار علمائهم المعروفين المشار إليه، الذي يعد مَرْجِعاً كبيراً مقصوداً، عاش عنده ويسكن معه ويتعلم عَشْرَ سنين.تحفه الاريب في الرد على عباد الصليب.jpg

بذلك غدا هذا الشاب “أنسيلمو تُرْمَيدا” ضليعاً في العلم، متحرِّياً للحقيقة أينما وُجِدَتْ، وكان مُطَّلِعَاً خبيراً بالعُلوم النصرانية، مثلما جَرَى لأُستاذه شيخِه المُسِن “نقلاو مرتين”(3).

كان التُّرْجُمان قد انتهى في دراسته للنصرانية عند هذا الأستاذ، جلس عنده يخدمه ويتعلم منه وسكن معه، حتى وَثِقَ به ثقةً عالية، إلى حد أنه دَفَعَ إليه مفاتيحَ مسكنه وخزائنَ مأكله ومَشْربه، لازَمَه عَشْرَ سنين، حتى جاء يومٌ حَدَثَ فيه أَمْرٌ عجيب! إذ تَخَلَّف الأستاذ عن دَرْسِه اليومي في الكنيسة، حَضَرَ الطلبة بدون الأستاذ، أخذوا يتذاكرون فيما سَبَقَ لهم تَلَقِّيه، تناقشوا في معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها إلى أن أَفْضَى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: «إنه يأتي مِنْ بعده نبي اسمُه البارقليط»(4)، فبحثوا في تعيين هذا النبي مَنْ هو مِنَ الأنبياء، وقال كُلٌّ منهم بحسب علمه وفًهْمِه، فعَظُمَ بينهم في ذلك مقالُهم وكَثُرَ جدالُهم ثم انصرفوا مِنْ غير تحصيل فائدة في تلك المسألة، وقال «أنسيلمو»: فأتيتُ مسكنَ الشيخ صاحب الدرس المذكور.

فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غَيْبَتي عنكم؟ فأخبرتُه باختلاف القوم في اسم «البارقليط»، وأن فلاناً قد أجاب بكذا وأجاب فلان بكذا، وسَرَدْتُ له أجوبتَهم، فقال لي: وبماذا أجبتَ أنت؟ فقلتُ بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل، فقال لي: ما قَصَّرْتَ وقَرَّبْتَ، وفلان أخطأ وكاد فلان أنْ يُقارِب، ولكن الحَقَّ خِلافُ هذا كُلّه لأنَّ تفسيرَ هذا الاسمِ الشريف لا يَعْلَمُه إلا العلماءُ الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم مِنَ العِلْم إلا القليل، فبَادَرْتُ إلى قدميه أُقَبِّلُهَا، وقلت له: يا سيدي، قد عَلِمْتَ أني ارتحلتُ إليك مِنْ بَلَدٍ بعيد ولِي في خِدْمَتِك عَشْرُ سنين، حَصَلتُ عنك فيها من العلوم جُمْلةً لا أُحصيها، فلعل مِنْ جميل إحسانكم أنْ تَمُنُّوا عليَّ بمعرفة هذا الاسْمِ الشريف، فبَكَى الشيخُ وقال لي: يا ولدي، والله أنت لتَعِزُّ عليَّ كثيراً مِنْ أَجْل خِدْمَتِك لي وانقطاعك إليَّ.

في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أنْ يَظْهَرَ ذلك عليك فتقتُلك عامةُ النصارى في الحِين، فقلتُ له: يا سيدي، والله العظيم وحَقِّ الإنجيل ومَنْ جاء به لا أتكلم بشيء مما تُسِرُّه إليَّ إلا عن أمرك، فقال لي: يا ولدي، إني سألتُكَ في أول قُدُومِكَ عليَّ مِنْ بلدكَ، وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يَغْزُونكم أو تَغْزُونَهم؟ لأختبر ما عندك مِنَ المُنافَرة للإسلام، فاعْلَمْ يا ولدي أَنَّ «البارقليط» هو اسمٌ مِنْ أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نَزَلَ الكتابُ الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأَخْبَرَ أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينَه هو دينُ الحق ومِلَّتَه هي المِلَّة البيضاء المذكورة في الإنجيل.

قلتُ له: يا سيدي، وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟

فقال لي: يا ولدي، لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميعَ الأنبياء دينُهم دينُ الله، ولكن بدلوا وكفروا(5).

عندها تَوَسَّل «أنسيلمو» إلى أُستاذِه أن يبين له معناه، فقال: هو اسم نبي الإسلام الدين الحق، وإذا أردت الدين الحق فاتبعه، فدُهش وتعجب! فقال التلميذُ للأستاذ الشيخ القسيس: وأنت؟ قال: أنا مسلم، لكن لا أستطيع إعلانَه، باعتبار كِبَر سني لأنهم يقتلونني.

فاستنصحه عما يفعله، فقال: إذا أردتَ الدينَ الحَقَّ فاتَّبِعْه، واذْهَبْ إلى بلد مسلم وهناك أعلن إسلامَك.

تَوَجَّه «أنسيلمو» إلى تونس، بعد أنْ مَرَّ بأسرته في جزيرة مَيُورْقَة لستة شهور، ثم سافر إلى تونس عَبْرَ جزيرة صِقِلّيَة، هناك أسلم وأعلن إسلامه وسَمَّى نفسَه عبدَالله التُّرْجُمان؛ لأنه امتهن الترجمة، تزوج ورُزِقَ ولداً سماه محمداً، تبركاً باسم النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

ألّف كتابه المهم الجدير بالقراءة والاهتمام والفهم، سائراً في سنن المخلصين الصادقين الأقوياء.

رحمه الله تعالى رحمة واسعة تامة سابِغَة.

_________________

الهوامش

(1) الكتاب مطبوع عدة مرات بعضها محقق، أخيراً حققه د. عمر وفيق الداعوق.

(2) كبرى الجزر الثلاث في البحر المتوسط (شرق إسبانيا) المعروفة أندلسياً “الجزائر الشرقية” Balearic Islands.

(3) تحفة الأريب، أبو محمد عبدالله التُرْجُمان، ص 61، 66، 76، قصةُ إسلامه مُمْتِعة جداً.

(4) كلمة يونانية Periclytos، تعني: الأَكْثَر حَمْداً، أي أنها: أحمد (اسم النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم).

(5) تحفة الأريب، أبو محمد عبدالله التُرْجُمان، ص 66، 68.

(*) أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي وحضارته.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى