كتابات

الريسوني يشرح “قاعدة تغير الأحكام بتغير موجباتها”

بقلم د. أحمد الريسوني

نص القاعدة:

تَتَغيَّرُ الأحكامُ بِتَغَيُّرِ مُوجِباتِها (بتصرف)[1]

صيغ أخرى للقاعدة:

1– الأحكام تتغير بتغير مناطاتها[2]

2– تتغير بعض الأحكام بتغير الزمان[3]

3– لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان[4]

4– لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان[5]

قواعد ذات علاقة:

1– نسخ الأحكام مجمع عليه قاعدة أخص[6]

2– النسخ لا يكون في الكليات[7]

3– تتغير الفتوى بتغير الأزمان[8] /(قاعدة أخص).

4– المعلول يدور مع علته وجودا وعدما[9] /(قاعدة أعم).

5– إذا تغيرت الحقيقة تغيرت الأحكام[10] /(علاقة تعليل).

6– الأحكام لا تتغير بتغير الأسماء[11] /(علاقةُ مطابقة ضمنية).

7– تَحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور[12] /(قاعدة فرعية).

8– العادة محكمة[13] /(قاعدة متفرعة).

شرح القاعدة:

تعبر هذه القاعدة عن أحد المبادئ المعتمدة في التشريع الإسلامي, ألا وهو مبدأ جريان التغير في بعض الأحكام الشرعية, وفق الشروط والضوابط العلمية المعتبرة شرعا. أما تغيير الأحكام بطريقة غير شرعية, وعلى غير سند علمي صحيح, فهو إما ابتداع في الدين, أو تعطيل لأحكامه. وكلاهما عدوان وفساد. وليس ذلك مما نحن فيه بسبيل.

ونعني بتغير الأحكام هنا, جميعَ أنواع التغيير التي تطرأ على الأحكام الشرعية بطريقة شرعية, سواء كانت هذه الأحكام تكليفية أو وضعية, وسواء كان ذلك بالنسخ من الشارع نفسه, بين شريعة وأخرى, أو في الشريعة الواحدة, أو كان باجتهاد العلماء والولاة, المراعي لتغير الأسباب والأحوال, أو بالترخيصات والأحكام الاستثنائية, أو بإحداث تقييدات وتحديدات على الأحكام الأصلية.

فنحن هنا نتحدث عن المبدأ, مبدأ التغيير في الأحكام الشرعية, وأنه واقع وممكن الوقوع, بصور متعددة, تبعا للأسباب والحِكَم التي يراعيها الشرع في وضع أحكامه وتغييرها.

فكل حكم جديد, لفعل من أفعال المكلفين, يكون مغايراً أو مغـيِّرا لحكمه الشرعي المقرر له من قبل, فهو نوع من تغيير الأحكام الذي نعنيه في هذا المبدأ, بغض النظر عن مصدره وسببه واصطلاحه الخاص الذي يسمى به, لأن كل ذلك يندرج في المعنى العام للتغير والتغيير, ويعرب عن جريان هذا المبدأ واعتماده — بمقاصده وضوابطه — في الشريعة الإسلامية.

فجوهر المسألة واحد, وهو طرو التغيير وتعاقبه على بعض الأحكام الشرعية. وكذلك الأسباب الموجبة — أو المسوغة — للتغيير, هي في جوهرها وفي جملتها واحدة, وهي تغير موجبات الحكم, أي تغير الحالة السابقة التي نيط بها الحكم وبني على أساسها.

على أن بعض العلماء يؤثرون التعبير بـ(تغير الفتوى) بدل عبارة (تغير الأحكام), ويرون أن الذي يتغير هو الفتوى وليس الحكم, فالأحكام ثابتة لا تغير فيها, والفتاوى هي التي قد تتغير. والحقيقة أن الفتوى إنما هي تقرير وإعلان لحكم شرعي. فإذا تغيرت الفتوى, فذلك معناه تغيير في الحكم الذي جاءت الفتوى بخلافه, بغض النظر عما إذا كان ذلك جزئيا أو كليا, خاصا أو عاما, قصير الأمد أو طويل الأمد.

ثم إن ما نحن بصدده وما نعنيه بتغير الأحكام هو أعم من الفتوى وتغيرها. وهو أيضا أعم مما يعنيه بعض العلماء بقولهم (لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية), فنحن نتحدث عن التغير الاجتهادي وعن التغير النصي.

ولمزيد من التوضيح, نعرض فيما يلي أهم وجوه التغيير المتحدث عنه في هذا المبدأ:

1– النسخ, وهو أبرز وجوه تغيير الأحكام. وستأتي قواعده وبياناته الخاصة في مواضعها من قسم القواعد الأصولية[14]. والذي يعنينا الآن هو ما عبرت عنه القاعدة الجامعة المذكورة أعلاه: ” نسخ الأحكام مجمع عليه “. وهو يقع من شريعة لأخرى, كما يقع في الشريعة الواحدة. والحقيقة أن المخالفين — على قلتهم وشذوذ موقفهم — إنما يخالفون في قضايا اصطلاحية أو جزئية تفصيلية, كالنسخ في الشريعة الواحدة, والتباس النسخ بالبداء[15]. أما مبدأ النسخ في أصله فلا يمكن إنكاره. وما من متبع لدين وشريعة إلا وهو يعلم ويعتقد أن في دينه وشريعته ما ليس في غيرها من الأديان والشرائع, وهذا معناه أن الشريعة اللاحقة نسخت بعض ما في الشريعة السابقة, أي غيرت بعض أحكامها.

2– الرخص, وهي تعطي حكما مغايرا للحكم الأصلي للفعل, بسبب وجود مشقة أو حرج أو ضرر, أو نحو ذلك من أسباب الترخيص. بمعنى أن ثبوت موجب الترخيص يغير الحكم الأصلي للمسألة, وينقله من حكم العزيمة إلى حكم الرخصة.

3– تغير الفتوى بتغير الزمان. وتغير الزمان غالبا ما يراد به تغير أحوال الناس في معاشهم وأخلاقهم وسلوكهم, وخاصة منها التغيرات السلبية. وهي التغيرات التي قال عنها عمر بن عبد العزيز قولته الحكيمة وقاعدته الشهيرة ” تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور “[16]. وهذا قد يستدعي ويتضمن تغييرا أو إضافة أو تعديلا في الأحكام التي وضعت في الأصل لأحوال سوية, أو عموما لأحوال مختلفة. والفتوى أو الحكم هنا هو تقدير وحكم اجتهادي ظرفي من أهل العلم والاجتهاد عامة, أو من القضاة والولاة خاصة, يستوعب ويناسب ما تـتطلبه التغيرات الحاصلة في الواقع.

4– تغيير الأحكام المبنية على عادات, وذلك عند تغير تلك العادات التي وضعت الأحكام لأجلها, أو رتبت على وفقها. وهذا الوجه قريب من سابقه وقد يتداخل معه. إلا أن العادات قد تكون عبارة عن تطورات إيجابية, أو ضرورية. وقد تكون العادات الجديدة ناشئة عن ظهور معاملات ووسائل وأنماط جديدة, في حياة الناس وأعمالهم وعيشهم[17].

وعادة ما يعبر العلماء عن مجمل الأسباب الداعية لتغيير بعض الأحكام بتغير الزمان. وقد استقصى الدكتور يعقوب الباحسين التغيرات المقصودة بعبارة (تغير الزمان) ولخصها بقوله: “وباستقراء ما ذكره الباحثون من أسباب تغير الزمان, نجد أنهم ذكروا الأسباب الآتية:

– فساد الأخلاق وعموم البلوى.

– تطور الزمان, وتجدد أفكار الناس.

– وجود الظروف التي تستدعي تغير الحكم.

وحصر بعضهم العوامل التي ينشأ عنها تغير الأحكام في نوعين:

النوع الأول: فساد الزمان وانحراف أهله عن الجادة, حيث ينشأ عن ذلك تبدل وتشدد في كثير من الأحكام.

والنوع الثاني: تغير العادات وتبدل الأعراف, وتغير المصلحة وتطور الزمن.

وأضاف بعض الباحثين إلى النوعين السابقين ما يأتي:

حدوث معطيات علمية تستدعي تغير الحكم الذي بني على معطيات علمية قديمة.

تطور الأوضاع التنظيمية, والترتيبات الإدارية, والوسائل والأساليب الاقتصادية, وغيرها, مما يستدعي تغير الأحكام المبنية على تلك الأساليب والأوضاع.

حدوث ضروريات وحاجات عامة, تتطلبها الحياة المعاصرة, مما يستدعي تغيير بعض الأحكام القديمة.[18]”

والعنصر الجامع بين هذه العوامل كلها, هو وقوع تغير ذو وزن وأثر, إما في حالة المحكوم فيه[19], أو في حالة المحكوم عليه[20], أو فيهما معا. فالتغيير الذي يقع في الأحكام وفي الإفتاء بها, إنما هو نتيجة للتغير الذي حصل في الواقع. فتغير الحكم ومقتضياته, تابع لتغير الواقع وصفاته.

والمراد هنا بتغير الواقع وصفاته, تغير العناصر التي هي مناط الحكم وموجبه, سواء تعلقت بالفعل وطبيعته, أو بالمكلف وحالته. وهذا يعني أن تغيرا جوهريا يكون قد حصل في مناط الحكم وحقيقته. فهنا يقال — كما جاء في القاعدة المذكورة سابقا: إذا تغيرت الحقيقة تغيرت الأحكام. فتغير حقيقة الشيء يستتبع تغير حكمه.

وهذا معناه ومقتضاه أيضا أن التغيرات الشكلية أو الهامشية أو الاسمية, إذا طرأت على شيء من الأشياء أو فعل من الأفعال, لا تغير حكمه, لأنها لم تغير من حقيقته ولا من صفاته المؤثرة, أي لم تغير مناط الحكم فيه. ومن هنا فإن “اختلاف الأسماء لا تتغير به الأحكام الشرعية “. فالمواد المسكرة — مثلا — يظل حكمها التحريم, مهما تغيرت أشكالها وأسماؤها وأصولها, بينما المواد التي تكون مسكرة ثم تتغير بما يزيل عنها خاصية الإسكار, يتغير حكمها ويرتفع تحريمها, مهما كان الشكل الذي تتخذه أو الاسم الذي تسمى به.

ولا يخفى أن معرفة حقيقة التغيرات في الأشياء والأفعال والأحوال, وما إن كانت تُسَوِّغ تغييرات في الأحكام — أو تستوجبها — أم ليست كذلك, وكذلك معرفة ما يقبل التغيير من الأحكام وما لا يقبله أصلا, تحتاج إلى درجات عالية من العلم والخبرة والبصيرة, ولا تتأتى إلا للعلماء المجتهدين الراسخين , على أن يقيموا ذلك ويثبتوه بأدلته الشرعية.

——————————————

هوامش

[1] — هذه الصيغة مأخوذة من مجمل الصيغ الآتي ذكرها بعد ( انظر : الإحالات الموالية ) .

[2] — رفع الحرج لابن حميد 1⁄325 .

[3] — حاشية ابن عابدين 3⁄176 .

[4] — انظر : معين الحكام للطرابلسي 1⁄176 – 178 .

[5] — القاعدة مشهورة متداولة بهذه الصيغة، وهي ( المادة 39 ) من مجلة الأحكام العدلية.

[6] — عمدة القاري للعيني 2⁄159 . وانظر: قاعدة: ” النسخ جائز عقلا ، وواقع سمعا ” في قسم القواعد الأصولية .

[7] — الموافقات 3⁄104. وهي القاعدة الموالية .

[8] — البيان والتحصيل لابن رشد 18/​14، إعلام الموقعين لابن القيم 3⁄14 . وانظر صياغتها في قسم القواعد الأصولية بلفظ : “الفتوى تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن والأزمان ” .

[9] — السياسة الشرعية للقرضاوي 1/​88، وهي عنده أيضا بالصيغة المشهورة ( الحكم يدور مع علته وجودا وعدما)؛ المدخل 166، وانظر هذه القاعدة ضمن القواعد الأصولية بلفظها المشهور .

[10] — تعليل الأحكام لشلبي 1⁄67 .

[11] — انظر : فتح العلي المالك لعليش 1⁄162 .

[12] — العبارة مشهورة ومتداولة، وهي قولة منسوبة لعمر بن عبد العزيز وغيره من علماء السلف. وانظر ها في قسم القواعد المقاصدية، ضمن قواعد المقاصد في الاجتهاد .

[13] — هذه إحدى القواعد الفقهية الكبرى، وانظرها في قسم القواعد الفقهية .

[14] — انظر : ذلك في قواعد النسخ، من قسم القواعد الأصولية .

[15] — البداء : هو أن يُعلمَ ويبدو من الأمر ومن الرأي ما لم يكن كذلك من قبل. وهذا لا يجوز في حق الله تعالى، فهو بكل شيء عليم. ولذلك فالنسخ عند المسلمين ليس من البداء في شيء، خلافا لما توهمه بعض الناس. قال الآمدي : “إذا عرف معنى البداء، وأنه مستلزم للعلم بعد الجهل والظهور بعد الخفاء، وأن ذلك مستحيل في حق الله تعالى على ما بيناه، في كتبنا الكلامية، فالنسخ ليس كذلك، فإنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى في الأزل استلزام الأمر بفعل من الأفعال للمصلحة في وقت معين، واستلزام نسخه للمصلحة في وقت آخر، فإذا نسخه في الوقت الذي عُلم نسخه فيه فلا يلزم من ذلك أن يكون قد ظهر له ما كان خفيا عنه، ولا أن يكون قد أمر بما فيه مفسدة، ولا نهى عما فيه مصلحة، وذلك كإباحته الأكل في الليل من رمضان، وتحريمه في نهاره. ” — الإحكام 3⁄111 .

[16] — أورده العلامة الشاطبي في كتابه الاعتصام 1⁄181. وانظرها في قسم القواعد المقاصدية .

[17] — انظر : قاعدة: ” الأحكام المرتبة على العوائد تتبع العوائد وتتغير عند تغيرها” في قسم القواعد الفقهية .

[18] — العادة محكمة للباحسين ص 220 .

[19] — المحكوم فيه هو فعلُ المكلف موضوع ُالحكم .

[20] — المحكوم عليه هو المكلف المعني بالحكم .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى