علماء من عصرنا

الأستاذ الشيخ أمين العثماني الندوي رحمه الله

الأستاذ الشيخ أمين العثماني الندوي رحمه الله

كاتب الترجمة : طلحة نعمت الندوي

كان الشيخ الأستاذالفقيد الراحل الشيخ أمين العثماني الندوي ممن يحقّ له أن نذكر محاسنه ونتناوله بالذكر، ونتحدث عن شخصيته وعوامل تكوينه لأنه كان من الرجال الذين يتركون لهم بصمات ساطعة على جدران التاريخ الإسلامي، إنه راح إلى ربه ولكنه خلف وراءه له ذكرا رفيعاً وصيتاً واسعا، ومكارم باسقة قام بها في كلّ صمت وهدوء دون أن تخالطه الدعاية.

كانت أسرة الشيخ أمين عيسى الذي ولد فيها ونشأ وتربى أسرة دينية علمية، كانت لها خدمات جليلة ومكارم باسقة في الهند ولا سيما في منطقتها، قامت بها في كلّ صمت واختارت الخمول على الذيوع، وأصله ينحدر من سلالة عثمانية تنتمي إلى سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وينتهي نسبه إلى سيدنا عثمان بعد أربعين واسطة من الآباء، وهذه السلسلة هكذا:

أمين بن عيسى بن غلام شرف الدين بن عبدالعلي بن محمد علي بن غلام إمام بن جارالله بن محمد أعظم بن ملاّ كبير بن معروف بن منصور دانشمند بن الشيخ برهان الدين بن الشيخ برخوردار بن الشيخ إسحاق بن داود بن سليمان بن عبدالقدوس بن جلال الدين محمد الباني بتي الشهير بكبيرالأولياء، بن محمود بن يعقوب بن عيسى بن إسماعيل بن محمد بن أبي بكر بن علي بن عثمان بن عبدالله بن شهاب الدين بن عبدالرحمن بن عبدالعزيزالسرخسي بن خالد بن الوليد بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن عبدالله الثاني بن عبدالعزيز بن عبدالله الكبير بن الأمير عمرو بن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.

كان سيدنا عثمان رضي الله عنه قد تزوج بعد وفاة السيدة أمّ كلثوم بنت النبيّ عليه السلام أمّ عمرو بنت جندب الدوسيّ، ولد له منها عمرو، وكان له عشرة أولاد، ومن أبناءه عبدالله الكبير الذي كان سبطاً لعبدالله بن عمر رضي الله عنه، فقد كانت ابنته حفصة أمّاً له، وكان عبدالله هو الجدّ العاشر للشيخ عبدالرحمن الكاذروني الذي هاجر إلى الهند مع السلطان محمود الغزنوي فولاه القضاء والاحتساب في بلدة باني بت بمقربة من دهلي، وفي تلك المنطقة انتشرت ذريته، وكان فيها علماء كبار منهم الشيخ الشهير رحمة الله العثماني الهندي والقاضي ثناء الله الباني بتي صاحب التفسيرالمظهري.

اشتهر من سلالته هناك في باني بت الشيخ الشهير جلال الدين الشهير بكبيرالأولياء الباني خليفة الشيخ صابرالكليري من خلفاء الشيخ نظام الدين أحمد بن محمد البدايوني الشيهير بشيخ المشائخ، وكان الشيخ جلال الدين من كبار الأولياء في الهند وأشهر أعلامها في مدينة باني بت، هاجر ابن حفيده ـ وهو الشيخ سليمان بن عبدالقدوس ـ مع نجله داود بن سليمان إلى مدينة بهارشريف للاستفادة من أكبر علماءها وأجلّ شيوخ الهند الشيخ الإمام شرف الدين أحمد بن يحيى المنيري، ولما وصل إليها فإذا به قد فارق الحياة ولبى نداء ربه ولكنه لم يرجع بل سكن المدينة يستفيض من خلفاءه وينال التربية منهم من أمثال الشيخ مظفرالبلخي وخليفته الشيخ حسين بن المعز البلخي، وهناك جرت مصاهرته بإحدى سلالاتها الهاشمية فاستوطن المدينة.

وكان للشيخ داود ولد اسمه إسحاق تربى على يد الشيخ الجليل شعيب بن الجلال المنيري الدفين ببلدة شيخ فوره، ابن عمّ الشيخ شرف الدين أحمد بن يحيى المنيري، فكان خير خليفة له،وكان من كبارالأولياء الربانيين، وأقاما هنالك في نفس المدينة وتوفيا فيها بعد الإفادة والإرشاد وبها قبورهما في حارة بيكن آباد من حاراتها.

وكان حفيد الشيخ إسحاق الشيخ برهان الدين العثماني الذي راح إلى قرية “بيتهو” التابعة لمدينة كيا بمقربة من تلك المدينة فأخذ العلم هناك عن شيخها الشيخ درويش البيتهوي فزوجه بعد الفراغ من التعلم بكريمته السيدة بي بي أولياء، وأخذ التربية الروحية والطريقة عن جده الشيخ إسحاق، ثمّ استوطن قرية “ديوره” التابعة لمدينة كيا بمقربة من القرية السابق ذكرها، وهناك اشتغل بالتربية والإرشاد وإفادة الخلق، وكانت له إجازات للسلاسل المختلفة من كثير من المشائخ، وفي نفس القرية عاش مشتغلاً بالتذكير والإرشاد وهناك انتقل إلى جوار رحمة الله ودفن، وقبره هناك يزار، ثم لم يزل يخلفه أعقابه في التربية وإفادة الناس في نفس القرية إلى أن انتقل أحد رجال تلك الأسرة إلى قرية أخرى قريبة تعرف بـ”سمله” وهي الآن تابعة لمديرية أورنك آباد من بلاد بهار، وهو الشيخ غلام إمام السملوي الذي كان الجدّ الرابع للشيخ أمين العثماني، ولم يزل العلم والدين وسلسلة التربية والإرشاد مستمرّة في تلك الأسرة، وقد كان آباء الشيخ العثماني من رجال العلم والدين والخدمات الجليلة.

فقد كان والده الشيخ عيسى قد تعلم في كلّ من دارالعلوم لندوة العلماء ودارالعلوم ديوبند والمدرسة الأمينية بدهلي والجامعة الملية الإسلامية بدهلي، وبعد دراسته أقام في بهوفال في بعض أعمال التدريس وبعض الأعمال الأخرى مدة ثمّ أقام في مدرسة في منطقة مؤ باندار التابعة لمدينة جمشيد فور من ولاية جهارخند، وقد دعاه الأستاذ ذاكرحسين الرئيس الأسبق للهند الذي كان آنذاك شيخ الجامعة الملية الإسلامية بدهلي ليقوم بالخدمة فيها ولكنه اعتذر ثمّ اعتزل في القرية مشتغلاً بالعبادة منقطعاً عن الناس إلى الأعمال الدينية الصالحة حتى بها توفي ودفن بجوار آباءه الكرام.

في تلك الأسرة العلمية والبيئة الدينية التي كانت لها خدمات صامته ومساعي مشكورة للمسلمين أبصرالشيخ الأستاذ أمين العثماني الندوي النور في 15 مايو 1956، وتربى في أحضان العلم وغذي بلبانه من أول أيامه، وتعلم هناك على أهله مبادئ الدراسات، ولا نعرف أسماء الأساتذة التي أخذ عنهم، وتعلم كذلك في قرية مؤ باندار التابعة لمدينة جمشيدفور حيث كان والده مقيما بها، فعاش طفولته هناك وهناك تعلم جزءاً من مبادئ العلم والمتوسط منه، ولا نعلم كذلك هل تعلم خارج وطنه قبل التحاقه بدارالعلوم التابعة لندوة العلماء سوى القرية السابق ذكرها التي عاش فيها مع والده، ثمّ التحق بدارالعلوم التابعة لندوة العلماء، وقضى هناك مدة لا بأس بها من الزمن من نحو عشر سنوات أو ما يقاربها، واستفاد في ذلك من كبار أساتذتها وعلماءها، واستقى من معين علمها الثرّ الفياض، واستفاد كذلك من مجالس شيخ ندوة العلماء الشيخ أبي الحسن علي الندوي ونال من عنايته نصيباً غير منقوص، وأخد من أمثال فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي والشيخ محمد أويس الندوي والشيخ عبدالغفارالندوي وغيرهم من المشائخ والأساتذة والعلماء، وهناك أكمل دراسته في سنة 1976م، بعد ما نال شهادتها بدرجة ممتازة، وذهب إلى الجامعة الملية الإسلامية بدهلي حيث التحق بها وتلقى هناك العلوم والثقافة العصرية، حتى تضلع من الثقافتين العصرية والدينية، وهناك حصل على شهادة الماجستير في اللغة العربية، وبعد ذلك تمّ تعيينه كمحاضر في إحدى جامعات منطقة بنجاب أو كشمير، ولم تكن الوظيفة مستقلة، فكان يحاول أن يحصل على شهادة الدكتوراه بعد تقديم الأطروحة ويتمّ تعيينه كأستاذ مستقلّ في إحدى الجامعات في قسم اللغة العربية، ولكنه خلال هذه الفترة أسس هناك مجمع الفقه الإسلامي في دهلي بعناية ومبادرة من فضيلة الفقيه الشهيرالقاضي مجاهدالإسلام القاسمي والأستاذ الدكتور منظور عالم، وكلاهما طلبا منه أن يتولى هو إدراة هذاالمجمع فقبل الأستاذ العثماني ذلك زاهداً في الراتب الشهري الواسع والتسهيلات الرسمية الموفورة قانعاً بقوت زهيد حتى أصبح للمجمع روحاً لم تفارقه إلاّ بعد وفاته، وكلّ ما قام به المجمع خلال ذلك من أعمال علمية وما قام بإنجازه من مشاريع وعقد ندوات علمية وفقهية إنما يرجع الفضل في ذلك كله إلى الأستاذ العثماني، وإن لم يكن يرى الناس اسمه لا في المنصة ولا في الكتب والمنشورات ولكنه كان هو صاحب الفكرة لكلّ مشروع والعرق النابض في المجمع.

ولكنه لم يقصر خدمته على هذاالمجمع فحسب بل كان هو العضو المتحرك للجماعة الإسلامية بالهند وكذا من الأعضاء المتحمسين لمنبرالأقصى الدولي وقام له بخدمات مشكورة صامتة في الهند، وكانت له رغبة واهتمام زائد بقضية فلسطين والمسجد الأقصى، فعقد له عدة جلسات يسترعي انتباهات المسلمين ولا سيما العلماء منهم إلى تلك القضية المهمة، وكان يتابع الجرائد والصحف العربية بالمواظبة ويوجه أنظار العلماء إلى المهم من قضايا العالم الإسلامي، كما لا ينسى دوره في توجيه الشباب المسلم، فلم يكن يرى أحداً من الشباب فيه شيئ من العلم أو موهبة أخرى إلاّ قام بإرشاده وتوجيهه وبذل مواهبه في صالح المسلمين، ولذلك رأينا الكثير من الشباب يتأسف ويتحسر على فراقه ويندب على وفاته، وجلسات التأبين والعزاء التي عقدت عبر منصة الزوم والشبكات الإلكترونية وشارك فيها العدد الكبير من وجهاء الهند والعرب والعالم الإسلامي إن دلّت على شيئ فإنما تدلّ على قبوله على الصعيد العالمي وعمله الصامت وسعيه المشكور، فقد كان رجلاً ساذجاً بسيطاً لم يكن يحبّ الظهور ويختار الخمول سيراً على نهج آباءه الكرام، وكان جلّ همه إنما هو العمل بأيّ واسطة كان وبأيّ اسم، ولم يكن يهمه أذكر اسمه أم لا، فقد رأينا مراراً أنه قام بتنظيم الجلسة ثمّ تركها للعلماء الآخرين، وبعض أعماله التي قام بها أو وجه أنظارالناس إليها وصرف عناية كبارعلماء العالم الإسلامي والغرب آتت أكلها ضعفين، وقدرالناس مشورته عندما شاهد المسلمون من فوائده وآثاره.

وقد كان الشيخ من أبرز أعضاء الجماعة الإسلامية ولكنه لم يكن يظهر من حديثه أنه ينتسب إليها ويعمل لها، فلم يكن مغلوباً بآراء أهلها، بل كان يقبل الصالح منها، ويقوم بتوجيههم، ولو لم يكن في مجمع الفقه الإسلامي لكان أميراً أو نائباً لتلك الجماعة في الهند، كما كان يحبّ جامعته الأمّ دارالعلوم التابعة لندوة العلماء وشيخها وأستاذه الشيخ أبي الحسن على الندوي رحمه الله وكان يذكره كلما ذكره بكلّ حبّ واحترام وتقدير، كما كان رئيسها حالياً الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله من أحبّ الناس إليه.

وأمّا شفقته وعنايته على هذاالكاتب والعبد الفقير فلا يحتاج إلى بيان، فقد قدر لي زيارته لأول مرة عندما سافرت إلى مدينة غوهاتي عاصمة ولاية آسام لمشاركة ندوة علمية فيها، وكان الشيخ من أعضاءها، والمشاركين فيها، ووجدته على المطار، ومن هناك ذهبنا في سيارة واحدة إلى الفندق، وأخبرته بأنّ لي به قرابة، ونزلنا في غرفنا فكنت بجوار غرفته فتسنى لي الاستفادة منه في تلك الليلة، وفي هذه الرحلة كلها رأيته رجلاً ساذجاً عاديا لا يحبّ أن يظهر على المنصة أو يطالب المضيفين بأكثر مما أعدوا له ويرهقهم مع أنه كان هناك العدد الكبير من المشاركين من كانوا أقلّ منه علما وسنا ولكنهم نزلوا في دارالضيافة الكبيرة ورأسوا الجلسات، وكانت إليهم عناية الناس والمنظمين ولكن الشيخ لم يكن ليرفع إلى مثل هذا رأساً، ولم تحدثه نفسه بأمثال هذا، ثمّ بعد ذلك تتابعت عليّ عناياته ومننه ولم يزل يرشدني إلى المهمات من العلوم والأعمال العلمية وكلما نزلت دهلي حضرت إليه للقاءه وغمرتني شفقته.

وقد أخبرني بعض من أعضاء المجمع العاملين فيه أنّ الشيخ كان فيه جلادة وقوة وصبر على العمل حتى أنه حينما كان يدخل مقره فلم يكن يخرج منه إلاّ في الليل ولو قام الجميع في نحو الساعة الرابعة مساء، كما كانت فيه كفاءة عجيبة للتنظيم قلما تجتمع في رجل مع العلم، وهذه هي القوة التي عملت عملها في تنظيم المجمع الفقهي الإسلامي، وقد ذكر أحد الأفاضل الأستاذ اليماني عادل الندوي اليماني عنه “الرجل الفاضل الغيورالرجل الصالح العقل المدبر والقلب النابض لمجمع الفقه الإسلامي”،وصدق الأستاذ في قوله، وكذلك كان الأستاذ يعرف ترشيد الشباب والموظفين ولم يغضب على أحد إذا أخطأ في عمل بل يشجع كلّ عمل يصدر منه ثمّ يشير عليه بالزيادة أو النقص فيه بكلّ لين ورفق.

لقد فقدنا في شخص الأستاذ رجلاً عاملاً مخلصاً ومجاهداً صامتاً آثر لنفسه الخمول في مثل هذاالعصر عصر حب الاشتهار وإيثار نفسه على غيره، وكان خير مثال لأن يفكر دون نفسه وشخصيته.

أمّا علم الشيخ فقد كان علماً واسعاً مستحضراً، فكان يتقن العربية والأردية والإنجليزية، كما كانت له آراء سديدة حصيفة ودراسات واسعة في المسائل والقضايا الفقهية المعاصرة ومتطلبات العصر الراهن، أفاد بها الناس، فكان الشيخ واسع العلم متضلعاً منه.

وقد كان الشيخ من أسرة ربانية لها تاريخ في التربية والإرشاد والإصلاح، ولكنه حينما اشتغل إثر تخرجه بالنشاطات العملية فلم يسمح له الوقت حتى ينال التربية الروحية من أحد مع أنه كان صاحب عمل بعلمه مواظباً على الطاعات محبّاً للعلماء والربانيين عاملاً في الحقول الدينية، حتى مالت شمس حياته إلى الغروب، فعاد إلى أصله أي وطنه “سمله” بمناسبة الذكرى السنوية لشيخها الأكبر، وبايع شيخ زاويته حالياً وهو الأستاذ أبو دجانة العثماني الندوي، وقد أخبرني من شهد المشهد أنه أخبره أنه ألهم بذلك وأمر مراراً في المنامات والمبشرات بأن يتوجه إلى وطنه ويبايع شيخها فعمل وفق ما ألهم وأمر به وبشر حتى كانت هي الرحلة الأخيرة إلى وطنه. رحمه الله رحمة الأبرار الصالحين وتقبله وتقبل منه جميع حسناته وعفا عن زلاته.

المصدر: رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى