كتب وبحوث

كتاب “الأمة الواحدة”.. انتقاد لاختزال الأمة في فرقة أو طائفة

اسم الكتاب: الأمة الواحدة.

اسم المؤلف: د. سلمان بن فهد العودة.

عدد الصفحات: 217 صفحة.

الناشر: الاسلام اليوم.

 

نبذة عن الكتاب:

“الأمة الواحدة” ينتقد اختزال الأمة في فرقة أو طائفة

لم يكن لدى المسلمين منذ نشأة الإسلام الأولى وعبر قرون عديدة، أيُّ شكٍّ في كونهم “أمةً واحدة”، بل إن مثل هذا السؤال لم يكن ليُطرح أساسًا على العقل المسلم، رغم ما شهدته بلاد الإسلام من حروب ونزاعات، قامت خلالها دول واندرست أخرى، وتبادلت خلالها شعوب وأجناس عدة حملَ راية الإسلام، سواء من العرب أو المغول أو الأتراك، فهذا الاختلاف والتنوع لم يكن ليشغل المسلمين أو يثيرَ قلقهم، طالما أن شعلة دينهم مازالت متوهّجة، فالهمّ والاهتمام كان منصبًّا على “الأمة”، باعتبارها المنظومة الشاملة التي يعمل الجميع داخلَها، وهذه المنظومة نفسُها مسخرة لتحقيق هدف واحد، وهو حماية وحمل الرسالة الخاتمَة: الإسلام، فالأمة بخير طالما كانت محافظة وحافظة لرسالتها.

هذه “الأمة الواحدة” كانت عنوان وموضوع كتاب الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة، المشرف العام على مؤسسة “الإسلام اليوم”، والذي يمكن اعتباره جزءًا من مشروع فكري يقوم عليه الشيخ العودة، ويسعى من خلاله لإلقاء الضوء على مجموعة من العناوين والقضايا الكبرى التي تشغل بال الأمة، أو تلك التي تشكّل إشكالاً أمام العقل المسلم، بما يشوّه لديه الفهم الصحيح لدينه، أو يعوقه عن استيعاب المتطلبات اللازمة لنهضة الأمة.

وفي هذا السياق، جاء كتاب “ولا يزالون مختلفين”، والذي حاول خلاله الشيخ العودة إعادة صياغة منهجية التفكير التي تحكم تعامل المسلمين مع قضية الاختلاف، وما يتعلق بها من إشكالات وتعقيدات، أما كتاب “مع العلم” فقد انصبّ خلاله جهد الشيخ العودة على تأصيل المقصد الحقيقي لمفهوم “العلم” في الإسلام، مبينًا شموليته وتشعب مجالاته ومداركه بما يتجاوز بكثير الفهم الخاطئ الذي يتصوره البعض.. وهكذا تبدو مؤلفات الشيخ كما لو كانت “حباتٍ” مترابطةً في “عِقد واحد”، أو لنقُل: رحلة متدرجة داخل العقل المسلم؛ سعيًا وراء إزالة ما علِق به من رواسبَ وشوائبَ خلال عقود الضعف والجمود.

الأمة لا تموت

وكعادته في معظم مؤلفاته، يبدأ الشيخ العودة حديثه بهَزّة عنيفة لعقل القارئ، من خلال طرح مسَلَّمة تبدو بديهيّة، إلا أن العقل المسلم، وبسبب ما علق به من رواسب، قد غابت عنه أو سقطت منه سهوًا، حيث يشدد على أن أهل العمل والدعوة كافة يتفقون على “أنه لا جاهلية مطلقة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة لا يزال فيها كثير من أهل الخير والتقوى والصلاح”، منتقدًا من “يختزلون الأمة في طائفة أو مجموعة أو فرقة أو فئة”، وكذلك “من يبتعد عن هذه الأمة، فيرميها بالعظائم، من التكفير أو التبديع أو التفسيق أو التضليل”.

ولا ينفي الشيخ العودة أن الأمة المسلمة قد تمرض، “لكنها لا تموت، تمرّ بمرحلة المرض، لكن يدفع هذا المرضَ دواءٌ ربّانيٌّ نبويٌّ، هو التجديد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”.

وبعد أن يستعرض عدة معانٍ لكلمة “أمة”، حيث قد تأتي بمعنى “إمام أو قدوة” أو “المذهب والطريقة” أو “المدة من الزمن” أو “الجماعة من الناس أو الطائفة”، وأخيرًا -وهذا هو المقصود- أنها تعني “القوم المجتمعين على الدين الواحد”.. ينتقل الشيخ العودة للإشارة إلى أن الأمة المسلمة ينبغي أن تكون متميزة عن الأمم الأخرى في أعمالها وعقائدها وسلوكها وخصوصياتها. أما داخل الأمة نفسِها “فالأصل أن يحرص المسلم على ألا يتميز عن إخوانه المسلمين، إلا عن المنحرفين، كأهل البدع وأهل الفجور”. كما يمكن أن يتميز الإنسان عن جمهور المسلمين “بسُنَّةٍ أهملوها فيعملَ بها، أو بتقصير شاع عند الناس فيتخلى عنه”.

حقوق الأخوّة

وفي محاولة لتعميق قيمة الأخُوّة داخل الأمة المسلمة، يورد الشيخ العودة مجموعة من حقوق المسلم على أخيه في الملة والدين، والتي قد تكون حقوقًا قلبية، مثلَ الحب، وحسن الظن، والفرح، والحزن لما يصيب المسلم من خير أو شر. أو حقوقًا متعلقة باللسان، كرد السلام، والدعاء، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو حقوقًا مالية، كالصدقة، والزكاة، والإحسان، وإطعام الجائع، وكَسْو العاري. كما أنها قد تكون حقوقًا بدنية، كنصرة المظلوم، وفك الأسير، وإغاثة المستغيث، ونجدة الملهوف.

وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية هما الدستور الذي ينظِّم حياة هذه الأمة، ويجمع عِقدها، فإن هناك مجموعةً من القواعد العامة المأخوذة من هذا الدستور، وينبغي للأمة أن تجتمع عليها، ولا تقبلَ فيها زيادة أو نقصًا. وهذه القواعد هي ما يسمى “المحكمات في الدين”، حيث يشير الشيخ العودة إلى أن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، أشارا إلى أنها وردت في سورة الأنعام من قوله تعالى: “قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا..” إلى قوله: “..لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [الأنعام:151-153].

وهذه المحكمات تعدّ بمثابة الأشياء العامة التي ينبغي أن يجتمع المسلمون حولها، ويدندنوا في محيطها. أما ما أضافه البعض على تلك المحكمات، فإنه لا يعدو كونه انحرافاتٍ وبدعًا وأساطيرَ، أقحمها الناس في الدين، أو فروعًا جعلها الناس أصلاً، أو مسائل خلافيةً اجتهادية وُضعت موضع القطعيّ الضروريّ، أو أشياءَ من الدين تعظُم فوق ما جعل الله سبحانه وتعالى لها من القدْر.

وإذا كانت بعض البدع أو الفروع قد رُفعت زُورًا لمرتبة المحكمات في الدين، فإن هناك أيضًا بعض الانتماءات التي تم تعظيمها لتزاحم وتشوش على انتماء المسلم إلى أمته الواحدة، ومن هذه الانتماءات يشير الشيخ العودة إلى الانتماء للقوميات والشعوب، لافتًا الانتباه إلى أن المشكلة ليست في الانتماء لقومية أو دولة ما، ولكن المشكلة هي أن يكون هذا الانتماء على حساب الانتماء الأصلي للإسلام، وهو ما ينطبق كذلك على أشكال أخرى من الانتماء، سواء لقبيلة أو مذهب أو شيخ أو جماعة أو حزب، فكل هذه الانتماءات تزاحم الانتماء الأصلي.

والشيخ العودة، حسبما يشدد، لا يقصد من ذلك الدعوةَ للانقلاب على هذه الانتماءات، أو تحقيق وحدة مفتعلة بين المسلمين، وإنما يكفي كبداية أن ننتهيَ عن الخصام والتشاحن، وأن نسعى لتعميق الوَحدة في العقيدة، وأن نجتهد في تصحيح مفاهيم الناس حول القضايا الضرورية ومجملات الدين.

المذموم والمحمود

وعقب هذا التأصيل الفكري والنظري لمفهوم “الأمة الواحدة”، ينتقل الشيخ العودة في الباب الثاني من الكتاب، والمعنون: “كلمة في جمع الأمة”، إلى توضيح مجموعة من المفاهيم الفرعية التي يحتك بها المسلم في حياته اليومية، وفي عَلاقته بباقي أفراد الأمة. ومن هذه المفاهيم: “الاختلاف والتفرّق”، حيث يلفت الانتباه إلى أن هناك فرقًا بين الاثنين، فالله سبحانه وتعالى نهى عن التفرّق مطلقًا، ولهذا فكل تفرق فهو مذموم.

أما الاختلاف فليس مذمومًا بإطلاق، بل منه ما هو محمود؛ فالاختلاف المذموم هو الاختلاف على الكتاب، واتّباع الهوى، وقد يكون الاختلاف محمودًا، مثل اختلاف التنوُّع، فهناك من المسلمين من يُبرع في الجهاد، وآخر يمتاز في الفقه، وثالث في الطب، وهكذا كلٌّ يؤدي دوره في خدمة الأمة.

وإذا كان الاختلاف بين المسلمين محمودًا أحيانًا، فإن “أخُوَّة الإيمان” يجب أن تبقى دومًا القاعدةَ التي تحكم هذا الخلاف، وهنا يلفت الشيخ العودة إلى أن “المؤمنين إخْوة، وهذه الأخُوّة تشرق وتتجلى، فلا تختص بوقت دون وقت، ولا بمكان دون مكان، وفي أحلك المواقف وأشدها، حتى حينما يقع عليك عدوان، أو ظلم من أخيك، فهذا لا يعني أن أخوَّته قد زالت”. كما أن الإنسان قد “يقع له تقصير في دينه-مثلًا- فيكون عنده انحراف أو معصية أو غير ذلك، لكن ما دام يصح له وصف الإسلام فله أصل الحقوق، وإذا تم له كمال الإيمان كملت له الحقوق”.

وفي محاولة لضبط المصطلحات وتبيان دَلالاتها، يبدي الشيخ العودة تحفظًا على تقسيم الناس إلى ملتزمين وغير ملتزمين، موضحًا أن مصطلح “ملتزم”، هو مصطلح مستورد وغير معروف في الشرع، ولم يأت به نص، لا صحيح ولا ضعيف، بل ولم يعرفه السلف الصالح. ومع أن الشيخ اعتبر أن المصطلح أصبح دارجًا ويرادف معنى التدين والصلاح، إلا أنه شدد على ضرورة ألا يقصد به مظهرُ الإنسان الخارجي فقط، دون مراعاة لمعالم التديّن الأخرى، كحسن الخلق والأمانة ورعاية حقوق الناس، كما أنه من الخطأ أن يُستخدم المصطلح لتصنيف الناس، وتشطير المجتمع إلى فرق وجماعات.

منهجية الخلاف

وإذا كان الخلاف والاختلاف أمرًا واقعًا لا محالة، ولا مجال لرفعه كليةً إلى يوم القيامة -كما شدد الشيخ العودة في كتابه “ولا يزالون مختلفين”- فإنه سعى لوضع عدة ركائزَ منهجيةٍ في التعامل مع المخالفين؛ كي لا يخرج الخلاف عن حدوده، ويؤثر على “أخوَّة الإيمان” الواجبة بين المسلمين.

ومن هذه الركائز: المجادلة بالتي هي أحسن، وهي تبدأ من داخل الأسرة وتمتد لتشمل الحوار العام مع جميع فئات الأمة، وكذلك عدم الخلط بين ما هو شأن شخصيّ وما هو موضوع علميّ، وعدم التورط في القضايا التي لا يدرك الإنسان أبعادها، والإنصاف مع النفس والآخرين؛ وذلك بأن تضع نفسك في موضع الطرف الآخر. كما أن الاختلاف يجب ألا يخرج بالإنسان عن ضوابط الخُلق الإسلاميّ، بما يقتضيه من حسن الأدب، وحسن الحديث، وحسن الاستماع، وحسن الظن، والتماس المعاذير، والرفق، والصبر، والصفح.

وحتى يستطيع الإنسان ضبط نفسه وكظم غيظه، يقدم الشيخ العودة عدة نصائح تساعد على ذلك، ومنها: الرحمة بالمخطئ، واللين والرفق به، وسَعة الصدر، وحسن الثقة، ومقابلة الإساءة بالصبر الجميل، وطلب الثواب عند الله، والترفُّع عن محاكاة السفهاء في القول أو الفعل، وتدريب النفس على الصبر والتسامح، وحفظ المعروف لأهله، ووضع المصلحة العامة في الاعتبار.

وللاختلاف أسباب عدة، فهو يعد أمرًا طبيعيًّا؛ بسبب اختلاف التكوين الفطري والنفسي من إنسان لآخر، كما أنه قد يعود لاختلاف التحصيل حسْب قدرة كل شخص، أو لاختلاف الظروف، كما أن الاختلاف يرتبط بهوًى في نفس الإنسان. ويلفت الشيخ العودة إلى أنه إذا وقع الاختلاف، فيجب على الإنسان أن يراعيَ عدة أمور، منها: إلا ينسب الشخص رأيه واجتهاده إلى الدين، كما يجب التركيز على جوانب الاتفاق أكثر من جوانب الاختلاف، وهو ما يتطلب تعاون المختلفين على البرّ والتقوى، ومراعاة التخصّص، والتفريق بين الثوابت والمتغيرات.

وفي كل الأحوال، وإذا تعذر الاتفاق، فيجب أن نبقى على خطوط متوازية، فلا يلزم أن نتقاطع دائمًا إذا اختلفنا، أو يدمّر بعضنا جهود بعض، كما يجب إعطاء الأزمات والمحن التي تضرب الأمة حقها وأولويتها الواجبة، وأن نهدِّئ من عوامل الفُرقة والانشقاق.

مرتكزات الوَحدة

ومع أن الوحدة والاجتماع على الخير والطاعة من الأمور البديهيّة لدى المسلمين، إلا أنهم يفتقدون، حتى الآن، آلية عملية تحوّل هذه البديهة إلى واقع ملموس، وهو الأمر الذي حاول الشيخ الدكتور سلمان العودة معالجتَه في الباب الثالث من الكتاب، والمعنون: “وَحدة الصّفِّ لا وَحدة الرَّأي”؛ حيث قدم عدة مرتكزاتٍ ووسائلَ يجب على المسلمين الالتزامُ بها؛ لتحقيق “وحدة الأمة”، ومنها: سلامة الصدور والنفوس من الأغلال والأحقاد، والتعاون على البرّ والتقوى، والعمل ما أمكن، في خطوط متوازية ومتعاضدة غير متقاطعة ولا متعاندة؛ وإحياء مبدأ النصيحة، ومبدأ النّصرة، والاجتماع على محكمات الشريعة، وقبول الخلاف فيما اختلف السلف الصالح فيه.

وإذا كان الاجتماع لا يتأتى إلا على قبول الاختلاف، فإن الشيخ العودة طرح صورة لتكامل الصف الإسلامي عبر ثلاث دوائرَ عريضة: الدائرة الأولى، دائرة الوسط، وهي الكثرة الكاثرة من العلماء والمصلحين والدعاة والعامة، التي لديها قدر من الاعتدال وقدر من التوسط. أما الدائرة الثانية: فهي التي تأخذ بالقوة والشدة، وهي دائرة تنبري للمواقف الصعبة، حيث يتناسب هذا مع تكوينها الشخصي وبنائها النفسي، فضلاً عن أن في الخصوم والأعداء متطرفين وغلاةً لابد أن يواجَهوا بمثلهم. وبالنسبة للدائرة الثالثة، فهي التي يغلب عليها اللين والتسامح، وربما شيء من التساهل، لكن شريطة ألا يتحول هذا إلى تشكيك في المحكمات.

آداب الخلاف

وفي الباب الرابع من الكتاب، والذي حمل عُنوان: “كيف نختلف؟”، يشدد الشيخ العودة على أهمية التزام المسلم بأدب الخلاف والحوار، وهو ما يستلزم بالضرورة وضع آليات لإدارة أيِّ خلاف ينشأ بين المسلمين، أفرادًا أو جماعات. وحتى لا تصبح هذه الآداب والآليات مجرد كلام نظري، فإنه “يجب تدريس أدب الخلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا، وتدريب الشباب والفتيات على ممارسته عمليًّا؛ ليتحوّل إلى عادة وعبادة في الوقت ذاته”.

ويضرب الشيخ “العودة” مثالاً عمليًّا على غياب تلك الآداب والآليات بما يحدث في ساحات الحوار على الإنترنت، ملخصًا مساوئ تلك الحوارات في: إثارة نزعة المفاصلة والمقاصلة، فإن لم تكن معي فأنت ضدّي، وتحوّل النقاش من بحث الموضوع إلى تجريح الأشخاص، وتدنّي لغة الحوار ليصبح نوعًا من السب والشتم، والقعقعة اللفظية لصنع انتصارات وهمية، والأحادية وتوهم احتكار الصواب، والتعامي عن الحق؛ اتباعًا لهوى النفس، والتسطيح والتبسيط، ووصم كل ما نجهله بالخطأ.

وفي مقابل هذه الأخطاء والتجاوزات، يلفت الشيخ العودة إلى أن “سكينة الإنسان، واستقرار نفسه، وهدوء لغته، وحسن عبارته، وقوة حجته، هو الكفيل بأن تنصاع له القلوب، وأن يصل الحق الذي يحمله إلى أفئدة الآخرين، وأن يغلب حقه باطلَهم”.

ضوابط الإنصاف

وحتى يبقى الخلاف في دائرة المباح والمأجور، يطرح الشيخ العودة عدة أخلاقيات يجب التمسك بها خلال إدارة الخلاف، ومنها: عدم التثريب بين المختلفين؛ فلستَ بأصدقَ إيمانًا بالضرورة، ولا أوسعَ علمًا ولا أرجحَ عقلاً، ومنها كذلك التزام الإنصاف، وهو أن تُنزِّل الآخرين منزلة نفسك في الموقف، واستعمال الصبر والرفق والمداراة، واحتمال الأذى، ومقابلة السيئة بالحسنة، وعدم التعصّب.

وفيما يتعلق بالإنصاف، فإن الشيخ “العودة” يضبطه بعدة معايير، وهي: أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، وأن الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر، وأنه لا تأثيم ولا هجران في مسائل الاجتهاد، والتحفّظ عن تكفير فرد بعينه أو لعْنه، والأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر، وأن أخطاء العلماء لا تقدح في إمامتهم وعلمهم، والأخذ بالصبر والرفق، وعدم التعصب.

وينتقل الشيخ العودة عقب ذلك لوضع عدة ضوابط لإدارة الخلاف، وهي: الاعتصام بالكتاب والسنة، والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، ومنح الناس فرصة التعبير عن آرائهم في الهواء الطلق؛ فإنه في الهواء الطلق تموت الأفكار المنحرفة، كما أنه بالحوار يمكن ترويض المتوحّشين والمشاكسين.

ومن ضوابط إدارة الخلاف أيضًا التزام الشورى، ومنح الناس فرصة المشاركة في صياغة حاضرهم ومستقبلهم، وعلى الأخص فيما يتعلق بالشباب، إضافة إلى تفعيل دائرة المتفق عليه، مع إخضاع ذلك للمصلحة، والاجتهاد في ضوء تغيّر الأحوال، كما تتطلب إدارة الخلاف تشجيع الاجتهاد، وتوفير مُناخ الحرية الشرعية الذي يحفّز العقول على النمو والإبداع، ولا يتم ذلك إلا بتشجيع النقد البنّاء، والمراجعة الهادفة للأوضاع والموروثات، وكل ذلك يحتاج -بدوره- إلى جوٍّ من الفهم الصحيح والوضوح والمكاشفة.

ولمزيد من الضبط الشرعيّ، يشدد الشيخ “العودة” على أن إدارة الحوار يجب ألا تخرج به عن دائرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، لكن تفعيل تلك الأداة يبقى هو ذاته بحاجة إلى ضبط وفطنة؛ إذ أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد التي يختلف فيها العلماء، ولا يحق لمقلّد أن ينكر على مقلّد آخر، كما يجب مراعاة فقه المصالح في إنكار المنكر، ومراعاة التدرّج في الإنكار.

طاقات مهدرة

وفي نهاية الكتاب، يبدي الشيخ العودة تعجّبه من مفارقة محيّرة؛ فالإسلام مع ما يملكه من طاقة بشرية هائلة، إلا أن “المنتسبين إلى الدعوة والعلم وأولياء الإسلام هم من أقل الناس إنتاجيّة وثمرة في الواقع، ولعل أهم سبب لذلك هو التشرذم والتشتت، وذهاب الجهود في تدمير بعضه بعضًا”.

ولعلاج ذلك يطرح الشيخ العودة عشر قواعد لتوحيد الأمة وترشيد جهودها لما يفيدها، ومنها: أن الجهود ليس من الضرورة أن تتطابق، ولكن من الممكن أن تكون خطوطًا متوازية، لا تلتقي، ولكنها لا تتعارض أيضًا، وأن نفرِّق بين الدعوة والحكم، فالإنسان يجب ألا يتسرع بالحكم على الناس، وألا يعمم الأحكام، أما إذا كان المجال مجال دعوة فعليه أن يصرف جهده وفكره ووقته إلى هداية الناس ودعوتهم إلى الخير، مع ضرورة التدرج في دعوتهم. كما يجب التزام قاعدة: ” لك الغُنْم وليس عليك الغُرْم”، فإذا اقتنعت بجهد الآخرين فساعدهم، وإن لم تقتنع فَيَسَعُكَ الصمتُ، وأن تقدِّر جهود الآخرين، وتتجنب النقد الدائم لما يفعلونه، كما يجب ألا يجعل الإنسان من نفسه وصيًّا على الدعوة والصحوة، ويحجر على الآخرين، رافضًا أيَّ حديث إلا إذا كان موافقًا لقناعاته، وهذا يستوجب جوًّا من حسن الظن المتبادل، وعدم تصيّد الأخطاء والزلات، والتماس الاعتدال في التفكير، وعدم الخوف من التغيير والتجديد، ونبذ التقليد والتعصب، وترتيب العداوات، فأيُّ عداء مع طائفة من دعاة الإسلام هو يقينًا أقل إلحاحًا من عداوة اليهود والنصارى والمنافقين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى