كتابات مختارة

واقعية التربية الاقتصادية الإسلامية

بقلم كيندة حامد التركاوي

الإسلام دين الواقعية؛ إذ راعى ظروف الإنسان وفطرته وطبيعته البشرية في كافة الأحكام التي تُنظم شؤون حياته، وإن شريعة الإسلام لم تحرم شيئاً يحتاج إليه الإنسان في واقع حياته كما لم تبح شيئاً يضره[1].

تبدو واقعية التربية الاقتصادية في كونها قوانين إلهية، وليست قوانين وضعية بشرية تفلسف الأمور تارةً، وتشطح بالخيال تارةً أخرى، فالقوانين الوضعية مهما بلغت من الدقة والشمولية الحد الأمثل إلا أنها لن تستطيع الوصول إلى الحد الأكمل؛ لأن القوانين الوضعية لن تُرضي الجميع، ولن تصلح لكل زمانٍ ومكان. بينما واقعية التربية الاقتصادية الإسلامية تتضح من خلال:

1- التوازن والتوافق:

إن السمة الواضحة والجليّة للتربية الاقتصادية الإسلامية هي التوازن بين المادية والروحية، والعمل والعبادة، والفرد والجماعة، والواقع والمثالية…

 فالاقتصاد الإسلامي واقعي في غايته؛ لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية بطبيعتها ونوازعها العامة ويحاول أن لا يرهق الإنسانية في حسابه التشريعي، لا يحلق بها في أجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإمكانياتها. وإنما يُقيم مخططه الاقتصادي على أساس النظرة الواقعية للإنسان ويتوخى الغايات الواقعية التي تتفق مع الفطرة [2].

 إن التربية تحتاج فعلاً إلى التوازن والاعتدال والتوسط، فالمربي الناجح والموفق يمارس التربية، وقد فتح عيناً على ما يريده من الطفل في كل المجالات وكافة المستويات، وعيناً على كيفية تطبيقها بأريحية وسهولة ضمن إطار المسؤولية الملقاة على كاهله، فكل فرد في المجتمع الإسلامي مسؤول عن خدمة ومصلحة هذا المجتمع كلٌّ حسب موقعه ووظيفته وسلطته واختصاصه وطاقته.

 ولا تنحصر مسؤولية الإنسان على نفسه، بل تمتدَّ امتداداً عريضاً يشمل محيطه الاجتماعي، بل يشمل أيضاً مسؤولية المسلم تجاه البيئة الطبيعية وما فيها من كائنات حية، وثروات طبيعية عليه الحفاظ عليها، وحمايتها ورعايتها على الوجه الذي أمره الله تعالى به.

 فقد استنبط الإنسان من بيئته وسائل عيشه من مأكل ومشرب، وملبس ومسكن، ووسيلة انتقال ووسيلة ترفيه. لكن استغلال الإنسان للمصادر الطبيعية التي منحه الله إياها لم يكن أحياناً بطرق سليمة ورشيدة، وإنما كان ذلك الاستغلال بطرق استترافية ومسرفة، خاصة المصادر الطبيعية غير المتجددة كالفحم والبترول والمياه الجوفية [3].

 ولا يخفى على أحد الأزمات التي يتعرض لها العالم بأسره، من الأزمة الاقتصادية العالمية إلى أزمة المياه، ومشكلة المجاعة التي يتعرض لها ملايين البشر في جنوب أفريقية، ناهيك عن مشكلة الطاقة الكهربائية في عصر يعمل على الكهرباء بكافة مجالاته الصناعية والزراعية والحياتية. والحل بالتربية الاقتصادية الإسلامية، فالتربية الاقتصادية في توازنها تدعو إلى السلوك الاقتصادي القائم على التوازن بين الكسب والإنفاق، وبين الحاضر، والمستقبل. ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29] والإسلام في جوهره ليس أكثر من تخطيط للسبيل الأمثل إلى حياة أفضل، حياة يسودها الأمن والاستقرار والرفاهية.

 ومن هنا يمكننا القول بأن تزويد الفرد، من خلال مؤسسات التنشئة الاقتصادية، بمعلومات كافية حول المفاهيم، والنظم الاقتصادية الرئيسية من شأنه التأثير إيجاباً في تشكيل سلوكه الاقتصادي الرشيد. ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلا أنّه إذا كان ذلك الوعي لازماً للفرد العادي في العالم الغربي، فإنه أكثر لزوماً للفرد المسلم نظراً لأن بعض الأركان الأساسية في دينه، والذي لن يستقيم إسلامه إلا بالوعي بها وممارستها، هي ذات طبيعة اقتصادية كالزكاة مثلاً. وهنا يأتي دور الخطباء والدعاة في المساجد، بالتوعية والتعريف بالمفاهيم الاقتصادية الإسلامية، في خطب الجمع، والدروس اليومية والمناسبات الدينية.

 2- المرونة والتأثير:

الإسلام ثابت والحياة متطورة، وينبغي أن يندمج المتحرك مع الثابت، والإسلام لا يأبى الاقتباس من الآخر فيما لا يتعارض مع خصائصه الذاتية، ولا ننسى أن الاقتباس مشروط بتأكد صلاحه وثبوت نفعه، وضرورة توافقه مع المصلحة الشرعية [4].

 ولقد أكد فقهاء الإسلام على أن الشريعة الإسلامية بصفة عامة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الثبات والمرونة، وبين المحلية والعالمية، وتسمح بالاجتهاد فيما ليس فيه نص بضوابط شرعية، وفى إطار ذلك ينطلق أهل الحل والعقد والشورى والخبرة من علماء المسلمين للوفاء باحتياجات الأمكنة والأزمنة بما يسير على الناس ومعاملاتهم الاقتصادية [5].

الإسلام منهج شامل لكافة جوانب الحياة، عقيدة وشريعة، عبادات ومعاملات، دين ودولة يمزج بين المادية والروحانية في إطار متوازن، صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، لا يحده عصر ولا قطر لأنه دين الفطرة السوية. كما أن الشريعة الإسلامية تجمع بين الثبات والمرونة، ثبات القواعد الأصولية الكلية، ومرونة الفروع والتفصيلات والوسائل والإجراءات، وهذا ينطبق تماماً على الاقتصاد الإسلامي، حيث يقوم على مجموعة من القواعد والضوابط الشرعية التي تمثل الثوابت، كما يتسم بالمرونة من حيث أساليب ووسائل وأدوات وإجراءات التطبيق ليتواءم مع ظروف كل زمان ومكان [6].

 وتعتبر المرونة من المفاهيم النفسية المفيدة في فهم سلوك الإنسان، وهى تعني قدرة الفرد على إن يغير من تصوراته وسلوكه في مواقف وظروف معينة كدلالة للتغير الحادث في تلك المواقف، مثلما يعدل مرؤوس مرن من تصوراته السلبية عن سلوكه مع المرأة عندما تصبح قائدته امرأة، ومن يفشل في ذلك يسمى متصلباً، وبالتالي سيصبح غير مستقر نفسياً… وحين ننتقل لمجال الاقتصاد سنجد إن مسألة المرونة الإنفاقية تعد عنصراً ضرورياً للتوافق النفسي للفرد، ومن شأن تدريبه عليها مبكراً وترسيخها لديه مما يجنبه العديد من الصعوبات الناجمة عن تدنى مقدار ما يحوزه منها، وثمة نماذج وصور عديدة يمكن للأسرة، وهيئات المجتمع الأخرى بواسطتها تنشئة تلك المهارة لدى أفرادها، والمنطق الكامن خلف ذلك أن الفرد القادر على أن يعدل مستوى إنفاقه ليواكب الظروف المحيط به، سيتمكن من ضبط موازنته المالية، حيث يقلص من إنفاقه حين ينخفض دخله، ويوسع هذا الإنفاق في حالة ارتفاع دخله بصورة متوازنة، أما من يعجز عن خفض نفقاته حين يتضاءل دخله سيقع في ورطة مالية، فإما أن يقترض أو أن يقع فريسة الإحباط الذي قد يولد بدوره، أدواء أخرى، وثمة صور شائعة في الثقافة لمن يتسمون بالتصلب الإنفاقي حيث نجد على سبيل المثال، العائدين نهائياً من العمل بالخارج، يستمرون في الإنفاق بنفس المعدل مما يعجل بتبدد مدخراتهم ووقوعهم في مشكلات مالية وأسرية واجتماعية متعددة، ونجد ذات الظاهرة لدى من يتقاعدون.

ومن فضل القول أنه من شأن تحلى هؤلاء بقدر مرتفع من المرونة الإنفاقية أن ييسر عليهم التكيف مع هذه الأوضاع، ومن ثم يجنبهم تلك المشكلات وفي المقابل فإن من يتحسن دخله، ويستمر على الوضع السابق، نظراً لتصلبه الإنفاقي، سيثير حفيظة أسرته، ويكبح طموحاتهم المشروعة التي تتدرج تحت مقولة أن الله يحب أن يرى نعمته على عباده، وهى أوضاع غير مرغوب فيها أيضا، وبناء عليه فنحن في حاجة لتدريب الفرد في إطار الأسرة أولا، على ممارسة هذا التوازن المرن بين دخله وظروفه الراهنة في ظل الحرص، بنفس القدر، على الادخار والإنفاق الرشيد [7]. تتضح مرونة التربية الاقتصادية الإسلامية في سهولة تطبيقها في المجتمعات قاطبة؛ لأنها تتسمم بالبساطة والوضوح والدقة في كيفية التنفيذ، بما يعود بالنفع على الأفراد والمجتمعات.

 3- الديمومة:

لقد استخدم الإنسان عبر تاريخه المديد التربية كوسيلة لتحقيق الأهداف المتعددة التي كان يرى فيها الإنسان تحقيق سعادته وطموحاته، ولكن هذه الأهداف كانت وما زالت وستبقى متجددة متنوعة من عهد إلى آخر. ومن قرن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. ومع هذه الاختلافات كلها في الأهداف بين القرون، والعهود، والمجتمعات، إلاّ أنّ التربية ما زالت وستبقى الوسيلة الوحيدة التي يتسنى للإنسان عن طريقها تحقيق ما تشرئب له النفس البشرية من أهداف تربوية عامة.

 إن المجتمع الذي لا يؤمن إلا بالمعطيات المادية دون الاعتقاد بالأمور الميتافيزيقية[8]. تكون تربية أبناء هذا المجتمع قد أُسست على قواعد وأسس تربوية وعلمية تحقق لهذا المجتمع أهدافه التي لا تتعدى الجوانب المادية من هذه الحياة وما يهم الإنسان فقط في حياته المادية بنسبة ما يسعى هذا الإنسان إلى تحقيقها عن طريق إعداد شتى الجوانب المتصلة بالبرامج التربوية من وسائل متعددة وإمكانات بشرية ومادية. وبهذا يكون المجتمع قد اتخذ من التربية وسيلة لتحقيق أهدافه في ضوء نظرة أبناء هذا المجتمع للوجود ولحقيقة الحياة الدنيا. وهذا هو النمط التربوي الذي نلاحظه في هذه الأيام في معظم الدول المتقدمة.

أما بالنسبة إلى المجتمع الذي يعتقد أفراده بالنهج الإسلامي كإطار فكري لهم في الدنيا، فإن هذا المجتمع للوجود بما فيه الحياة الدنيا سوف تختلف عن نظرة أبناء المجتمعات الأخرى التي لا تؤمن بالنهج الإسلامي ويكمن سر هذا الاختلاف بما يعكسه النهج الإسلامي من أفكار ومعتقدات وأنماط سلوكية في نفوس أتباعه. لذلك فإن أهداف هذا المجتمع الإسلامي تكون أشمل وأكبر من أهداف المجتمعات الأخرى. لذلك فإن التربية التي يمكن بواسطتها تحقيق أهداف هذا المجتمع سوف تختلف عن التربية في المجتمعات الأخرى بمقدار الاختلاف بين أهداف المجتمع المسلم التي تقودنا إلى غايات متصلة بحاضرنا ومستقبلنا في هذه الدنيا، وأهداف أخرى تقودنا إلى تحقيق غايات وجودنا في هذا الكون. وهو الفوز بجنات النعيم في الآخرة. هذا بجانب الاختلاف الشامخ بين النهج الإسلامي المتبع في المجتمع الإسلامي والأطر الفكرية الأخرى المتبعة في المجتمعات غير الإسلامية التي تؤثر بشكل قوي على برامج التربية وانعكاساتها الفكرية والسلوكية في شتى المجالات الحياتية [9].

 ومن سمات التربية الاقتصادية الاستمرارية، ولهذا فإن تربية الأبناء هي في الوقت نفسه تربية للأحفاد. فليس الهدف من التربية الاقتصادية الإسلامية أنّي الزمان والمكان، لكن دائرة التربية الاقتصادية أوسع بكثير مما يتخيله البعض، فربما ظن بعض المربيّن بأن تربية أبنائهم تربية إيمانية اقتصادية يعود على أسرهم بالنفع، فيحفظ المال، ويضمن العيش الكريم، ويكسب رضا الله سبحانه وتعالى . ولكن هناك لون من التكافل لم يلتفت إليه الباحثون وهو: التكافل بين أجيال الأمّة بعضها وبعض وهو يكمل التكافل بين أقطار الأمّة بعضها وبعض، فهو تكافل زماني، بجوار التكافل المكاني. ومعنى تكافل الأجيال: ألا يستأثر جيل بخيرات الأرض المذخورة المنشورة، ويحلب درها، حتى لا يترك في ضرعها قطرة لمن بعده. بل يجب على الجيل الحاضر أن يحسب حساب الجيل المقبل، بل الأجيال المقبلة، وأن يصنع صنيع الأب الرحيم البصير، الذي يحرص على أن يدع ذريته في حال اكتفاء واستغناء، وأن يقتصد في إنفاقه واستهلاكه، حتى يترك لهم شيئاً ينفعهم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ [10].

ومثل ذلك يُقال للمجتمع الذي يأكل رزق أجيال في جيل واحد. وهذا ما جعل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأبى تقسيم سواد العراق على الفاتحين، وقد طلب ذلك عدد من الصحابة، وهو ثروة هائلة يستمتع بها جيل الفتح، ولا تجد الأجيال القادمة المدافعة عن حُرمات الأمّة، وبَيْضة المِلَّة، ما يصرفون منه، لإعداد عُدَّتهم، وبناء قوتهم، وقضاء حوائجهم. ولهذا كان عمر يقول لمعارضيه: أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء؟

 والتربية الاقتصادية الإسلامية ليست هدفاً فقط في ذاتها، ولكنها ضرورة للإنسان المسلم خاصة وغير المسلم عامة، ووسيلة لازمة لتحقيق الغايات العليا للمجتمعات قاطبة، فهي المعين على تحقيق الحياة الكريمة، والمساواة العادلة بين الأفراد، وهي الطريق لردم الهوة العميقة بين الفقراء والأغنياء، وهي العلاج الناجع لمشكلة المجاعات العالمية، والمشكلات الاقتصادية، والأزمات المادية.

—————————————

[1] مرسي، أكرم رضا، قواعد تكوين البيت المسلم، القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، 1425هـ/2004م، 75.

[2] العسل، إبراهيم، التنمية في الفكر الإسلامي، 198.

[3] السعود، راتب، الإنسان والبيئة “دراسة في التربية البيئية”، عمان، دار الحامد للنشر، 1424هـ / 2004م، 36.

[4] الزعتري، علاء الدين، معالم اقتصادية في حياة المسلم، 46.

[5] شحاته، حسين، الاقتصاد الإسلامي بين الفكر والتطبيق، 53.

[6] المرجع السابق، 241.

[7] فرج، طريف شرقي، الأبعاد النفسية للتنشئة الاقتصادية بين الواقع المجتمعي والمتوقع الإسلامي، 7.

[8] الميتافيزيقا: هي العلم الذي يدرس الأسس الأولى أو المبادئ الأولى التي تقوم عليها المعرفة الإنسانية، وهي شعبة من فلسفة العلوم الطبيعية، وتعّرف على أنها فلسفة، تبحث في أسرار الكون والظواهر الغريبة، وجميع الأمور الغيبية التي لم يجد لها العلماء تفسيراَ.

.يُنظر: ويكبيديا، الموسوعة الحرة.

[9] الحيَاري، حسن، أصول التربية في ضوء المدارس الفكرية إسلاميا وفكرياً، إربد، دار الأمل، 1431هـ/ 1993م، 230.

[10] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب المغازي (64/ 38)، باب حجة الوداع (77/ 78)، حديث (4409)،7، 15.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى