كتب وبحوث

مداخل العلوم الشرعية.. وسؤال المنهج!

إعداد : محمد بن حسين الأنصاري

(1)

ما يُسمَّى بفكرة «مداخل العلوم» قضية مركزية في بناء المعرفة، وظاهرة طبيعية في التعليم، ومطلب ضروري لمجتمع العلم لا يمكن الاستغناء عنه؛ للحاجة التي تلبيها فكريًّا وواقعيًّا، وهي أساس لمبدأ التدرج المعرفي، والسير مع العقل البشري من السهل للأسهل، فالمرء لا يمكنه استيعاب ما يفوق قدراته الذهنية والنفسية، ليس في مجال العلوم فحسب والمعاني، بل حتى في مجالات أخرى كالمحسوسات والمطعومات، فللإنسان (جسمًا وعقلًا وروحًا) قانون في الحياة يسير وفقه في كافة شؤونه، ولا سبيل لهفي اكتساب المهارات، منذ نشأ طفلًا حتى يشيخ غير الصعود والترقي وفق هذا النهج السُّنني / الكوني.

(2)

وعلى هذا المبدأ جاءت مناهج التعليم الحديثة، والكتاتيب القديمة= استجابة لهذه الضرورة المعرفية، ومن هنا كان للعلماء في كثير من الفنون إسهاماتٌ متعددةٌ في التقريب والاختصار؛ لتحصيل العلم حتى أصبح هذا دَيدنهم، فلن تجد فنًّا إلَّا سلك أهلُه طريقة التهذيب في توضيح مبادئه الأولى، وربما تاريخ نشأته وتطوره.

وبهذا يمكن القول: إنَّ مداخل العلوم الشرعية في الصياغة التراثية على شكلين:

الأول: تقريب موضوعات العلم ومواده بصورة موجزة للمبتدئين في التعليم، ومن مظاهر هذا الشكل ما يعرف بـ«المتون والمختصرات» التي برع فيها العلماء وأبدعوا وتفننوا قديمًا وحديثًا.

الشكل الثاني: ما يُعرف بتاريخ العلوم وفلسفتها وتطورها وما يتصل بذلك، وربما يُقال: إنَّ من صور هذا الشكل عند علماء الإسلام ما يُسمَّى: بـ«المبادئ العشرة» لكل علم كتعريفه، وموضوعه، وثمرته، وواضعه، وحكمه ونحو ذلك، وكثيرًا ما يتطرق العلماء لهذا الأمر في مقدمات الكتب، ومطلع دروسهم وشروحهم.

ومن صور هذا الشكل أيضًا الكتب التي تؤرخ للعلم، سواء كان علمًا خاصًّا بعينه كالفقه والحديث، أو كتب تاريخ العلوم الإسلامية كافة كـ«الفهرست»، و«كشف الظنون»، وغيرهما من المصنفات (القديمة والحديثة) التي رَصدت وتتبعت حركة التأليف والتدوين في التاريخ الإسلامي، ولا زال هناك جوانب نقص وخلل كثيرة يمكن إضافتها وتطويرها للشكلين السابقين.

ولعلَّ الناظر والمتتبع للتراث الإسلامي يلحظ الفارق الكبير بين الاهتمام بالشكل الأول عن الثاني، وربما لا جدال في أنَّ الشكل الأول أكثر أهمية وحاجة من الثاني، ولكن ذلك لا يعني إهمال الثاني أو التقليل منه، لا سيما أنَّه يساعد في ضبط وإدراك الأول، بل هو في الحقيقة مدخل ضروريٌّ له، وأرضية صلبة للبناء، وما لـم تتأسس (عند المتعلِّم) مبادئ الفن وتطوره ومنهجه الكلي قبل تصور مسائله؛ فإنَّه يوشك بفنه أن يسقط أو ينهار، وقد يضر بذات العلم وأهله من حيث لا يحتسب!

(3)

وفي هذا المقال الموجز – الذي أردت به التنبيه على أهمية تقنين هذا الموضوع – أعني بالمداخل العلمية: ما يقارب الشكل الثاني مع التعديل والإضافة؛ وذلك لمحاولة المساهمة في التطوير والبناء بصورة منهجية وكلية دون الخوض بعمق فيما يختص بفروق ومحتويات كل علم؛ فذلك لأهله وأربابه.

إنَّ في هذه العصور المتأخرة أخذت المداخل العلمية أشكالًا متباينة، وصورًا متعددة، تتفاوت في الحسن (محتوى ومنهجًا)، كما برز الاهتمام بشكل ظاهر بالنمط الثاني في الصياغة التراثية للمداخل؛ وذلك مع التطور المدني، وتقنين التعليم الجامعي، والرغبة في إعطاء صورة متكاملة الأجزاء عن العلوم الشرعية للمتخصصين فيها ابتداء، ولأرباب الفنون الأخرى؛ نظرًا للحاجة الماسة في إبراز دور الحضارة الإسلامية في بناء العلم والمعرفة.

وبما أنَّ المداخل العلمية بهذه الأهمية، نظرًا لمساحة المستفيدين منها، ولِـمَا تقدمه من رؤية ثاقبة، وقراءة شاملة لمجتمع العلم كمادة وُجودِه وماهيَّتِه، وقصة تطوره ورجاله، ونظرياته ومفاهيمه، وعلاقاته بغيره اتصالا وانفصالا= فإنَّ الأمر بحاجة لدرجة عالية من الدقة والاهتمام، وتكاتف الجهود من المهتمين بالعلم، ومحافل التدريس، ومراكز البحث العلمي.

(4)

وممَّا يمكن مداولته بين المعنيين (للتحرير والإضافة): وضع رؤية مُحكمة، وخطة مقترحة تحتوي على الحد الأدنى فيما لا يَقبل الترك أو الذكر كمدخل نظري لهذا العلم أو ذاك؛ لأنَّ ذلك ممَّا يرفع من قيمة هذه المداخل الشرعية، وجودتها منهجًا ومضمونًا، وفي هذا السياق سأذكر ما يمكن أن يكون ملاحظات عامة على بعض المداخل الشرعية التي حَصَلت عليها، حتى يتم الحوار حولها قبولًا أو ردًّا.

إنَّ مجمل هذه المداخل يعاني من أمرين:

الأول: التباس المنهج وعدم وضوحه:

وهذا ينعكس سلبًا على الرؤية الكلية للمدخل؛ فالمنهج يضبط المسار، ويرتِّب الأفكار، وبغيابه يظهر الخلل: في تحديد الغاية والمستهدف من المدخل. وللأسف؛ فإنَّ السمة الغالبة على كثير من المداخل الشرعية متمثلة في عدم انتظام عرض المادة وتناسقها، والاضطراب في استخدام المناهج أو الغفلة عنها بالكلية، فالتقريب والتسهيل للمدخل الشرعي لا يعني أن يكون مبتسرًا مفكَّكًا لا يُعرف منطقه المنهجي ولا إطاره المعرفي، فمن ضروريات البحث المنهجي والكتابة العلمية: أن تكون ذات نسق مترابط، بمعنى أنَّ موضوعاتها لا بُدَّ أن يرتبط بعضها ببعض عن طريق السبب العلمي والتاريخي أو الضرورة العقلية التراتبية، وهذا يلزم منه التسلسل الفكري والهرمي للقضايا، ما يساهم في الوعي بها، وتصور بناء المصطلحات والمفاهيم، كما يكشف ذلك عن عمق ومتانة العلوم الشرعية، وهذا مقصد غاية في الأهمية، فكثيرًا ما يُؤتى النقد للعلوم الشرعية والتقليل منها من جهة ضعف أهلها والمنتسبين إليها.

وفكرة أنَّ المداخل الشرعية غالبًا ما تكون لغير المتخصصين في العلم، مما أثَّر سلبيًّا على عدد ممَّن كتَب فيها، فاكتفى برصف الكلام بمعلومات جامدة، دون إطار منهجي يجمع تلك الموضوعات في نسق واحد!

ومن مظاهر الارتباك في المنهج أيضًا: الخلط بين التقرير للعلم وبين التعريف به، وهذا نتج عنه التباين الجلي بين المداخل العلمية في ذات الفن! ومن الأسئلة التي يسعى هذا المقال لبثِّها: كيف تكون الكتابة العلمية للمداخل؟ وماذا تعالج؟ وبأي منهج تُعرض وصفي وتحليلي أم تاريخي ونقدي؟ وما هي المعايير والأسس اللازمة لذلك الفعل؟ وهل هناك قيم ومبادئ لهذا العمل أم لا؟

الثاني: ضعف المحتوى:

وهو كذلك من نتائج إشكال المنهج وغموضه، والوهَن في المضمون غالبا ما يَتبيَّن:

– في اللغة سواء كان ذلك في الأسلوب الناظم عمومًا، أو المفردات والتراكيب.

– وقد يكون في أصول العلم وفروعه، بمعنى أنَّ كاتب المدخل قد يخلط في المحتوى بين المتن والهامش، فيؤخر أو يترك ما يستحق الذكر، ويذكر ما يستحق الترك.

– ويتصل بذلك عدم الاهتمام بضبط المصطلحات الرئيسة في العلم ومفاهيمه الكلية التي تُشكِّل النظريات، وطريقة إثباتها ونفيها أو قبولها وردها.

– وعمليات أخرى مهمة كالاستشهاد والنقل، والأمثلة والنماذج، وكيفية عرض الأقوال والآراء الأخرى في ذات العلم، أو العلوم المجاورة.

والوعي بالمنهج والاهتمام به كفيل بردم تلك الفراغات وسدها، والعلوم الإسلامية حافلة بالمنهجيات العلمية الرصينة، لا تحتاج سوى الضبط والتطبيق،حتى تَبرز وتقترب من المهتمين بالعلم.

وحرف المسألة أنَّ الاهتمام بالمنهج والعلوم المعيارية كاللغة وأصول «الفهم» والمصطلح وغيرها لا بُدَّ أن يكون مضاعَفًا وظاهرًا في أي مدخل علمي يُكتب، فالقارئ في الفقه والعقيدة والحديث والتفسير لا يحتاج لمعلومات مبعثرة من هنا وهناك في العلم فقط، دون أن يؤكَّد على ذهنه بأن هذه المضامين ليست هي العلم فحسب، بل إنَّ هناك منهجًا ناظمًا وراء تلك القضايا، وقانونًا مؤسسًّا لها (فهمًا وتقريرًا وردًّا)، والتنبيه على شأنَّها لا يعني نقلها في ذات المدخل، ومسألة أنَّ تلك العلوم ثانوية، وأنَّها (وسائل وليست مقاصد!) بحاجة للنظر والتحرير خاصة في ميادين التعليم، فالآلة والأداة أحيانًا تكون هي الأصل؛ لتوقف الضبط والتصور عليها، فهي العمق الحقيقي لإدراك العلم واستيعابه، وإهمالها وضعفها يعني موت العلم ولو بعد حين، كما يُؤدِّي لتحنيط العلوم في صور ومتاحف للعرض والمفاخرة، أو تحويلها لمحتويات باردة يلوكها المرء دون رابط بينها، أو عدم القدرة على تفعيلها والبناء عليها!

(5)

وصفوة القول: إنَّ الحاجة قائمة – وستبقى – لمداخل شرعية تكشف حقيقة العلم وهويته بشكل أعمق وأدق، وتتطرق لصلاته العرضية أو الجوهرية مع العلوم الأخرى، وتحاول قبل ذلك أن تؤسس لأرضية متماسكة يُبنى عليها ما يشبه النموذج المنهجي، وتحدد الإشكالات الكبرى التي يجيب عنها المدخل، ونظمها في قالب مقترح لكل مدخل علمي.

وربما تجدر العناية ببعض هذه الأسئلة إضافة لِـمَا سبق: مَن يكتب المدخل العلمي؟ هل يكفي لكتابة المدخل أن تستوعب العلم لا غير؟ أم هناك مهارات فنية لهذا؟ وما هي؟ ومَن يحددها؟ ثم كيف تتطور العلوم وتنشأ؟ وما هي المؤثرات الزمانية والمكانية في الماضي والحاضر لذلك؟ وما حدود تأثير العلوم بما يجري اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا؟ وإلى أي مدى يمكن الاستفادة مما يسمى بـ«فلسفة العلم» وتاريخ العلوم ومناهجها؟

وسيكون هناك بحث لاحق – بإذن الله – في هذا المجال، يجيب على بعض الأسئلة والمحاور السابقة وغيرها، ويُفصِّل القول بالأمثلة والشواهد فيما يتعلَّق بالمآخذ على المداخل الموجودة – وبالله التوفيق – والحمد لله رب العالمين من قبلُ ومن بعدُ.

*المصدر : مركز نماء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى