العهدة العمرية وتهويد القدس

العهدة العمرية وتهويد القدس

بقلم عيسى القدومي

ما سبق يعود بالذاكرة إلى العهدة العمرية حينما حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على الاستجابة لقبول الصلح لفتح القدس، وأبرم الصلح بنفسه بعد أن سافر من المدينة المنورة إلى فلسطين من أجل إتمام هذا الصلح. وكان في استقباله «بطريرك المدينة صفرونيوس» وكبار الأساقفة ، وبعد أن تحدثوا في شروط التسليم انتهوا إلى إقرار تلك الوثيقة التي اعتبرت من الآثار الخالدة الدالّة على عظمة تسامح المسلمين في التاريخ ، التي عرفت باسم العهدة العمرية.

    ولتلك العهدة التي أعطاها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لسكان القدس وبيت المقدس من النصارى معان جليلة:  فقد أمَّنَ أميرُ المؤمنين أهـل القدس على أنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم ،  وممتلكاتهم، ومنع التعدي على أي من ذلك ، وأن يُعْطُوا الجزية نظير بقائهم على دينهم، وحماية المسلمين لهم . ومنعت العهدة أن يسكن مع أهل القدس من النصارى أحد من اليهود(1)، وذلك نزولا عند رغبة النصارى ، لتطهر من خبث اليهود، وتلك دلالة صارخة  على كره أمم الأرض لليهود، وما زالت هذه الوثيقة محفوظة في كنيسة القيامة بالقدس.

     العهدة العمرية التي حددت عباراتها الموقف من اليهود – وكل عهد في الدنيا فيه واجبات وفيه حقوق – فكيف نرى الوثائق والاتفاقات والعهود والوعود تعطي لليهود الحق في الوجود على أرض فلسطين؟!

      وخلاصة الأمر: مع كل المتغيرات والتنازلات والتحولات والمداهنة التي انتهجها الفاتيكان مع الكيان الصهيوني بزعم حرصه على مقدساتهم في القدس إلا أن مسيحيي فلسطين لم يجدوا أنفسهم خارج دائرة الصراع، وإنما عانوا ما عاناه المسلم في القدس من ممارسات المتطرفين اليهود وإن كانت معاناة المسلمين تفوق ذلك بكثير. وتفريغ القدس من سكانها العرب يجري على المسلم والنصراني في القدس؛ إنما الفارق في المقايضة التي أبرمها الكيان الصهيوني مع المؤسسات النصرانية لتقديم ذلك الدعم والوثائق والمواقف لصالح اليهود مقابل السماح لهم بممارسة حيز – إلى حد ما – من العمل والحرية.

     والمسوغات التي ذكرها قادة الفاتيكان لحماية الوجود النصراني في القدس لم تتحقق، وأضحى عدد النصارى العرب في القدس لا يتعدى 11 ألف نسمة حسب إحصاءات الكنسية ويشكلون1و7% من عدد السكان الفلسطينيين القاطنيين في المدينة بينما كان عددهم عام 1944م 29350 نسمة, بل أشار المطران عطا الله حنا(2) إلى أن عدد مسيحي القدس في تناقص ولا يزيد في هذه المرحلة عن 8 آلاف نسمة, ولا شك أن هذا ترسيخ للوجود المسيحي الغربي هم ليسوا فلسطينيين بل يونانيون ولغتهم ليست عربية.

      وشكا كهنة مسيحيون يخدمون في الكنائس القائمة في محيط مدينة القدس من تواصل الإهانات والاعتداءات الجسدية التي يرتكبها المستوطنون اليهود، وروى عدد من الكهنة في الكنائس الروسية والبولونية والرومانية والإثيوبية أن مستوطنين يعترضون طرق الكهنة، ويعتدون عليهم بالبصق ويكيلون إليهم الشتائم، وفي بعض الأحيان يلجؤون إلى الاعتداءات الجسدية بالدفع وإلقائهم أرضا. وجرت اعتداءات على راهبات أيضا.ويقوم هؤلاء المتطرفون بكتابة شعارات بالعبرية ولغات غيرها تتضمن كلمات تسيء للسيد المسيح عليه السلام. وفي أحيان أخرى، يقذفونهم بالحجارة(3).

      وفي المقابل تعد القدس من أكثر المناطق والمدن في فلسطين التي تم تفريغها من المؤسسات الفلسطينية – الإسلامية والعلمانية – عبر الكثير من القرارات والإجراءات التي اتخذتها مؤسسات الاحتلال بذرائع وحجج هدفها : « طمس العمل المؤسسي والمدني والاجتماعي الفلسطيني في القدس «!! والمؤسسات التي لم يصيبها داء الإغلاق ، أسهم الجدار العازل في إخراجها من القدس قسراً !! ونقلت مقراتها من القدس وضواحيها لتستطيع تحقيق ولو الجزء اليسير من أهدافها التي أنشأت من أجلها، بعد أن منع أعضائها من الوصول للقدس ممن لا يحمل هوية مقدسية.

      وأدى اليهود دوراً كذلك في تأجيج الصراع بين الطوائف النصرانية في القدس ووقوفه موقف المتفرج في الكثير من المنازعات بينهم  وهذا ما دفع «لتسارع تلك المواقف والوثائق». على الرغم من أن الباحثين والمفكرين في الغرب ومنهم القساوسة هم أدرى الناس ببواطن الشخصية اليهودية الموروثة منذ آلاف السنين . وحديث بعضهم كـ (مارتن لوثر) في كتابه (نفاق اليهود) (4) الذي كشف الغطاء عن أخلاق اليهود وصفاتهم وغرائزهم منذ ما يقارب الخمسمائة سنة وكأنه يحدثنا حديث شاهد عيان عن سلسلة مجازر اليهود من (دير ياسين) إلى حرب غزة وما بينهما من ممارسات وإجرام .

    يقول (مارتن لوثر) (5) عن نظرة اليهود للنصارى»6»:» نحن في نظرهم(غوييم) وثنيون،  ولسنا من طبقة البشر ورتبتنا عندهم رتبة الحشرات» (6). وعن سبهم ووصفهم لعيسى عليه السلام، يقول (لوثر): «علمت أن بعض اليهود يطلقون على السيد – أي المسيح عليه السلام – كلمة (تولا) ومعناها (المجرم المصلوب)».  ثم يعود لوثر ويذكّر القارئ بما جاء في التلمود: «ألم يذكر التلمود ألم يقل الربيون، إنك إذا قتلت وثنياً فليس هذا القتل ذنباً أو جناية، ولكنه يغدو كذلك إذا كان القتيل أخاك من بني إسرائيل (7) .

     وحول اتهامهم مريم عنون كلمته بالآتي (يدعون مريم العذراء بغياً): «وتراهم يطلقون على المسيح (ابن العاهرة)وعلى أمه مريم (العاهرة) -عياذاً بالله – (8) ووصفهم وصفاً صريحاً حيث قال:«ولا نرى في الدنيا من يأتي بمثل هذا إلا الشيطان نفسه»(9).

     إلا أن مواقف البابوات قد تغيرت وتبدلت من اليهود ومعتقداتهم وممارساتهم، وما يهمنا هنا تبيان موقفهم من تهويد القدس وما يجري عليهما من ممارسات صهيونية زورت التاريخ، وطمست المعالم، وضيقت المعيشة على سكانها ،وهدمت المنازل وسحبت الهويات، ولم نسمع صوتاً نصرانياً رسمياً يقف أمام تلك الممارسات والتهويد، بل أن الأصوات الساكتة ساعدت اليهود في المضي قدماً بمشاريعهم المتسارعة لتهويد القدس والاعتداء على المسجد الأقصى.

 الهوامش:

 1- انظر نص الوثيقة العمرية: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، مجير الدين الحنبلي العليمي، تحقيق عدنان أبو تبانه، (1/ 377)، ط1/1999م، مكتبة دنديس – الخليل والأردن.

2- رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في كنيسة القيامة في القدس، وله تاريخ وطني في رفضه للاحتلال والتهويد،  ويعارض ما تقوم به إدارة الكنيسة في القدس التي تعقد صفقات بيع وتأجير لممتلكات ومقدسات الكنيسة

3- صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 3/1/2010م ، تقرير بعنوان: (مستوطنون متزمتون يعتدون على رجال الدين المسيحيين في القدس) .

4- الكتاب بعنوان: (نفاق اليهود) (The Jews and their lies) لمؤلفه بالألمانية الدكتور (مارتن لوثر) زعيم الحركة البروتستانتية في ألمانيا في القرن السادس عشر . طبعته (الحركة الصليبية الوطنية) في لوس أنجلوس سنة 1948م، وخلال مسيرة تلك الحركة قامت طباعة عشرين مرسوماً بابوياً بشأن «اليهود واليهودية»، وامتازت تلك المراسم بصرامة لا تقل عما جاء في كتاب نفاق اليهود لـ (مارتن لوثر).

نقله إلى العربية الأستاذ المؤرخ الباحث (عجاج نويهض), وهو الذي نقل (بروتوكولات حكماء صهيون إلى العربية) وقدم له (شفيق الحوت)، وقامت بطباعته دار الفكر في لبنان.

5- مارتن لوثر هو زعيم الثورة البروتستانتية في ألمانيا في القرن السادس عشر ، ولد سنة 1483م وعاش 63 سنة.

6- وكتابه الذي بين أيدينا وضعه في آخر حياته  بعد ما أوجد لليهود واليهودية حيزاً كبيراً في معتقدات البروتستانتية كشف فيه لوثر عن حقيقة اليهود, وانتهى في رأيه باليهود في ألمانيا في القرن السادس عشر إلى وجوب طردهم وإخراجهم . وهو مؤسس البروتستانتية، حيث طالب بالعودة إلى التوراة العبرانية القديمة باعتبار العبرية هي كلام الله وإعادة قراءة التوراة بطريقة جديدة بالإضافة إلى اعتماد الطقوس اليهودية في الصلاة عوضا عن الطقوس الكاثوليكية المعقدة.

7- لكن (لوثر)  وهو ما لا تتعرض له المصادر النصرانية كثيرا تراجع عن قناعاته تلك وتتجاهل حقيقة عودة مارتن لوثر عن الكثير من مواقفه خاصة تلك المتعلقة باليهود. وكتب في آخر أيامه ذلك الكتاب: «نفاق اليهود» الذي أعرب فيه عن خيبة أمله من اليهود وأقر بالفشل في استقطابهم لعقيدته الجديدة. ورغم ذلك سار أتباعه على خطاه فقام عدد من رجال الدين البروتستانت مثل القس الإنجليزي (جون نلسون داربي) بإعادة قراءة العقائد النصرانية المتعلقة باليهود، ومنحهم مكانة متميزة حتى أصبحت الكنيسة البروتستانتية هي حاملة لواء الصهيونية المسيحية أينما حلت.

8. نبه الناشرون (الحركة الصليبية الوطنية) أنه لا ينبغي لهم في النهاية أن يستنتجوا أن وجهة نظر لوثر فيما يتعلق باليهود هي بالضرورة وجهة نظر البروتستانت، وهناك من البابوية من استعمل لغة صارمة إزاء اليهود كلغة (د. مارتن لوثر) أو بالأحرى أصرم منه, وأضاف الناشرون في مقدمة ترجمتهم للكتاب من الألمانية إلى الإنجليزية: «في الواقع أن إقامة اليهود وسكناهم في حارات أو أحياء خاصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم، كان ذلك بمقتضى مراسم بابوية، وكذلك فصل الجماعات المسيحية عن اليهود كان بمراسيم من بابا روما، والغاية من هذه الملاحظة تنبيه القارئ إلى أن هذه القضية لم تكن يوماً محض بروتستانيتية أو كاثوليكية أو غير ذلك وكثيرون من جميع الأديان وافقوا لوثر وكثير خالفوه». أنظر نفاق اليهود، ص25 .

9- نفاق اليهود ، ص 85 .

(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى