تقارير وإضاءات

إمام أوغلو.. متدين أوصلته المعارضة العلمانية لعرش إسطنبول

إمام أوغلو.. متدين أوصلته المعارضة العلمانية لعرش إسطنبول

إعداد نهى خالد

“هل فكرت بتغيير اسمك الأخير؟ ولماذا نجِد في دعايتك الانتخابية فتيات محجبات بالكامل؟”

  

كان السؤال شخصيًا وربما مفاجئًا لـ “أكرم إمام أوغلو”؛ بينما يجلس هو على مكتب بسيط لا يحوي سوى حاسوبه الشخصي، وكوبًا من الشاي، ليطالع الأسئلة التي انهمرت عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أسابيع من انعقاد الانتخابات المحلية التركية التي جرت منذ أقل من ثلاثة أسابيع، في 31 مارس/آذار المنصرم، حيث ترشح “أوغلو” فيها عن حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مؤسس الجمهورية التاريخي “مصطفى كمال أتاتورك”؛ حزب عُرف حتى وقت قريب بعلمانيته المتطرفة.

لم يكن “إمام أوغلو” بمرشح معتاد بالنسبة لأنصار حزب “الشعب”، فالرجل يمارس شعائر الدين الإسلامي من صلاة وصيام عكس السواد الأعظم من قيادات الحزب الحالية والسابقة، ممتلكًا خلفية محافظة أتاحت له التواصل مع شرائح واسعة من الأتراك المحافظين أيضًا، لكنها ولنفس السبب أثارت اهتمام وفضول ناخبي حزب الشعب التقليديين، ممن لم يعتادوا انتخاب أشخاص يختلفون عنهم سياسيًا واجتماعيًا بهذه الدرجة.

وصلت الأسئلة إذن إلى اسم العائلة “إمام أوغلو”، وما إن كان حامله يرغب في تغييره إلى اسم لا ينضح بخلفيته المحافظة بهذا الشكل، وكذلك للاستفسار عن الظهور الاستثنائي لذوي الخلفيات المحافظة في شتى المحافل الانتخابية الخاصة به، ولا سيّما المحجبات، على العكس من مرشحي الحزب في السابق ممن اقتصر اعتمادهم على القواعد الشعبية العلمانية المحدودة بمعاقله في إسطنبول مثل بلديات بشيكطاش وقاضيكوي، ولم يكن شائعًا رؤية المحجبات بتلك الصورة في فعالياتهم الانتخابية.

 إمام أوغلو مع والدته وأخته (رويترز)

«أنا ممنون لاسم عائلتي.. وكل من يعيش في مجتمعنا سيظهر في صورنا». بتلك الكلمات الواضحة والموجزة رد إمام أوغلو على السؤال الأول؛ وهو سؤال يشي باستمرار بهواجس قديمة شكلت طويلًا ملامح استقطاب بين فريقين محافظ وعلماني، لكنه استقطاب محلي بات يتآكل تدريجيًا بينما يحل محله استقطاب سياسي حول شخصية الرئيس رجب طيب أردوغان وسياساته، مما أدى مؤخرًا لتجاوز البعض ذلك الخط الصلب بين التديُّن والتنوير، وعشاق وكارهي أتاتورك، وغيرها من الثنائيات المعتادة التي لا تنطفئ في السياسة التركية، لا سيما مع النمو الاقتصادي في العقدين السابقين، والذي كان لقوى محافظة عديدة دور أساسي فيه، ومن ثم تقلّصت في صفوف الأجيال الجديدة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية التي صنعت تلك الهوة بين الفريقين قديمًا.

جلس “إمام أوغلو” يتواصل مع ناخبيه الشباب عبر الإنترنت، ويتحدث عن إنجازاته كرئيس سابق لبلدية “بيليك دوزو” بإسطنبول حيث يقطن هو وعائلته منذ ثلاثة عقود، بينما ظهرت خلفه مكتبته وبها عشرات الكتب، في حين تم وضع أحد تلك الكتب بمواجهة الكاميرا ليمكن لمشاهدي البث قراءة عنوانه بسهولة: “أتاتورك”، والتعرف على صورة الأخير من بعيد والتي احتلت الغلاف بأكمله. حل مؤسس الجمهورية ضيفًا خفيفًا إذن هذه المرة على الحملة الانتخابية لحزب الشعب بدلًا من الملصقات الضخمة التي هيمنت على الفعاليات الانتخابية السابقة، فقد قرر الحزب كما بدا أن يتطلع بجدية نحو المستقبل ويتناسى الماضي ولو مرة في حملة انتخابية كان شعارها “نهاية مارس يحِل الربيع”، في إشارة رمزية للتغيير المرجو بعد الانتخابات في نهاية مارس، شعار جديد تدفقت معه آلاف الأصوات لأجل وجه المعارضة الشاب “إمام أوغلو” مانحة إياه عمودية المدينة الأهم بعد ربع قرن من هيمنة المحافظين عليها، عمودية تسلّمها في الأخير بالأمس بعد أكثر من أسبوعين من طعون متواصلة قدمها العدالة والتنمية لإعادة الفرز قلّصت الفارق بين إمام أوغلو ومرشحهم “بن علي يلدرم” لكنها لم تقلب النتيجة بحال.

إمام أوغلو يتسلّم رسميًا مهامه عُمدة إسطنبول بالأمس (رويترز)

من طرابزون إلى بيليك دوزو

وُلِد “إمام أوغلو” في إحدى قرى ولاية طرابزون المطلة على البحر الأسود عام 1970 لأب يعمل بالزراعة وتربية الحيوانات وتوريد مواد البناء، حتى نمت تجارته في قطاع الإنشاءات بما يكفي وقرر الهجرة إلى إسطنبول عام 1987، حيث استقر في بلدية بيليك دوزو الواقعة أقصى غرب إسطنبول مطلع التسعينيات. كان أكرم، ابن السابعة عشر آنذاك، قد أنهى دراسته الثانوية للتو ومن ثم التحق بجامعة إسطنبول ليدرس فيها إدارة الأعمال باللغة الإنجليزية، ثم يحصل على درجة الماجستير في إدارة الموارد البشرية وينضم لشركة والده التي تأسست بعد تخرجه عام 1992.

ينتمي أكرم إلى عائلة ارتبطت بالسياسة وإن لم تجعلها مسلكها الرئيسي مثلما قرر هو في الأخير قبل عشر سنوات، فقد انتمى والده لحزب الحركة القومية اليميني خلال حقبة السبعينيات العنيفة والتي شهدت مواجهات دامية في الشوارع بين اليمين واليسار حتى قرر الجيش القيام بانقلابه الأعنف عام 1980، ثم انتقل الوالد بمزاجه اليميني بعد ذلك إلى حزب الوطن الأم تحت قيادة توركوت أوزال المدعوم من الجيش حينئذ، وبات من مؤسسي فرعه في ولاية طرابزون ورئيسًا لمقر الحزب بإحدى بلديات الولاية (1).

    

بيد أن الجد “مولود إمام أوغلو” هو الشخص الأقرب لقلب العُمدة الجديد وعقله أيضًا، إذ كان الرجل واحدًا من آلاف حاربوا مع “أتاتورك” خلال عشرينيات القرن المنصرم للدفاع عن إسطنبول ليقطع الأناضول من شرقها إلى غربها، تاركًا خلفه قريته بطرابزون متجهًا لأنقرة ومتوليًا مهامه كـ “طوبجي” (حامل المسدس بالعُثمانية) قبل أن يتوجه إلى إزمير أثناء تحريرها من سيطرة اليونانيين، وأخيرًا إلى إسطنبول حيث شارك في جهود الحرب ضد محتليها من الإنجليز، وهي حكايات استمع لها باستمرار أكرم الصغير حتى رحيل جده وعُمره سبعة أعوام، وورث بسببها تقديرًا كبيرًا لشخص أتاتورك (2).

على خطى جدّه قطع “إمام أوغلو” المسافة من طرابزون إلى إسطنبول وإن لم يواجه نفس المصاعب، لكنها رحلة حملته سياسيًا من اليمين إلى اليسار، إذ منحته سنواته كطالب جامعي الفرصة للتعرّف على أفكار يسارية عديدة ابتعد بها عن نهج والده رُغم تجربة وجيزة له في عضوية حزب الوطن الأم، لكنه اتجاه لم يدفعه بعد للبحث عن مستقبل سياسي، ليستمر وقتها في عمله الإداري على رأس شركة والده، قبل أن تبدأ الإدارة في الاقتراب به رويدًا من المجال العام عبر انخراطه في مجالس إدارة الأندية الرياضية المحببة لقلبه، فقد بدأ عام 2002 عمله كعضو بمجلس إدارة نادي طرابزون سبور، النادي الأشهر في مسقط رأسه طرابزون، قبل أن ينتقل إلى مجلس إدارة نادي بيليك دوزو (3).

إمام أوغلو يتسلم خِتم رئاسة إسطنبول من سلفه “مولود أويصال” (وكالة الأناضول)

على موقعه الإلكتروني الخاص، كتبَ إمام أوغلو مقالًا كاملًا عن جدّه ورحلته الطويلة، وخصّ فيه جزءًا للحديث عن مساوئ الفترة الأخيرة من عُمر الدولة العثمانية، ناظرًا لها بعدسة يسارية نوعًا ما ومستنكرًا النظام الإقطاعي الذي هيمن عليها، وسحابة الجهل والأمية التي خيّمت على الأناضول حينذاك، و«الموازين المختلّة» في توزيع الثروات والمناصب تحت حكم السلطان، بالمقارنة في نظره مع «النظام الحديث الذي دشنه أتاتورك وتساوى فيها الجميع وانصب فيه الاهتمام على التعليم»، غير أن مؤسس الجمهورية لا يعني بالضرورة للجميع نفس ما يعنيه لإمام أوغلو، فالمحافظون ممن يمقتونه والعلمانيون ممن ينظرون له بمنظار يميني قومي يقعون على نفس المسافة من عدسة اليسار الديمقراطي التي ينظر بها له إمام أوغلو.

من اليمين إلى اليسار

منذ عاد حزب الشعب الجمهوري للعمل السياسي على يد “دنيز بايقال” في مطلع التسعينيات، بعد أن تم حلّه في أعقاب انقلاب 1980 واختفى من الساحة لعقد كامل، صارت صفوف الحزب تعِج بشتى فئات النُخبة التركية المتوجسة من صعود الإسلاميين السريع في التسعينيات، واستوت في ذلك النخب بالمعنى الاجتماعي؛ وهم أصحاب أنماط الحياة العلمانية والغربية القلقين من انتشار مظاهر الدين الإسلامي من جديد، والنخب بالمعنى الاقتصادي؛ المتخوفين من تبلور بُعد اشتراكي لخطاب الإسلاميين الأتراك على غرار نظرائهم في إيران إبان “الثورة الإسلامية”، وما إن كان صعودهم أيضًا سيكون إيذانًا بانقلاب في موازين القوى الاقتصادية وتقويضًا لكبرى العائلات الثرية المعروفة في تركيا.

    

تغيّرت طبيعة تلك الهواجس بعد صعود العدالة والتنمية بتنحيته جذوره الإسلامية جانبًا وتوسيعه قاعدته الشعبية ليصبح رويدًا وريث الأحزاب المحافظة البعيدة عن الإسلام السياسي مثل حزب الوطن الأم، وبالتبعية أصبحت أجندته الاقتصادية أكثر ميلًا إلى يمين الوسط، والتف حوله رأس المال الأناضولي الذي غلب على أصحابه اجتماعيًا التوجه المحافظ. وفي خضم ذلك التحوّل وخفوت هاجس “أسلمة” تركيا، فقدت قيادة “بايقال” للحزب الجمهوري معناها تدريجيًا، وبات شعار «الدفاع عن قيم الجمهورية» باعتبار تلك القيم نقيضًا للرجعية الدينية قضية ميتة، ليظهر في تلك الأثناء تيار أقرب لليسار يسعى لإعادة الحزب لما كان عليه تحت قيادة “بولنت أجاويد” في السبعينيات، والذي منح تركيا تجربتها السياسية الأكثر ميلًا لليسار حتى يومنا هذا.

بينما تعالت أصوات اليساريين الديمقراطيين داخل الحزب، قرر أكرم إمام أوغلو الانضمام لحزب الشعب الجمهوري عام 2008، وأعلن رغبته في الترشح عن الحزب لرئاسة بلدية بيليك دوزو المُشكّلة حديثًا في الانتخابات المحلية للعام التالي، لكن الحزب رفض ترشيحه في ذلك الوقت قبل أن يخسر انتخابات رئاسة البلدية لصالح العدالة والتنمية بفارق ألف صوت. في نفس العام تولى “إمام أوغلو” رئاسة فرع الحزب في بيليك دوزو، وتلا ذلك بعام واحد استقالة دنيز بايقال؛ استقالة أمل كثيرون أن تكون نهاية السردية النخبوية المهيمنة على الحزب، وبداية إعادة تعريفه كحزب “يسار الوسط” تحت قيادة كمال قلجدار أوغلو، وهي آمال لم تتحقق في معظمها.

إمام أوغلو أثناء حملته الانتخابية (مواقع التواصل)

لطالما انجذب “إمام أوغلو” لتلك القراءة الديمقراطية الاجتماعية لتجربة أتاتورك، والتي همّشت من المكوّن القومي والعنصري فيها -على العكس مما فعله القوميون- وسلطت الضوء على مفهوم الدولة الحديثة عنده لتصبح ركيزة يستند لها مفهوم جديد لدولة رفاهة (اقتصاديًا) تقدمية (اجتماعيًا) أميل لليسار، وأكثر قابلية للتحاور مع الأكراد، وأكثر قبولًا لتعدد الخلفيات الاجتماعية العلمانية والمحافظة على السواء، وأكثر رفضًا لتدخل الجيش في السياسة (4).

بتلك الحزمة من الأفكار ترشح إمام أوغلو عن حزب الشعب لرئاسة بلدية بيليك دوزو عام 2014، لينجح على رأس حملة انتخابية قرع فيها أبواب منازل المواطنين بنفسه وجلس معهم على موائد الإفطار في رمضان، قبل أن يرأس البلدية لخمس سنوات كان تركيزه فيها على مساحات الشباب من مراكز ثقافية ورياضية، علاوة على الاهتمام بالخدمات العامة كتنظيف الشوارع وتوسيع المساحات الخضراء والاهتمام بالساحل المُطِل على بحر مرمرة؛ جهود كثيرة لأجل الخدمة العامة حاز بها الإعجاب كما تشي تعليقات أحد قاطني البلدية قائلًا: «لم يكن عضوًا تقليديًا بحزب الشعب يدشن تماثيل أتاتورك هنا وهناك.. إنه يملك القدرة على التواصل مع الجميع، وهنالك كثيرون من حولي يمنحون أصواتهم في العادة للعدالة والتنمية وسيمنحونها هذه المرة (2019) لحزب الشعب الجمهوري من أجل بيليك دوزو» (5).

من أطراف إسطنبول إلى قلبها

قبل أسبوعين من موعد الانتخابات المحلية هذا العام، جلس “إمام أوغلو” في جامع أيوب سلطان المعروف وإمام الجامع إلى يمينه، وانفتحت أمامه نسخة من القرآن الكريم ليبدأ في قراءة آيات من سورة “يس” من أجل أرواح الشهداء الذين قُتلوا في الهجوم الإرهابي العنصري على جامع النور في نيوزيلندا، وكانت قراءته لا بأس بها أظهر فيها الرجل ما تعلمّه في صباه أثناء الدروس الدينية في طرابزون من تجويد، ولاقت استحسانًا واسعًا كما تشي التعليقات المنتشرة على الفيديو المصوّر له على موقع يوتيوب من أنصار حزبه وأنصار العدالة والتنمية على السواء (6).

«إنه أمر نادر جدًا لمرشح من حزب الشعب.. لم نرَ من قبل مرشحًا من ذلك الحزب يُظهر تلك المودة مع أنصار اليمين والمحافظين والمتدينين»؛ هكذا أتى تعليق المستشار السابق لعُمدة أنقرة بين عامي 1994 و2017 “مليح كوكتشك” في حوار مع صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية (7). ولم يُظهر “إمام أوغلو” المودة مع المحافظين فقط بل ومع المصوّتين الأكراد كذلك، فقد أجاب في حوار قبل أسابيع عن سؤال بخصوص إمكانية حصوله على أصوات من حزب الشعوب الكردي، وهو سؤال يشكّل أحيانًا اتهامًا بالنظر للروابط السياسية بينه وبين حزب العمال الكردستاني المحظور، لكنه أشار إلى أن إسطنبول هي وطن الأكراد الأكبر من حيث أعداد الموجودين منهم بالمدينة؛ «نأكل نفس الخبز ونشرب نفس الشاي، لقد تعب شعبنا من سياسات الهوية تلك»، كما أجاب بشكل قاطع (8).

للمفارقة، وبينما امتزج الخطاب القومي بخطاب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة وابتعد عنه أكراد كثيرون، بدا خطاب “إمام أوغلو” وكأنه يسير على نفس الخُطى التي سار عليها العُمدة الأسبق لمدينة إسطنبول “رجب طيب أردوغان”، والذي شغل المنصب عام 1994، واهتم بالخدمة العامة وتجاوز الاستقطابات الأيديولوجية، قبل أن يمد يده للأكراد فور وصوله للسلطة عام 2003 على رأس حكومة إصلاحية ظلت تنحّي الأيديولوجيا الأصلية لمدرسة “أربكان”، تمامًا كما يفعل “إمام أوغلو” اليوم مع إرث العلمانية المتطرفة لحزب الشعب الجمهوري، حتى انقلبت الأمور في الأعوام القليلة الماضية، وبات الحزب الحاكم أكثر تعبيرًا عن مزيج يميني ديني وقومي في آن يزداد ابتعادًا عن سكان كثيرين بالمُدن.

من أطراف إسطنبول إذن حملت صناديق الاقتراع “أكرم إمام أوغلو” إلى قلبها، في لحظة تمنّى فيها “إمام أوغلو” لو أمكن أن تكون تكرارًا لنظيرتها قبل ربع قرن، حين أعلنت الصناديق عن فوز “أردوغان” بعمودية المدينة، ووقف حينئذ مع منافسه من حزب الشعب الديمقراطي الاجتماعي “نور الدين سوزَن”، في حين توسطهما “أربكان” وحمل يديهما في تقبُّل واضح للهزيمة من جانب “سوزَن” العُمدة السابق، وآخر عُمدة غير محافظ تحظى به مدينة إسطنبول.

صورة من بث قناة إن تي في؛ أكرم إمام أوغلو وفي يده الصورة التاريخية للثلاثي المذكور “أردوغان – أربكان – سوزن” (مواقع التواصل)

في مؤتمر صحافي له بعد إعلان النتيجة الأولية أمسك إمام أوغلو بصورة لتلك اللحظة عام 1994 وعرضها على أنصاره متسائلًا «هل بات صعبًا لهذه الدرجة أن تُرفع يد المنتصر بعد خمسة وعشرين عامًا؟ تعالوا وارفعوا أيدينا.. لنبدأ العمل في رئاسة تلك المدينة على أكمل وجه فنحن أيضًا مواطنو هذا البلد.. أكرم إمام أوغلو هو عُمدة مدينة إسطنبول» (9).

بين الخدمة والأيديولوجيا

كانت كلماته قوية وبرّاقة، لكن سبقتها قبل يومين هتافات مثيرة لأنصار حزب الشعب في إحدى مؤتمراته اضطر “إمام أوغلو” بنفسه لوقفها، حيث هتف العشرات «نحن جنود أتاتورك» خلال مؤتمر صحافي له، ومن ثم اعترض “إمام أوغلو” الذي يعلم جيدًا مساوئ ذلك التصوّر الأيديولوجي للحزب، ورد على أنصاره بقوله أنه سيكون عُمدة للجميع بغض النظر عن خلفيتهم أو عرقهم أو دينهم، وأنه يتوقع منهم (أنصار الحزب) أن يُظهروا نفس الدرجة من الاحترام أيضًا، بيد أنها إشارة لم تكن موفقة كليًا، إذ أن الهتاف لم ينطو بالضرورة على عدم احترام الآخر، بل كان مجرد تعبير صريح عن أيديولوجية الحزب.

     “إمام أوغلو” هذه الأيام حفاوة بالغة في الصحف المعارضة والعالمية كذلك، باعتباره وجه إصلاحي سيتمكن عبر عمودية إسطنبول من تدشين تجربة سياسية جديدة على غرار رئيس البلاد الحالي الذي بدأ مشواره بعمودية إسطنبول أيضًا، لكنها ربما حماسة سابقة لأوانها وقعت تحت سحر نكهة ديمقراطية اجتماعية اتسمت بها حملته الانتخابية، وغفلت عن طبيعة الموائمات اليمينية التي انتهجها حزب الشعب الجمهوري على مستوى 80 ولاية أخرى قضت على أي ميل مأمول نحو اليسار.

فإمام أوغلو في نهاية المطاف عضو غير معتاد بحزب عتيق تتركز فيه مصالح النخبة القديمة، وهي نخبة تمثل ثقل رأسمالي لن تعجبها بالضرورة آراء الرجل الاقتصادية، ولعلها ترى فيه فقط ورقة ناجحة لانتزاع انتصار محلي، لا مشروع قيادة سياسية جديدة. وفي هذا الصدد ليس بإمكاننا أن نغفل كيف أتى قرار الدفع ب “إمام أوغلو” لعمودية إسطنبول مجاراة لليمين الديني، تمامًا كما تم الدفع بـ “منصور ياواش” لعمودية أنقرة مجاراة لليمين القومي المتصاعد، والذي كان عضوًا سابقًا بحزب الحركة القومية، علاوة على تحالف حزب الشعب على مستوى تركيا كلها مع حزب الخير المنشق أيضًا عن الحركة القومية (10).

   

يبدو “إمام أوغلو” غير مواكب للحظة التي ظهر فيها، فهو يحمل ابتسامة هادئة، ويصرّ على عبور خطوط الاستقطاب الأيديولوجية في مرحلة تتمتع فيها الأيديولوجيا والشعبوية برواج غير مسبوق منذ عقود على مستوى العالم؛ رواج دفع بأردوغان منذ ست سنوات لمواكبة الموجة اليمينية تلك وخلع عباءة الإصلاح ما بعد الإسلاموي التي ارتداها لعقد كامل، والقفز في تحالف صريح لحزبه مع الحزب القومي صاحب التاريخ العنيف، واتخاذ مواقف أيديولوجية أكثر صلابة في الداخل والخارج -لم تؤت كلها أكلها بالضرورة- لكسب الرأي العام الجانح نحو اليمين.

تجدر الإشارة هنا إلى ما فعله زملاء “إمام أوغلو” المنتصرين مؤخرًا في رئاسة ولايات صغيرة ليست بعيدة عن العاصمة أنقرة، مثل ولايتي بولو وبيلَجيك، فقد قام عُمدة “بولو” الجديد بوقف المساعدات للسوريين في خطوة لاقت استهجانًا واسعًا من أنصار الحزب الحاكم قبل أيام، كما قام عُمدة “بيلَجيك” بنزع الأعمال الفنية العثمانية من داخل مقر البلدية بعد فوزه، في إشارة واضحة لاستمرار مركزية سياسات الهوية الأتاتوركية المعادية للإرث العثماني داخل حزب الشعب الجمهوري.

أنصار إمام أوغلو ينتظرونه في أول زيارة له بعد النتائج الأولية (غيتي)

«لم يكن مدفوعًا بأية أيديولوجية ولكن بالرغبة في الخدمة العامة ليس إلا»؛ هكذا تحدّث عن أكرم أحد ناخبيه في بيليك دوزو قبل أسابيع؛ حقيقة تشي لنا بأسباب نجاح “إمام أوغلو” محليًا في مدينة كبيرة مثل إسطنبول، لكنها ربما تشير للسبب الذي سيحول بينه وبين القدرة على منافسة الحزب الحاكم، بل والسبب أيضًا في العراقيل التي سيواجهها داخل حزبه نفسه الذي لا يزال يعِج بالنُسخة المتطرفة من العلمانية الممزوجة بالقومية، وكذلك يعِج بمصالح رأس المال القديم الذي يصطدم في العادة بأصحاب الأجندات اليسارية على اختلاف أطيافها.

طريق طويل ووعِر إذن لا يزال أمام “إمام أوغلو” خلال عموديته لإسطنبول التي بدأت رسميًا بالأمس وستستمر لخمس سنوات، وكذا ما بعدها إن أراد التحوّل لزعيم سياسي ينافس أردوغان، أما الحديث عنه كتحدٍ سياسي للحزب الحاكم فلا يزال مبكرًا جدًا عن أوانه، فالرجل لا يكفيه أن يكون الشخص المناسب، بل لابد وأن يظهر في الوقت المناسب، والحزب المناسب أيضًا.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى