قاعدة اجتماع الحلال والحرام حقيقتها أدلتها وتطبيقاتها – الدكتور محمد الروكي

قاعدة اجتماع الحلال والحرام حقيقتها أدلتها وتطبيقاتها – الدكتور محمد الروكي

هذه قاعدة فقهية كثر ورودها عند الفقهاء، ولاسيما في مجال العادات والمعاملات، كما كثر الاستشهاد بها عند الناس في عدة مواطن، وأحيانا قد يكون الاستشهاد والاستدلال بها في غير محلها، أو ينأى بها عن حدود معناها الفقهي الذي سار عليه الفقهاء، أو يغفل عن قيودها وضوابط إعمالها في مجالها، في العبادات، والعادات والمعاملات . . .

وفي هذا المقال بيان لحقيقتها وأدلتها وتطبيقاتها من خلال العناصرالآتية:

1- نص القاعدة;

2 – صيغها الأخرى;

3 – قواعد ذات علاقة بها;

4- شرح القاعدة.

نص القاعدة: ((إذا اجتمع الحلال والحرام غُلِّب الحرام((.

صيغ أخرى للقاعدة :

– إذا اجتمع الحلال والحرام رجح الحرام

– يغلب الحرام على الحلال

– تغلب جهة الحرمة على جهة الحل احتياطا

– المحرم مقدم

– المشتبه فيه يؤخذ فيه الأحوط، وهو التحريم إذا اختلط الحرام بالحلال -والتمييز غير ممكن- يحرم الكل

– إذا استوى الحلال والحرام يغلب الحرام الحلال

صيغ ذات علاقة :

– الأقل يتبع الأكثر

– الشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما هو مبني على الاحتياط

– درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

– كل طاعة مازجتها معصية فهي كلها معصية

– العقدة إذ ا جمعت حلالا وحراما غلب جانب الحرمة وبطلت كلها

– إذ ا تعارض المقتضي والمانع يقدم المانع

– إذا اجتمع المبيح والمحرم يغلب المحرم

– الحظر والأحوط

– إذا ورد خبران أحدهما حاظر والآخر مبيح فالحظر أولى

شرح القاعدة:

معنى القاعدة:

أن الحرام والحلال إذ ا اجتمعا معا -أي اختلطا- أخذ الجميع حكم الحرام. واجتماعهما له صورتان:

الصورة الأولى لاجتماع الحلال والحرام :

أن يجتمعا في شيء واحد، ككونه حلالا باعتبار، حراما باعتبار آخر، ومن صيغ القاعدة ما يعبر عن هذه الصورة كقولهم: ((إذا اجتمع الحل والحرمة في المحل يترجح جانب الحرمة في الابتداء والانتهاء.

وهذا يدخل فيما سمي على لسان الشَّرع بالمشتبهات، فقد جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات…((، فالمشتبهات هي التي تتجاذبها وتتنازعها الحرمة والحِلّ، فقد يفتي بعض الفقهاء في شيء بالحرمة لِما قام عنده من أدلتها، ويفتي غيره بالحِل لما قام عنده من أدلته، فيكون هذا الشيء متأرجحا بين الحرمة والحِل، والأحوط حينئذ تغليب الحرمة على الحل، وهذا مما تدل عليه القاعدة. ومثل ذلك: أن تتعارض عند الفقيه في شيء أدلّة تحريمه مع أدلة تحليله، فيكون الأحوط هو تغليب جانب التحريم.

وتغليب الحرام على الحلال في هذه الصورة مقيد بوجود الاشتباه كما تبين، وقد روعي في ذلك في بعض صيغ القاعدة كما في صيغتها الخامسة: ((المشتبه فيه يؤخذ فيه بالأحوط وهو التحريم((.

الصورة الثانية لاجتماع الحلال والحرام :

أن يجتمعا في شيئين، بأن يختلط شيء حرام بشيء حلال، كاختلاط لحم مذكاة بلحم ميتة، فتغلب الحرمة على الحِل أيضا خشية الوقوع في الحرام. والتغليب هنا في هذه الصورة مقيد بثلاثة قيود:

– متى اشتبه المباح بالمحظور غلب الحظر

وجود الاشتباه كما تقدم في الصورة السابقة، أما إذا انعدم الاشتباه كاختلاط حلال بحلال، أو حرام بحرام، فالحكم واضح، وهذا القيد مفهوم من بعض صيغ القاعدة كقولهم: ((متى اشتبه المباح بالمحظور غلب الحظر((. وذلك لان الحرام مما يحتاط له، ومن الاحتياط له تغليبه على الحلال في المشتبه فيه الدائر بينهما،والشبهة عند الفقهاء معتبرة في كل ما ينبني على الاحتياط، ومن قواعدهم في ذلك: أن الشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما هو مبني على الاحتياط.

– تعذر التمييز بين الحرام والحلال

أما إذ ا أمكن التمييز بينهما فالحرام حرام، والحلال حلال، اجتمعا أو افترقا، وقد نُصَّ على هذا القيد في بعض صيغ القاعدة كما في الصيغة السادسة:(( إذا اختلط الحرام بالحلال، والتمييز غير ممكن يحرم الكُلّ((. فمفهوم هذه الصيغة أنه إذ ا أمكن التمييز أخذ كل من المختلطين حكمه الأصلي، الحلال على حِلِّيَّته، والحرام على حرمته، ولا يحكم بالتغليب.

– دع ما يريبك إلى ما لا يريبك

ألا يكون الحرام قليلا: فتغليب الحرام على الحلال عند اجتماعهما واختلاطهما إنما يصار إليه احتياطا، إذا كان الحرام كثيرا، أو مساويا للحلال، أما إذا كان قليلا وكان الحلال كثيرا فإنه حينئذ يغلب الحلال على الحرام، لأن الحكم للغالب، ولأن الأقل يتبع الأكثر، وقد بين ذلك ((ابن رشد الجد(( فقال: ((إن الفعل الواحد إذا اشتمل على مصلحة من جهة، ومفسدة من جهة أخرى، فإن الشارع ينظر إلى الجهة الغالبة، فإن غلبت جهة النفع والخير قُدِّمَت، ويوصف الفعل بالصلاح، ويكون هو المتصور شرعا، كالحِجر على السفيه، فإن فيه أضرارا بتقييد حريته المالية، ولكن ذلك أضعف بكثير من حفظ أمواله وصيانتها له، وإذا غلبت المفسدة على المصلحة – وهو موضوع القاعدة- رُجِّح جانب الضرر ووصف الفعل بالفساد، ويكون هو المقصود بالنهي عنه شرعا

وقد مثل بعض الفقهاء لقاعدة ((اختلاط الحلال بالحرام باختلاط المائع الطاهر بالنجس(( ومعلوم أن قليل النجاسة لا ينجس الماء الطاهر الكثير، لأنها لقلتها تستهلك فيه لكثرته، وهذا ما يسميه الفقهاء بالاستحالة عن طريق الاستهلاك والمكاثرة، فحكم اختلاط عين محرمة قليلة بعين حلال كثير، كحكم اختلاط قليل نجاسة بكثير طاهر أيهما كان غالبا فالحكم له، وقد ورد ما يعبر عن ذلك من صيغ القاعدة كقولهم: ((إذا اختلط الحلال بالحرام والحلال غالب يحتج بشهادة القلب، والمراد بشهادة القلب استفتاؤه عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((استفت قلبك، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصَّدر، وإن أَفتاك النَّاس وأفتوك.

وإذاً، فإذا اختلط الحرام بالحلال فإنه يغلب الكثير منهما القليل، وإذا استويا غلب الحرام على الحلال، كما جاء في الصيغة السابقة ((إذا استوى الحلال والحرام يغلب الحرام الحلال(( وذلك لأن الحرام هنا ليس بقليل، والحد الفاصل بين القليل والكثير عند الفقهاء هو الثلث، فما دونه قليل، وما فوقه كثير، والثلث في حد في ذاته شركة بينهما، ولذلك قالوا فيه: إنه نهاية القليل وبداية الكثير.

والأحوط أن يعتبر كثيرا كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لسعد بن أبي وقاص: ((الثلث والثلث كثير…(( والمفهوم من كلام الحنفية أن القليل ما دون الربع، ومن قواعدهم في ذلك: أن الربع يقوم مقام الكل.

وواضح من هذا القيد أن قاعدة قيد آخر هو أن لا تدعو الضرورة إلى الحرام المختلط بالمباح، ومنها قولهم: ((إذا اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه فيحرم الكل(( وهو تحصيل حاصل، لأن المحرم إذ ا اضطر إليه المكلف صار مباحا لقيام الضرورة إليه عملا بقاعدة:(( الضرورات تبيح المحظورات((: فهو قيد عام في استباحة المحرم، اختلط بالحلال أولم يختلط.

ومجال تطبيق هذه القاعدة واسع،فقد أعملها الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات كما سيتضح من خلال التطبيقات، فهي من القواعد الكبيرة التي أخذت بها المذاهب الفقهية في الجملة.

وكما أعملها الفقهاء فيما ذكر، فقد أعملها علماء أصول الفقه في التعارض والترجيح بين الأدلة، واشتهرت عندهم بصيغ أصولية، منها قولهم: ((إذا ورد خبران أحدهما حاظر والآخر مبيح فالحظر أولى((، وقولهم: ((إذا اجتمع المبيح والمحرم يغلب المحرم(( فهي من القواعد المشتركة بين الفقه والأصول، إلا أنها استعملت في كل مقام من المقامين بما يناسبه من الصيغ.

أدلة القاعدة :

حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحلال بَيِّن وإن الحرام َبيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.

ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اتقاء الشبهات استبراء للدين والعرض، أي حفظا لهما، وجعل الوقوع في الشبهات وقوعا في الحرام، والشبهات هي ما دار بين الحلال والحرام، فدل ذلك بمنطوقه ومفهومه على أن الحرام إذا اختلط بالحلال من غير تمييز أحدهما عن الآخر صار ذلك شبهة ينبغي اتقاؤها والاحتياط منها حفظا للدين والعرض.

عن الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك((. واختلاط الحرام بالحلال شبهة تورث الارتياب، فوجب الترك احتياطا. وذلك لأن ما يريب قد يكون حراما، فتركه واجب، وفعله محرم. وقد يكون مباحا فتركه جائز. فترك ما يريب دائر بين الوجوب والجواز، أما فعل ما يريب فدائر بين الحرمة والجواز، لذلك وجب تركه بالأمر بترك ما يريب.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه((.

وجه الاستدلال :

أن الحرام مطلوب لترك، فإذا اختلط بالحلال وتعذر التمييز بينهما وجب ترك الجميع، لأنه لا سبيل إلى ترك الحرام إلا بذلك، وقد قال عمر رضي الله عنه:(( كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام((.

استدل الفقهاء أيضا بحديث: ((ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال(( وهو ضعيف.

لأن ترك الحرام واجب، وترك الحلال جائز، وغاية ما في تغليب الحرام على الحلال عند اجتماعهما: ترك الحلال مع جواز فعله، وترك الحلال لا مفسدة فيه، بينما فعل الحرام فيه مفسدة، فتغليب الحرام على الحلال هو الأحوط.

تطبيقات القاعدة :

– إذ ا كانت بين الحل والحرم حرم قطعها تغليبا للحرمة.

– إذ ا رمى في الحل صيدا بعضه في الحرم ضمنه تغليبا للحرمة، وكذا لو رمى في الحرم صيدا بعضه في الحل.

– إذ ا اختلطت غنم مذبوحة بميتة،وكانت المذبوحة أكثر، تحرى وأكل وإلا فلا ، لأن الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة، فإن أسواق المسلمين لا تخلو من المحرم من مسروق ومغصوب، ومع ذلك يباح التناول اعتمادا على الظاهر، وهذا لأن القليل منه لا يمكن التحرز منه، ولا يستطاع الامتناع منه، فسقط اعتباره دفعا للحرج.

– إذ ا التبست أجنبية من الرضاع حرمتا معا تغليبا للحرام على الحلال. لكن إذ ا كان للرجل في بلد أخت من الرضاع له لا يعرفها بعينها ، جاز أن يتزوج من نساء ذلك البلد ، لان الحرام هنا قليل شائع في الحلال الكثير.

– إذ ا كان للمسجد منارة تطل على الدور المجاورة لم يجز للمؤذن أن يصعد فيها ويرقى عليها، لما في ذلك من الاطلاع على حرم الناس وهو محظور، فيغلب على الصعود مع جوازه.

– الحيوان المتولد من حيوانين: مباح ومحرم، يحرم أكله تغليبا للحرمة.

– يجوز للمحدث أن يمس التفسير إذ ا كان أكثر من القرآن أو مساويا.

– من التطبيقات المعاصرة أن الحيوان المحصل عليه عن طريق الاستنساخ والتعديل الجيني إذا اشتمل على جينات حيوان محرم حرم أكله تغليبا للحرام. كما لوتم التعديل الجيني إذا اشتمل على جينات حيوان محرم حرم أكله تغليبا للحرام. كما لوتم التعديل الجيني بين خروف وخنزير،فإنه يعتبر في حكم الخنزير.

– لا يجوز شراء أسهم من شركة تتاجر في مواد نصفها حرام، ونصفها حلال، تغليبا للحرام على الحلال.

– لا يجوز استثمار المال في شركة تودع شطر رأس مالها في الأبناك بالفوائد الربوية، تغليبا للحرام.

(المصدر: مركز المقاصد للدراسات والبحوث نقلاً عن موقع المحجة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى