كتابات

دراسات في السياسة الشرعية.. أدلة الدولة في الإسلام

بقلم د. أكرم الكساب

أما الأدلة على قيام الدولة -فإضافة إلى ما سبق- فإن الأدلة تتعدد وتتنوع، فما بين أدلة من الكتاب وأخرى من السنة وثالثة من التاريخ والواقع، وسأذكر ها على هذا النحو:

أولا: الأدلة من القرآن،  وأول هذه الأدلة ما جاء به القرآن الكريم، وأشير هنا إشارات طفيفة على هذا النحو:

– النصوص الدالة على شمولية الإسلام: ومن ذلك قوله تعالى:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(البقرة: 177).

– النصوص الدالة على وحدانية الله في الحكم والتشريع: ومن ذلك قوله تعالى: {إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].

– النصوص الدالة على الحكم بما أنزل الله: كقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49].

– النصوص الدالة على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم: كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 32].

– النصوص الدالة على طاعة ولي الأمر: كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59].

– النصوص الدالة على تحقيق العدل والمساوة والشورى: ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: 58].

– النصوص التي تحدثت عن الاستخلاف والتمكين:كما في قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].

– الآيات الداخلة في السير والمغازي والجهاد (القانون الدولي العام): ومن ذلك: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}(البقرة:193).

– الآيات الواردة في الزكاة والخراج والجزية (في السياسة المالية): ومن ذلك: قوله سبحانه: {حتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}(التوبة:29).

– الآيات الواردة في الجنايات والحدود والتعزيرات: ومن ذلك: قوله سبحانه: {ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }(البقرة: 179).

ثانيا: الأدلة من السنة: وإذا كان القرآن الكريم فيه عشرات بل مئات الأدلة التي تدل على وجود الدولة في الإسلام، فإن الأدلة من السنة أكثر من مثيلاتها في القرآن الكريم، وذلك أن القرآن قائم على الإيجاز، والسنة قائمة على التفصيل، ومن هذه الأدلة:

– النصوص الدالة على وحدانية الله في الحكم والتشريع: ومن ذلك ما رواه ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: ” وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ” رواه ابن ماجه في الفتن (4019) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3246)..

– النصوص الدالة على وجوب تحكيم شرع الله: ومن ذلك ما رواه أحمد في مسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ” رواه أحمد (22160) وقال مخرّجوه: إسناده جيد.

– النصوص الدالة على أن المرجعية العليا للقرآن والسنة: روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:”وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ” رواه مسلم في الحج (1218)..

– النصوص الدالة على الخلافة: ومن ذلك ما رواه أبو داود عَنْ سَفِينَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ”.

– النصوص الدالة على طاعة ولي الأمر في غير معصية: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا» رواه مسلم في الإمارة (1854).

– النصوص الدالة على عدم الخروج على الإمام المبايع: جاء في الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» رواه مسلم في الإمارة (1853).

– الأحاديث الداخلة في السير والمغازي والجهاد (القانون الدولي العام): في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ» رواه البخاري في الجهاد (2965) ومسلم في الجهاد (1742).

ثالثا: الأدلة من التاريخ:

أما تاريخ الإسلام فهو التجربة العملية لما جاء من نصوص قرآنية ونبوية، والغريب أن من ينكر وجود دولة في الإسلام يتجرأ فينكر أيضا تايخا امتد قرونا عديدة، بدأ هذه التاريخ منذ فجر الدعوة واستمر حتى أسقطت الخلافة الإسلامية سنة 1924م.

وهنا أشير إشارات سريعة إلى تكوين الدولة منذ سنينها الأولى:

أ‌- بحث النبي النبي صلى الله عليه وسلم عن دولة تقبل فكرته وتحمل دعوته للناس.

ب‌- هجرة النبي إلى الطائف لعل أهل الطائف يقبلون الفركة ويحملون الدعوة.

ت‌- بيعة العقبة الثانية وفيها كانت النواة الأولى للدولة الإسلامية، ومما جاء في هذه البيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ ” قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، …. فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ “، فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ” رواه أحمد (15798) وقال مخرّجوه: حديث قوي، وهذا إسناد حسن.

ث‌- هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب بعد قبول أهلها الفكرة، وقبولهم التضحية في سبيل الدعوة لإقامة الدولة.

ج‌- صحيفة المدينة والتي حوت من أسس الدولة:

– إقامة سلطة ذات سيادة: وهذه السلطة وتلك السيادة لا تكون إلا لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا منصوص عليه في البند رقم (23) (42) وفيهما: (وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإنّ مردّه الى الله وإلى محمد) (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإنّ مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

– تعيين رئيس للسلطة (الدولة) ووجوب طاعته: وقد حددت الوثيقة رئيس الدولة الذي يسمع له ويطاع، وذلك في البنود (1) و (36) و(47) وفيها: (هذا كتاب من محمد النبي [رسول الله] بين المؤمنين والمسلمين من قريش و [أهل] يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم) و ( وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد) و (أنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأنّ الله جار لمن برّ واتّقى، ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

– حماية الدولة للرعية: وقد حمت الوثيقة أفراد المجتمع بكل أطيافهم، في البنود (13) و(21) (44) وفيها: (وأن المؤمنين المتقين [أيديهم] على [كل] من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثما، أو عدوانا، أو فسادا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم)، و(أنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بيّنة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول [بالعقل] وأنّ المؤمنين عليه كافّة ولا يحلّ لهم إلا قيام عليه) و (وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب).

ح‌- قيام النبي صلى الله عليه وسلم بمهام رئيس الدولة فكان يكاتب الملوك والأمراء، ويرسل السفراء، ويستقبل الوفود، ويجيش الجيوش، ويبعث السرايا، ويقاتل العدو، ويقسم الغنائم، ويقيم المعاهدات، ويبرم المواثيق، وهذا كله من عمل الحكام، وهذا بعض ما كلف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.

خ‌- دولة الخلافة الراشدة، والتي ملكت الكثير من بلاد الدنيا في مدة وجيزة من الزمن، وقد فتح المسلمون بلاد الدنيا، ولم يكن تطوافهم في الدنيا رحلات سياحية، وإنما كان رحالات جهادية عبر عنها ربعي بقوله: إن الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نفضي إلى موعود الله.

ورحم الله محمد إقبال حين قال:

من ذا الذي رفع السيوف ليـرفع

كــنا جـبالاً في الجبال وربـما

لـن تنـس أفريقيا ولا صحراؤها

وكأن ظــل السيف ظـل حديقـــة اسـمك فوق هامات النجوم منارا

سـرنا عـلى موج البحار بـحارا

ســجداتـنا و الأرض تقذف نارا

خضـراء تنـبت حـولنا الأزهـــارا

أرواحنا يا رب فـوق أكـفـنا

لـم نـخش طاغوتاً يحاربنا ولو

نـدعو جهاراً لا إله سوى الذي

كـنا نـرى الأصـنام من ذهــــب نـرجو ثـوابك مغـنماً وجـوارا

نـصــب الـمنايا حولنا أسوارا

خـــلق الوجود وقـدر الأقـدارا

فـنهدمــها ونـهدم فوقها الكفــارا

لو كان غــير الـمسلمين لحـــازها كنـزاً وصــاغ الحلي والدّينـــارا

د‌- قيام دول ومماليك شرقت وغربت وجان لها حضارات زاهرة وعامرة، أبهرت الدنيا، وأعجب بها العالم، منها الدول الأموية، والعباسية، وفي ظلها قامت ممالك وسلاطين (كالزنكية، والأيوبية، والإخشدية، والمرابطين والموحدين) وكان آخر هذه الدولة الدولة العثمانية، وقد قال المستشرقون كلاما عجز عبيدهم من بني جلدتنا أن يتقبلوا هذه الكلام، وما أروع ما قاله: “توماس أرنولد”: “كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتُبدد غياهب الظلام الذي كان يلف أوربا في القرون الوسطى”. وأما “تومبسون” فيقول: إن انتعاش العلم في العالم الغربي نشأ بسبب تأثر شعوب غربيِّ أوربا بالمعرفة العلمية العربية، وبسبب الترجمة السريعة لمؤلفات المسلمين في حقل العلوم ونقلها من العربية إلى اللاتينية لغة التعليم الدولية آنذاك”. ويقول “جورج سارتون”: إنّ الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون؛ فـ”المسعودي” أعظم الجغرافيين، و”الطبري” أعظم المؤرخين.

رابعا: الأدلة من طبيعة الإسلام:

وأما طبيعة الإسلام فهي طبيعة -كما يقول القرضاوي- لا تقبل التجزئة، ويضيف قائلا: الإسلام يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه، وأخذ بعضها دون بعض. وقد اشتد القرآن في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل، فقال تعالى في خطابهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في الإسلام بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية، مثل تحريم يوم السبت، أَبَى الرسول عليهم ذلك إلا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] شمول الإسلام/ يوسف القرضاوي/ ط مكتبة وهبة ط ثانية 1995م/ ص 45.

إن هذه الطبيعة جعلت الإسلام وحدة كاملة لا ينفك بعضها عن بعض، فهو يعالج كل مشاكل الناس، ويوجه كل متطالبات البشر.

المسلم لا يكون إلا سياسيا:

وبناء على ما سبق فحياة المسلم لا تكون إلا بالسياسة، والمسلم لا يكون إلا سياسيا، ويقر القرضاوي هذا بقلمه البليغ وفقه الواسع وفكره الثاقب فيقول: إن شخصية المسلم – كما كوَّنها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته – لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فَهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له. فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يُعبِّر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم…. وقد يُعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خُسر الدنيا والآخرة، كما وضَّحت ذلك (سورة العصر).

ويُحرِّض الرسول – صلى الله عليه وسلم – المسلم على مقاومة الفساد في الداخل، ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج… وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهِّد السبيل لعدوان الخارج. ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله… ويُرغِّب في القتال لإنقاذ المُضطهدين، والمُستضعفين في الأرض، بأبلغ عبارات الحثِّ والتحريض، فيقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75].

ويصبُّ جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضَّيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض يجدون فيها حريتهم، فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97 – 99]…. الدين والسياسة/ يوسف القرضاوي/ ص 96..

ولله در الشاعر اليمني محمود الزبيري حين قال:

ليس في الدين أن نقيم على الضيم

ليس في الدين أن نؤله طغياناً

ليس في الدين أن نقدس جلاداً

لعن الله كل ظلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم وجـــــور ونحني جباهنا للدنية

ونحنو للسلطة البربرية

ويمناه من دمانا روية

لعنة في كتابـــــــــــــــــــــــــــــه سرمديـــــــــــــــــــــــــــــــــــة

وهذا يعني أن يوم المسلم وليله، وصباحه ومساءه، وحله وترحاله، وسفره وإقامته، وكل ما يأتي به قد يكون عقيدة أو عبادة وهو في نفس الوقت سياسة، يسمه الناس ما شاءوا إلا أنه لا يبتعد عن توجيه الشرع وأوامر الدين، وهذا ما نشير إليه في الفقرة القادمة.

الإسلام وشعب الإسلام الأربع:

وهنا أؤكد على أن السياسة لا تتنافر أو تتباعد مع شعب الإسلام الأربع، فبعض الأمور التي يتوهم البعض أنها سياسة، هي في ميزان الشرع دين، قد تكون عبادة وقد تكون أخلاقا، وربما كانت عقيدة لا يكمل إيمان العبد إلا بها، كما في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}(سورة النساء 65).

دعاة فصل الدين عن السياسة يجمعون بينهما حين يشاؤون:

والمتابع للحالة السياسية في عالمنا الإسلامي (ومصر في القلب منه) يجد أن من ينادن بفصل الدين عن الدولة، أو يعتبرون المنادة بتطبيق الشريعة الإسلامية، يغضون أبصارهم حين يكون في الأمر مصلحة للساسة الظلمة الفجرة، وقد حدث قديما أن طالبت بعض الحكومات المصرية أصحاب العمائم فتاوى لتكفير بعض التيارات الإسلامية، وقد كان، وهو ما تكرر في أيامنا هذه.

ولما كانت فترة الستينيات واحتاج الحكام إلى تأييد موقفهم في معادة اليهود وحربهم؛ لجأ الساسة إلى الدين، واستخرجوا الفتاوى من المشايخ والتي صدرت بآيات تحريم الصلح مع اليهود، ومنها قوله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة: 120)، ولما جاء مهندسو الصلح مع الكيان الصهيوني لجأ الساسة أيضا إلى الدين، وربما إلى ذات الماشيخ فدبجوا الفتاوى التي صدرت بقوله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(الأنفال: 61).

وحين احتاج الساسة لإباحة الفوائد الربوية، وعجز الإعلام والساسة عن توجيه الناس نحو الفوائد والربا، لجأوا ثانية إلى الدين، واستخرجوا الفتاوى التي تبيح الفوائد…

ونحن وإن اختلفنا مع فتاوى هؤلاء العلماء، إلا أننا ننكر على هؤلاء الساسة اقحام الدين في السياسة حسب المزاج والطلب، إن دين حاكم يا سادة على الناس لا محكوما بأهوائهم، وموجه لحياة الناس، لا موجها من ساستهم، وقائد للحكام لا تابعا لأغراضهم ونزواتهم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى