تقارير وإضاءات

ارتحلوا له وأقاموا به.. لماذا أحب المغاربة بيت المقدس وسكنوا به؟

ارتحلوا له وأقاموا به.. لماذا أحب المغاربة بيت المقدس وسكنوا به؟

إعداد محمد شعبان أيوب

كانت القدس على مر التاريخ مقصدا للزيارة والمجاورة، تلك المدينة المقدسة التي حرص المسلمون شرقا وغربا على زيارتها في مواسم الحج والعمرة حين كانت الرحلة ميسرة دون تعقيدات الحدود كأيامنا هذه، يأتيها القاطنون على حدود الصين ووسط آسيا كما يأتيها الأندلسيون والمغاربة والأفارقة، لزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه. ولهذا، عُدّت القدس مدينة عالمية مفتوحة، متعددة الثقافات والمشارب، تفتح ذراعيها للقادمين دون تعصب أو تمييز، ويؤم مسجدها الأقصى الهندي والعراقي والمصري والمغربي، ويعتلي منصب القضاء فيها الشامي والخراساني والأناضولي دون تفريق.

إلا أن المغاربة -نسبة لبلاد المغرب العربي- على وجه الخصوص اهتموا بصورة لافتة بالزيارة، وشجعوا بني جلدتهم في بلدان المغرب والأندلس على الرحلة إلى هذه المدينة المقدسة. شيئا فشيئا، صار للمغاربة حضور في القدس، ثم أضحى لهم حارة مخصوصة بهم كانت بمنزلة الحي، بل إن أحد أبواب مدينة القدس في سورها الغربي لا يزال يُسمى بباب المغاربة[1]. فلماذا اهتم أهل القدس بالمغاربة لهذه الدرجة؟ ولماذا حرصوا على إبراز هويتهم على بعض أهم معالم مدينتهم المقدسة في المسجد الأقصى وفي سور المدينة وفي أحيائها؟ وما الذي قام به المغاربة ليتسنّموا هذه المكانة في الوجدان والضمير المقدسي؟!

صلاح الدين وحب المغاربة

ترجع هجرة المغاربة إلى الشرق بوجه عام إلى أيام الدولة الفاطمية، فمن المعلوم أن الفاطميين قد اعتمدوا في تأسيس دولتهم في المغرب على قبائل البربر المتعربة، وكان في جيشهم فرق منهم، فانتقلت جموع منهم إلى مصر بانتقال الفاطميين إليها، وحين خضعت القدس وكامل فلسطين إلى الحكم الفاطمي اتجهت أعداد من المغاربة إلى سكنى المدينة المقدسة والاستيطان فيها[2].

زادت أعداد المغاربة في عصر السلطان صلاح الدين وأبنائه، وأُمعن في احترامهم، والموافقة على كل طلباتهم

دخل الصليبيون بيت المقدس، وأحدثوا واحدة من أعظم المذابح في تاريخ القرون الوسطى، فقتلوا من أهل المدينة سبعين ألفا أو يزيد، وبقيت القدس في ظل الحكم الصليبي لمدة تسعين عاما، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي بعد انتصار حطين، وبعد حصار مشدد للمدينة، فاستطاع تحريرها. وتشير العديد من المصادر إلى أن ربع الجيش الأيوبي المشارك في تحرير القدس كان من المقاتلين المغاربة[3]، وبعد الانتصار أراد معظم هؤلاء العودة إلى أوطانهم، مثل المتطوعين العراقيين والمصريين والشوام وغيرهم، إلا أن صلاح الدين سمح للجميع بالعودة إلا المغاربة، فقد رأى فيهم ما لم يره في غيرهم. وحين سُئل صلاح الدين عن سبب تمسكه بالمغاربة، وطلبه منهم البقاء في القدس، وبناء حي خاص بهم، وإجراء الأموال والأوقاف عليهم، فقد أجاب بأن المغاربة قوم “يعملون في البحر ويفتكون في البر”، أشداء على الكفار، لا يخافون طرفة عين في الدفاع عن المسلمين ومقدساتهم[4].

ومن هنا، زادت أعداد المغاربة في عصر السلطان صلاح الدين وأبنائه، وأُمعن في احترامهم، والموافقة على كل طلباتهم، فمما يرويه الرحالة الأندلسي ابن جبير بأن صلاح الدين “جعل أحكامهم إليهم، ولم يجعل يدا لأحدٍ عليهم”، أي إن المغاربة صاروا مثل الجالية صاحبة المزايا والخصائص في بيت المقدس، وقد خرج من هؤلاء قضاة ومستشارون وفقهاء، وكانوا إليهم يحتكمون، بل عيّنوا عليهم رئيسا لهم اعترفت به السلطات، كان يُسمى بشيخ المغاربة[5].

العثمانيون يحتضنون القدس والمغاربة

ارتقى الكثير من المغاربة إلى مناصب مرموقة في المدينة مثل القضاء والفتيا والفقه والتدريس وغيرها، وتعطينا الكثير من المصادر التاريخية مثل موسوعة مجير الدين العليمي “الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل” أسماء هؤلاء المغاربة، ومراتبهم ووظائفهم، وما تمتعوا به من مزايا في ذلك العصر. وفي عصر المماليك، توسعت هجرة المغاربة صوب الشرق والقدس في القلب منها، فقد انتصر المماليك على الصليبيين بصورة نهائية، وعلى المغول، وأضحت إمبراطورية كبرى مزدهرة ترنو إليها النفوس من كل مكان، وكان من أشهر المغاربة الذين زاروا القدس ومصر حينذاك الرحالة العظيم ابن بطوطة، الذي أخذت القدس بلُبّه، لا سيما قبة الصخرة التي يقول فيها:

موسوعة مجير الدين العليمي “الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل” (مواقع التواصل)

“وهي من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا، قد توفّر حظُّها من المحاسن، وأخذت من كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نُشز في وسط المسجد، يُصعد إليها في دَرج رُخام، ولها أربعة أبواب والدائر بها مفروش بالرخام أيضا مُحكم الصنعة، وكذلك داخلها، وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة، ورايق الصنعة، ما يعجزُ الواصفُ، وأكثر ذلك مغشّى بالذهب؛ فهي تتلألأ نورا، وتلمعُ لمعان البرق، يحارُ بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها”[6].

كان سقوط الأندلس سنة 897هـ/1492م، وهجوم الإسبان على مدن الساحل المغربي بعد ذلك، سببا قويا في هجرة أعداد كبيرة من الأندلسيين والمغاربة إلى مدينة بيت المقدس، التي أحبوها وعشقوا المقام فيها منذ زمن صلاح الدين وما قبله، وقد ذكر مجير الدين العليمي المعاصر لتلك الأحداث كثيرا من العلماء المغاربة الوافدين الذين تولوا المناصب المهمة في المدينة، مثل القضاء، ومشيخة زاوية المغاربة بالقدس، وإمامة المالكية بالمسجد الأقصى، ومشيخة القادرية وهي إحدى الطرق الصوفية بالقدس آنذاك[7].

ظلت مكانة المغاربة في القدس مرموقة في عصر العثمانيين، الذين دخلوا المدينة سنة 1517م وضموها لدولتهم الواسعة، وفي هذا العصر تشكّلت معالم المنطقة السكنية الخاصة بالمغاربة في القدس، والتي كانت تُسمى بحي المغاربة أو محلة المغاربة أو حارة المغاربة، وظل شيخ المغاربة ممثلا لطائفته وأهل بلده أمام السلطات العثمانية والقضائية، وكان أيضا ناظرا ومسؤولا عن أوقافهم التي تنوعت وازدهرت وكثرت في داخل القدس وفي القرى والبساتين المجاورة لها[8].

 حي المغاربة قديما (مواقع التواصل)

وقد شغل بعض المغاربة مناصب رفيعة في مدينة القدس حينذاك، ولا تزال وثائق القدس في العصر العثماني تحتفظ بأسماء هؤلاء ومواقعهم، فمنهم الشيخ محمد النفاتي التونسي الذي عُيّن سنة 1074هـ/1663م قاضيا للقدس، والتقى به الرحّالة المغربي أبو سالم العيّاشي عند زيارته لمدينة القدس في ذلك العام، كما تم تعيين الشيخ محمد بن محمد الطيب التافلاتي المغربي مُفتيا للحنفية في القدس في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وهو من علماء القدس المشهورين، كذلك اشتهر من المغاربة الشيخ محمد بن بُدير المعروف بن حبيش المغربي، وكانت فرمانات السلاطين العثمانيين الصادرة إلى ولاتهم على القدس تحرص على ذكر اسمه وتبجيله لشهرته وغزارة علمه[9].

نهاية مأساوية!

في حارة المغاربة التي تطورت منذ العصر الأيوبي في بيت المقدس، أُنشئ باب المغاربة ليكون أحد الأبواب المنظّمة لدخول القادمين إلى المسجد الأقصى، وقد أعاد المماليك ترميمه فيما بعد، وظل المغاربة يفتخرون بموقعهم في المدينة المقدسة، وبأحد أبواب مسجدها العامر الذي سُمّي باسمهم، حتى كانت مصيبة الاحتلال الصهيوني للقدس في يونيو/حزيران من العام 1967م[10].

كان القرار الأول بعد احتلال المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأربعة أيام قد صدر بهدم حارة المغاربة، فجاءت الجرافات الإسرائيلية وسوّت حارة المغاربة بالأرض، فهدمت 134 عقارا، من جملتها أربعة مساجد، والمدرسة الأفضلية التي بُنيت في زمن الأفضل الأيوبي بن صلاح الدين، والكثير من الأوقاف، مع تشريد الآلاف من أبناء الحارة ذوي الأصول المغربية، وصادر الصهاينة مفتاح باب المغاربة، وقصرت الدخول من باب المغاربة إلى المسجد الأقصى على غير المسلمين، وصار هذا الباب يُستخدم لاقتحام المسجد الأقصى ومهاجمة المصلين، وفي العام 2012م هدمت إسرائيل تلة المغاربة خارج باب المغاربة[11]، لتمحو أثرا من أعظم وأهم آثار وتراث أهل القدس والمغاربة على السواء!

وهكذا، أحب المغاربة مدينة القدس كما أحبتهم المدينة واحتضنتهم عبر قرون من الزمان، ضحوا فيها بدمائهم وأموالهم وعلومهم ومعارفهم لرفعة مدينة القدس، وكانت كارثة الاحتلال مأساة ضاعت فيها جهود المغاربة وتراثهم وبقاؤهم، فهُجّروا واختفت معالم هذا الوجود وذلك الحب بفعل الاحتلال الصهيوني!

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى