كتاباتكتابات مختارة

لماذا تمارس الصين العنصرية تجاه مسلمي الإيغور؟

لماذا تمارس الصين العنصرية تجاه مسلمي الإيغور؟

بقلم شريف مراد

كان السؤال الذي أدار عقل بندكت أندرسن ردحا من الزمن هو، لماذا تنزلق الأنظمة الشيوعية الماركسية إلى ممارسات عنصرية على أسس ثقافية، ممارسات لا تختلف في جوهرها عن ممارسات اليمين المتطرف في الأنظمة الفاشية والاستعمارية؟.. فقد كان النموذج السوفييتي الستاليني وما بعد الستاليني ونموذج الثورة الثقافية الماوية في الصين قد تحول من فِردوس مَوْعود إلى كابوس مرعب ربما فاق ألمانيا النازية رعبا.. قاد هذا السؤال بندكت أندرسن لتأليف واحد من أهم نصوص العلوم الاجتماعية في العقود الأخيرة كتاب “الجماعات المتخيلة.. تأملات في القومية وانتشارها”، إحدى المقولات الأساسية التي انتهى إليها بندكت هي أنه لن يتبقى من الجمهوريات والدول الاشتراكية بمرور الوقت سوى كونها جمهوريات ودول فقط بكل هياكلها السلطوية والبيروقراطية الضخمة، من دون أي توجه أيديولوجي سواء اشتراكي أو ليبرالي، فقط الدولة وأجهزتها وهوّس السيادة والضبط الاجتماعي والأمني والسيطرة والتحكم.

أعادتني الأخبار الآتية من غرب الصين عن مأساة مُسلمي الإيغور الواقعين تحت وطأة وإجرام النظام الشيوعي الثوري في الصين، التي تشبه معاناة اليهود في وسط أوروبا إبان الفترة النازية مرة أخرى، مرة أخرى إلى سؤال بندكت، فالصين اليوم تبدو تماما كألمَانيا النازية في الثلاثينات نموذج مرعب مُفرط في قسوته، والأهم إنه كما يحذر سلافوي جيجك يبدو في نجاحه الحاسم كَصورة قاتمة لما يمكن أن يكون عليه مستقبل البشرية، خاصة في ظل تراجع الأيديولوجي المتزايد للديمقراطية الليبرالية وصعود الشعبويات اليمينية في كل مكان في العالم تقريبا. بما يعنيه ذلك من تآكل معيارية حقوق الإنسان بصيغتها الليبرالية تحديدا. في ضوء كل هذا تأتي معاناة مسلمي الإيغور في إقليم شينغيانغ كمأساة مضاعفة، مأساة بفعل النظام الصيني نفسه، ومأساة بفعل العالم الذي يدخل في حالة من التداعي الحُر بفعل سقوط كل المرجعيات التي تشكل أطر أخلاقية من الممكن مُحاكمة العالم إليها، حتى لو بدا صوري وشكلي إلا أن غياب هذه الأطر يجعل العالم يظهر في صورة نيتشوية خالصة مكون من أسياد وعبيد في عودٍ أبدي مظلم وعدمي.

بالعودة إلى مسلمي الإيغور، ما الذي يثير حفيظة السُلطة الشيوعية تحديدا من ممارسات المسلمين، فالسُلطة السياسية هنا لم تتوقف عند هدم المساجد وإلغاء الآذان ومنع الشعائر الدينية العامة، بل تطور الأمر ليصل مثلا الممارسات الخاصة جدا والمتعلقة بطريقة تعامل المسلمين مع أجسادهم، كَتجريم الختان للذكور والوضوء وسائر الممارسات الموجودة في باب الطهارة أول أبواب الفقه الإسلامي، المرتبطة ارتباط عضوي بأجساد المسلمين وحياتهم الخاصة، ما الذي يجعل هكذا ممارسات بمثابة تحدي لسيادة الدولة الشيوعية الصينية؟

اكتشف ما بعد البنيَويين، مركزية الجسد في السياسة، أو بالأحرى وضعوه في المركز من المؤسسات السياسية والقانونية والعلمية الحديثة، كأحد الأهْداف الرئيسية لعمل تلك المؤسسات هو امتلاك الأجساد وضبط حركتها وممارستها والتحكم بها عن طريق الخطاب القانوني والسياسي والعلمي والاقتصادي، فإن كان الجسد تاريخياً موضوعاً للوَشم والتصنيف والعناية والعقاب، والساحة التي تتصارع فيها قوى الغواية واللذة والتأديب. إن التحول الأساسي للحداثة والدولة الحديثة كان تحول الرعية أو الناس في تنوعهم الخام الخالص إلى سكان ومواطنين في ظل سيادة تقنية وسُلطوية لبِيروقراطية الدولة أجهزتها الأمنية والإحصائية والقانونية، بحيث يصبح السكان كتلة محددة مسبقا ومكشوفة يمكن قياسها بشكل رياضي إحصائي، وتصنيفهم وتحويلهم إلى معاملات رقمية في مصفوفات للتنبؤ والتحكم بسلوكها وضبطه ومراقبته واستثماره وتهذيبه.

فبفضل علوم الإحصاء، والعلوم التقنية والطب الحديث وتقنيات مقاومة الأوبئة والمجاعات وسائر العلوم والممارسات العلمية والصحية والديموغرافية التي تشكلت في ظل الدولة الحديثة والاقتصاد الصناعي الرأسمالي، وتوسع البنية البيروقراطية للدولة بفضل ذلك، لم يعد الجسد مجرد حامل لعلامات السلطة، بل أصبح الموضوع الرئيسي للسياسات الحيوية وسيادة الدولة. أضحت الدولة معنية بتنظيم العمليات البيولوجية، والتدخل فيها وضبطها، الميلاد والموت والأمراض والصحة العامة والسكن والتغذية والإنجاب والعلاقات الجنسية والشيخوخة وغيرها. وفي هذا كله، كان الهدف دائماً، في منظومة دوْلتية -رأسمالية، هو التحكم والهيمنة.

وجاء القرن العشرون بتطبيق لأقصى صور السياسة الحيوية بشاعة، باستئصال الأجساد “غير الصالحة”، وإبادة غير ذي القيمة منها، والتعقيم الإجباري لغير المرغوب في صفاتهم الوراثية. ولم تكن “اليوجينية” النازية هي النموذج الوحيد، وإن كانت أكثرها دموية. أثبتت اللحظة النازية الخاصية الأساسية للحداثة وهى دمج الحياة القائمة في الأصل على هامش التنظيم السياسي إلى التطابق مع الفضاء السياسي حيث يوضح ميشيل فوكو في كتابه “The Birth of Bio-politics” أن قصة الحداثة هي عبارة عن تَمْدُّد الحيّز السياسي ليَستوعب الحياة بأسرها في نطاقه، ليُصبح النطاق السياسي كما يؤكد كارل شميت هو النطاق المركزي للحياة الإنسانية في العالم الحديث، حيث واصل فوكو بإصرار حتى نهاية حياته دراسة عملية الانتقال التاريخية التي قادت الفرد -في الانتقال من العالم القديم إلى العالم الحديث- إلى وضع حياته وأناه الخاصة إلى التَشْكّل، لا بوصفه كائنا حيّا اجتماعيا بل بوصفه ذاتا سياسية بشكل كامل ترتبط بشكل مباشر بسُلطة خارجية.

يوضح أغامبين مقصد فوكو بقوله إن الحياة كفعل طبيعي بيولوجي والجسد كهبة إلهية، وظاهرة بديعة مُعجزة داخل نظام كَوْني فريد قائم على المعجزات كتجلٍّ لآيات الخالق وإبداعه، حيث الحياة هنا تستمد قيمتها من ذاتها لأنها فعل مُعجز بذاته تنبع قداستها من خالقها، تم تَسْييسها بمعنى أنها أصبحت مسؤولية سياسية للدولة مُنذ اللحظة التي تدخلت فيها الدولة الحديثة في الحياة الطبيعية بداية من واقعة الولادة حتى واقعة الوفاة وما بينهما، لإدراج الحياة داخل نظامها القانوني والحقوقي والتوثيقي العام، لا يختلف أي نظام سياسي حديث في ذلك سواء كان ديموقراطيا ليبراليا أو فاشيا أو شيوعيا ستالينيا. هنا تظهر الحياة البيولوجية الطبيعية والجسد كموضوعات للقانون ولسيَادة الدولة حيث تستمد الحياة قداستها من النظام القانوني-السياسي للدولة الحديثة.

في ضوء أطروحات فوكو وأغامبِين وبالعودة للصين ، فنحن الآن أمام دولة ضخمة تستطيع الوصول بفضل التقنية السياسية السُلطوية التي تملكها إلى أي إنسان يوجد داخل حدودها، وأمام هذا التدخل تعتنق أجهزة تلك الدولة عقيدة شيوعية لم يبقى منها غير شقها الإلحادي فقط، وكأي دولة حديثة في العالم تعمل هندسة المجتمع أو كما يصف زيجمونت باومان الدولة كالبستانِي المسئول عن البستان، فمُهمته هي إزالة الحشائش الضارة من المجتمع، لا تختلف كثيرا حسب هذا التحليل عمليات التعقيم الإجباري عن فصل الأطفال عن ذويهم من مسلمي إقليم الإيغور، ففي كلتا الحالتين تتعامل الدولة مع أجساد الأفراد وحياتهم تماما كما يتعامل البستاني مع الحشائش في بستان ما، بتقسيمها إلى ضارة ونافعة ثم القضاء على الضارة وعزلها باقى البستان. فالحياة الإنسانية للمسلمين الإيجور -بكل ما تحمله كلمة حياة من معنى- باتت تستمد قيمتها من نظام لا يؤمن بالله ولا بالإنسان!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى